طعام أهل الجنة وشرابهم
سبق أن تحدثنا عن أشجار الجنة وثمارها، وقطوفها الدانية المذللة تذليلاً، واختيار أهل الجنة من ثمارها ما يريدون ويشتهون، وفي الجنة ما تشتهيه الأنفس من المآكل والمشارب ، ( وفاكهة مما يتخيرون * ولحم طير مما يشتهون ) [ الوقعة : 20 – 21]، ( وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين ) [ الزخرف : 71]، وقد أباح الله لهم أن يتناولوا من خيراتها وألوان طعامها وشرابها ما يشتهون ( كلوا واشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية ) [الحاقة: 24].
وذكرنا أيضاً فيما سبق أن في الجنة بحر الماء ، وبحر الخمر ، وبحر اللبن ، وبحر العسل ، وأن أنهار الجنة تنشق من هذه البحار. وفي الجنة عيون كثيرة ، وأهل الجنة يشربون من تلك البحار والأنهار والعيون .
قال تعالى: ( إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافوراً * عيناً بشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا ) [ الإنسان : 5 – 6].
وقال : ( ويسقون فيها كأساً كان من مزاجها زنجبيلاً * عيناً فيها تسمى سلسبيلا ) [الإنسان : 17-18] ، وقال : ( ومزاجه من تسنيم * عيناً يشرب بها المقربون ) [المطففين: 27-28].
المطلب الأول
خمر أهل الجنة
من الشراب الذي يتفضل الله على أهل الجنة الخمر، وخمر الجنة خالي من العيوب والآفات التي تتصف بها خمر الدنيا ، فخمر الدنيا تذهب العقول ، وتصدع الرؤوس ، وتوجع البطون ، وتمرض الأبدان ، وتجلب الأسقام ، وقد تكون معيبة في صنعها أو لونها أو غير ذلك ، أما خمر الجنة فإنها خالية من ذلك كله ، جميلة صافية رائقة ، ( يطاف عليهم بكأس من معين * بيضاء لذة للشاربين * لا فيها غولٌ ولا هم عنها ينزفون ) [ الصافات : 45-47].
لقد وصف الله جمال لونها ( بيضاء ) ثم بين أنها تلذ شاربها من غير اغتيال لعقله، كما قال: ( وأنهار من خمر لذة للشاربين ) [محمد:18] ، ثم إن شاربها لا يمل من شربها ( ولا هم عنها ينزفون ) [ الصافات : 47] ، وقال في موضع آخر يصف خمر الجنة: (يطوف عليهم ولدن مخلدون * بأكواب وأباريق وكأس من معين * لا يصدعون عنها ولا ينزفون ) [ الواقعة : 17-19].
قال ابن كثير في تفسير هذه الآيات : " لا تصدع رؤوسهم ، ولا تنزف عقولهم ، بل هي ثابتة مع الشدة المطربة واللذة الحاصلة ، وروى الضحاك عن ابن عباس أنه قال : في الخمر أربع خصال: السكر ، والصداع ، والقيء ، والبول ، فذكر الله خمر الجنة ، ونزهها عن هذه الخصال ". (1)
وقال الحق في موضع ثالث : ( يسقون من رحيق مختوم * ختامه مسك ) [ المطففين: 25-26]، والرحيق الخمر، ووصف هذا الخمر بوصفين : الأول أنه مختوم ، أي موضوع عليه خاتم . الأمر الثاني : أنهم إذا شربوه وجدوا في ختام شربهم له رائحة المسك.
