[c]
ماشاء الله الموضوع بدأ يتفاعل ويثمر
وحبيت أشارك برسام فرنسا الكبير جورج سيراه مبتدع التائثيرية الحديثة
ولد الفنان التشكيلي الفرنسي "جورج سيراه" في باريس عام 1859 وكان والده يعمل خادماً في المحكمة، و لم يكن بين أفراد عائلته من سبق له الاشتغال بالفن.
ومع هذا اختار دراسة فن التصوير الزيتي عندما بلغ سن التاسعة عشرة والتحق بمدرسة الفنون الجميلة.. حيث أمضي عامين كاملين في دراسة الأسلوب التقليدي في الرسم على يد أستاذ بارع من أقطاب الاتجاه الكلاسيكي الجديد..
ثم راح يتدرب على الرسم بالخطوط لمدة عامين آخرين من سنة 1881 حتى 1883 في تلك الفترة كان "جورج سيراه" يسعى إلى اكتشاف أسرار الجمال في أعمال الفنانين السابقين عليه أمثال "فيرونيز" و "آنجر" و "يوجين ديلاكروا" حيث كان يعتقد أن دراسة ونقل الروائع الفنية القديمة المعروضة بمتحف "اللوفر" ستجعله يتوصل إلى اكتشاف أسرار الجمال في تلك اللوحات ، وكانت تشغله قضية استخدام الألوان المتضادة مع تحقيق التوافق بينها في نفس الوقت..
ولم يكن يشعر بالضجر من هذا النوع من التعليم وما يتطلبه من مران ممل متواصل بل على العكس فقد اتفقت هذه الدراسة مع طبيعته المثابرة الرزينة وتفكيره المنهجي العلمي المرتب ، كما اتجه أيضاً إلى التوسع في دراسة الطرق المختلفة في فن الرسم وعلم البصريات وكيمياء الأصباغ ..
أهتم "سيراه" بالألوان وحدها في لوحاته كما في لوحات أقطاب المذهب "التأثيري" أمثال "كلودمونيه" و "أوجست رينوار" و غيرهما ممن حرصوا على نقل مظهر الأشياء من خلال تسجيل انعكاس الأضواء الساقطة عليها ، ومع تحليل هذه الأضواء إلى عناصرها اللونية الأولية التي تتبدى لنا في ألوان قوس قزح.
و رغم اعتماد المذهب التأثيرى على الجانب العلمي في تحليل الأضواء إلا أن لوحات التأثيريين تنعقد إلى تماسك البناء وتبدو الأشكال التي يرسمونها خفيفة و أقل استقراراً مما هي في لوحات الفنانين السابقين عليهم من الفنانين الكلاسيكيين.
و لهذا اعتنى "جورج سيراه" بعمق المنظر أي البعد الثالث الذي كان التأثيريون قد أغفلوه تماماً، و إن كان يظهر إلى حد ما في لوحاتهم بوصفه نتيجة حتمية لتسجيل الأضواء والظلال .. بينما كان هذا الفنان في تأثريريته الجديدة يحسب بالمليمتر مكان كل نقطة صغيرة من اللون في تحديده لأوضاع الأشخاص والأشياء بالنسبة إلى بعضها البعض في جوف اللوحة .. حتى يتاح لعين المشاهد أن تنظر إلى البعيد الأبعد والأكثر بعداً حتى تختفي الأشكال في أعماق الأفق .. وهكذا أعاد "سيراه" إلى الأجسام كثافتها بعد أن أوشكت على الإفلات من أيدي التأثريين بسبب حصر اهتمامهم في نقل الصورة السطحية العابرة التي تتراءى للعين عند اللمحة الخاطفة و قد نجح في ذلك دون التضحية بشيء مما في ألوان التأثيريين من رونق و بهجة.
إلا أن الكثافة التي تتميز بها الأجسام في لوحات "سيراه" قد اقترنت بتفكيك هذه الأجسام وتفتيتها إلى جزيئات من الألوان ..