المطلب الثاني
أول طعام أهل الجنة
أول طعام يُتحِف الله به أهل الجنة زيادة كبد الحوت ، فقد روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة ، يتكفؤها الجبار بيده ، كما يتكفأ أحدكم خبزته في السفر نزلاً لأهل الجنة " فأتى رجل من اليهود ، فقال: بارك الرحمن عليك يا أبا القاسم ، ألا أخبرك بنزل أهل الجنة يوم القيامة ؟ قال: " بلى " قال: تكون الأرض خبزة واحدة كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - فنظر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلينا، ثم ضحك حتى بدت نواجذه ثم قال: " ألا أخبرك بإدامهم ؟ بالام والنون. قالوا: وما هذا ؟ قال : ثور ونون، يأكل من زائدة كبدهما سبعون ألفاً ". (2)
قال النووي في شرح الحديث ما ملخصه: " النزل: ما يعد للضيف عند نزوله، ويتكفأها بيده ، أي: يميلها من يد إلى يد حتى تجتمع وتستوي ، لأنها ليست منبسطة كالرقاقة ونحوها، ومعنى الحديث: أن الله تعالى يجعل الأرض كالرغيف العظيم، ويكون طعاماً ونزلاً لأهل الجنة ، والنون: الثور، والـ (بلام): لفظة عبرانية، معناها: ثور، وزائدة كبد الحوت: هي القطعة المنفردة المتعلقة في الكبد، وهي أطيبها ". (3)
وفي صحيح البخاري أن عبد الله بن سلام سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - أول قدومه المدينة أسئلة منها: " ما أول شيء يأكله أهل الجنة ؟ فقال: زيادة كبد الحوت ". (4)
وفي صحيح مسلم عن ثوبان أن يهودياً سأل الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: " فما تحفتهم حين يدخلون الجنة ؟ " قال : زيادة كبد الحوت ". قال: " فما غذاؤهم على إثرها ؟ قال : ينحر لهم ثور الجنة الذي يأكل من أطرافها ". قال: " فما شرابهم عليه؟ " قال: " من عين تسمى سلسبيلا " قال: صدقت . (5)
المطلب الثالث
طعام أهل الجنة وشرابهم لا دنس معه
قد يتبادر إلى الذهن أن الطعام والشراب في الجنة ينتج عنه ما ينتج عن طعام أهل الدنيا وشرابهم من البول والغائط والمخاط والبزاق ونحو ذلك، والأمر ليس كذلك ، فالجنة دار خالصة من الأذى ، وأهلها مطهرون من أوشاب أهل الدنيا، ففي الحديث الذي يرويه صاحبا الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال نافياً هذا الظن: " أول زمرة تلج الجنة صورتهم على صورة القمر ليلة البدر، لا يبصقون فيها، ولا يمتخطون، ولا يتغوطون فيها ". (6)
وليس هذا خاص بأول زمرة تدخل الجنة، وإنما هو عام في كل من يدخل الجنة ، ففي رواية عند مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أول زمرة تدخل الجنة من أمتي على صورة القمر ليلة البدر، ثم الذين يلونهم على أشد نجم في السماء إضاءة، ثم هم بعد ذلك منازل ، لا يتغوطون، ولا يتبولون، ولا يبزقون ". (7)
فالذي يتفاوت فيه أهل الجنة مما نص عليه في الحديث قوة نور كل منهم، أما خلوصهم من الأذى فإنهم يشتركون فيه جميعاً، فهم لا يتغوطون ولا يتبولون، ولا يتفلون، ولا يبزقون، ولا يمتخطون.
وقد يقال: فأين تذهب فضلات الطعام والشراب، وقد وجه هذا السؤال إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - من قبل أصحابه ، فأفاد أن بقايا الطعام والشراب تتحول إلى رشح كرشح المسك يفيض من أجسادهم، كما يتحول بعض منه أيضاً إلى جشاء، ولكنه جشاء تنبعث منه روائح طيبة عبقة عطرة ، ففي صحيح مسلم عن جارب عبد الله ، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يقول : " إن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون، ولا يتفلون، ولا يتبولون ، ولا يتغوطون، ولا يمتخطون" ، قالوا: فما بال الطعام ؟ قال: جشاء كجشاء المسك ". (8)
المطلب الرابع
لماذا يأكل أهل الجنة ويشربون ويمتشطون ؟
إذا كان أهل الجنة فيها خالدون، وكانت خالية من الآلام والأوجاع والأمراض، لا جوع فيها ولا عطش، ولا قاذورات ولا أوساخ، فلماذا يأكل أهل الجنة فيها ويشربون، ولماذا يتطيبون ويمتشطون ؟
أجاب القرطبي في التذكرة عن هذا السؤال قائلاً : " نعيم أهل الجنة وكسوتهم ليس عن دفع ألم اعتراهم، فليس أكلهم عن جوع، ولا شربهم عن ظمأ، ولا تطيبهم عن نتن، وإنما هي لذات متوالية، ونعم متتابعة، ألا ترى قوله تعالى لآدم : ( إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى * وإنك لا تظمؤا فيها ولا تضحى ) [ طه : 118-119]. وحكمة ذلك أن الله تعالى عرفهم في الجنة بنوع ما كانوا يتنعمون به في الدنيا، وزادهم على ذلك ما لا يعلمه إلا الله عز وجل ". (9)
المطلب الخامس
آنية طعام أهل الجنة وشرابهم
آنية طعام أهل الجنة ، التي يأكلون ويشربون بها من الذهب والفضة، قال تعالى: ( يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب ) [الزخرف: 71] ، أي وأكواب من ذهب ، وقال : ( ويطاف عليهم بئانية من فضة وأكواب كانت قواريرا * قواريرا من فضة قدروها تقديرا ) [الإنسان: 15-16]، أي اجتمع فيها صفاء القوارير وبياض الفضة.
وقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن للمؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة .. وجنتان من فضة ، آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما ". (10)
ومن الآنية التي يشربون بها الأكواب والأباريق والكؤوس ( يطوف عليهم ولدن مخلدون * بأكواب وأباريق وكأس من معين ) [الواقعة : 17]، والكوب : ما لا أذن له ولا عروة ولا خرطوم ، والأباريق : ذوات الآذان والعرا ، والكأس القدح الذي فيه الشراب.
لباس أهل الجنة وحليهم ومباخرهم
أهل الجنة يلبسون فيها الفاخر من اللباس ، ويتزينون فيها بأنواع الحلي من الذهب والفضة واللؤلؤ ، فمن لباسهم الحرير، ومن حلاهم أساور الذهب والفضة واللؤلؤ : قال تعالى: ( وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا ) [ الإنسان : 12]، ( يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤاً ولباسهم فيها حرير ) [ الحج : 23]، ( جنات عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤاً ولباسهم فيها حرير ) [فاطر: 33]، ( وحلوا أساور من فضة وسقاهم ربهم شراباً طهورا ) [الإنسان:21].
وملابسهم ذات ألوان، ومن ألوان الثياب التي يلبسون الخضر من السندس والإستبرق ( يحلون فيها من أساور من ذهب ويلبسون ثياباً خضراً من سندس وإستبرق متكئين فيها على الأرائك نعم الثواب وحسنت مرتفقا ) [ الكهف : 31]، ( عاليهم ثياب سندس خضر وإستبرق وحلوا أساور من فضة ) [ الإنسان: 21].
ولباسهم أرقى من أي ثياب صنعها الإنسان ، فقد روى البخاري في صحيحه عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: " أتى الرسول - صلى الله عليه وسلم - بثوب من حرير، فجعلوا يعجبون من حسنه ولينه ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أفضل من هذا ". (1)
وقد أخبرنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن لأهل الجنة أمشاطاً من الذهب والفضة، وأنهم يتبخرون بعود الطيب، مع أن روائح المسك تفوح من أبدانهم الزاكية، ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - في صفة الذين يدخلون الجنة: " آنيتهم الذهب والفضة، وأمشاطهم الذهب، ووقود مجامرهم الألوّة – قال أبو اليمان: عود الطيب – ورشحهم المسك ". (2)
ومن حليهم التيجان ، ففي سنن الترمذي ابن ماجة عن المقدام بن معدي كرب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذكر الخصال التي يُعطاها الشهيد: " ويوضع على رأسه تاج الوقار، الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها ". (3)
وثياب أهل الجنة وحليهم لا تبلى ولا تفنى ، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال : "من يدخل الجنة ينعم لا يبأس، لا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه " . (4)
--------------------------------
فرش أهل الجنة
أعدت قصور الجنة ، وأماكن الجلوس في حدائقها وبساتينها بألوان فاخرة رائعة من الفرش للجلوس والاتكاء ونحو ذلك ، فالسرر كثيرة راقية والفرش عظيمة القدر بطائنها من الإستبرق، فما بالك بظاهرها، وهناك ترى النمارق مصفوفة على نحو يسر الخاطر، ويبهج النفس، والزرابي مبثوثة على شكل منسق متكامل ، قال تعالى: ( فيها سرر مرفوعة * وأكواب موضوعة * ونمارق مصفوفة * وزرابى مبثوثة ) [ الغاشية : 13-16] ، ( متكئين على فرش بطائنها من إستبرق ) [الرحمن : 54]، ( متكئين على سرر مصفوفة وزوجناهم بحور عين ) [ الطور: 20]، ( ثلة من الأولين * وقليل من الأخرين * على سرر موضونة * متكئين عليها متقابلين ) [الواقعة: 13-16].
واتكاؤهم عليها على هذا النحو نوع من النعيم الذي يتمتع به أهل الجنة حين يجتمعون كما أخبر الله تعالى: ( ونزعنا ما في صدورهم من غل إخواناً على سرر متقابلين ) [ الحجر : 47] وقال: ( متكئين على رفرف خضر وعبقري حسان ) [الرحمن: 76]، (متكئين فيها على الأرائك ) [ الكهف: 31]. والمراد بالنمارق : المخاد ، والوسائد: المساند ، والزرابي : البسط ، والعبقري : البسط الجياد. والرفرف: رياض الجنة. وقيل: نوع من الثياب، والأرائك: السرر.
خدم أهل الجنة
يخدم أهل الجنة ولدان ينشئهم الله لخدمتهم، يكونون في غاية الجمال والكمال، كما قال تعالى: ( يطوف عليهم ولدان مخلدون* بأكواب وأباريق وكأس من معين ) [الواقعة: 17-18]، وقال في موضع آخر : ( ويطوف عليهم ولدان مخلدون إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤاً منثورا ) [ الإنسان: 19].
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: " يطوف على أهل الجنة للخدمة ولدان من ولدان أهل الجنة ( مخلدون ) أي : على حالة واحدة مخلدون عليها، لا يتغيرون عنها، لا تزيد أعمارهم عن تلك السن، ومن فسرهم بأنهم مخرصون، في آذانهم الأقرطة، فإنما عبر عن المعنى، لأن الصغير هو الذي يليق له ذلك دون الكبير. وقوله تعالى: ( إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤاً منثورا ) [الإنسان: 19]، أي إذا رأيتهم في انتشارهم في قضاء حوائج السادة وكثرتهم وصباحة وجوههم وحسن ألوانهم وثيابهم وحليهم، حسبتهم لؤلواً منثوراً، ولا يكون في التشبيه أحسن من هذا ، ولا في المنظر أحسن من اللؤلؤ المنثور على المكان الحسن". (1)
وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن هؤلاء الولدان هم الذين يموتون صغاراً من أبناء المؤمنين أو المشركين، وقد رد العلامة ابن تيمية رحمه الله تعالى هذا القول ، وبين أن الولدان المخلدون هم خلق من خلق الجنة قال: " والولدان الذين يطوفون على أهل الجنة : خلق من خلق الجنة ليسوا من أبناء الدنيا ، بل أبناء أهل الدنيا إذا دخلوا الجنة كمل خلقهم كأهل الجنة، على صورة أبيهم آدم ". (2)