وكان "سيراه" يعارض مذهب التاثريين فيما يتعلق بالتلقائية.. على اعتبار أنها لا تصلح إلا للرسوم التخطيطية السريعة.. فكان ينسق الأشكال والخطوط في لوحاته تنسيقاً دقيقاً بحيث ينسجم كل عنصر منها مع غيره من العناصر انسجام النغمات في اللحن الموسيقي.
و مع هذا فقد كانت رسومه في المرحلة الأولي تتصف بالدقة الكلاسيكية كما برع في اللوحات التخطيطية المرسومة بأصابع اللون الأسود "الكونتيه"، و قد تقدم بإحدى لوحات تلك المرحلة إلى صالون "باريس" فعرضت بهذا المعرض الحكومي السنوي في عام 1883 وكان "سيراه لم يتجاوز بعد سن الثالثة والعشرين.
و لكنه عندما بدا تطبيق الأسلوب الذي اتبعه ويسمي بالأسلوب "التنقيطي" أو "التقسيمي" وهو عبارة عن ملايين النقط الصغيرة الملونة المتجاورة، و كل نقطة فيها تتكون من لون نقي من أحد الألوان الأساسية الثلاثة وهي الأحمر والأزرق والأصفر، بالإضافة إلى نقط أصغر حجماً من أحد اللونين الأبيض أو الأسود.. أما الألوان المختلطة الخضراء والبنفسجية والبرتقالية، و كذلك التدرجات اللونية .. فقد حرض على أن يترك المشاهد ليحققها بنفسه عندما تتداخل هذه النقط المتجاورة أمام ناظريه و تمتزج في عملية فيزيائية داخل شبكية كل عين تنظر إلى اللوحة "في أولى لوحاته الزيتية الكبيرة "المستحمات" وتقدم بها إلى صالون عام 1884 فإن لجنة التحكيم رفضت عرضها على الفور .. فأعلن الحرب على تلك اللجنة.
راح يدعو ضد دكتاتورية أكاديمية الفنون و تعنتها، و اشترك مع زميله "بول سينياك" الذي ساهم معه في ابتداع التنقيطية ومذهب التأثيرية الجديدة تحت قيادة الفنان "أوديلون ريدون" في تأسيس جماعة "المرفوضين" التي بدأت منذ ذلك التاريخ في تنظيم صالون سنوي آخر يستطيع أن يعرض فيه أي فنان بدون لجان تحكيم وبلا تحكم وأطلقوا عليه اسم "صالون المستقلين الذي يقام سنوياً في باريس حتى الآن، وقد عرض "سيراه" لوحته المرفوضة "المستحمات" في المعرض الأول لهذه الجماعة.
و رغم ما قوبل به "صالون المستقلين" من استنكار من جانب النقاد والسخرية من الجمهور إلا أن لوحة "جورج سيراه" لفتت نظر أحد كبار النقاد في ذلك الوقت وهو "فليكس فينيون" الذي أدرك ما في أسلوب "سيراه" من قيمة فائقة فانبرى للدفاع عنها و عن صاحبها من ذلك الحين حتى اقنع الجميع بقيمته و أهمية أعماله..
أما جماعة التأثريين التي تكونت عام 1874 فقد بدأت تدب بين أعضائها عوامل الشقاق و التفرق رغم أن الجمهور الفرنسي كان قد بدأ يتعاطف مع اتجاهها بعد مرور عشر سنوات على إنشائها، و لكي يواجه زعماء التأثرية ظروف الخلاف بين أقطابها اقترح أحدهم ضم "جورج سيراه" و "بول سينياك" اللذين اختارهما من بين عشرات الأتباع والمقلدين الذين أقبلوا على ممارسة الرسم بالأسلوب التأثيرى كما ابتدعه "كلودمونيه" و "رينوار" و زملائها..
و قد عرض سيراه لوحته الكبيرة بعد ظهر يوم الأحد بجزيرة لاجرندجات عام 1886 في المعرض الثامن والأخير لجماعة التاثريين ليعلن بذلك مولد "التأثيرية الجديدة" أو ظهور التنقيطية والتقسيمية في فن الرسم.
و قد بلغ ولع "سيراه" بدقة التحليل والقياس إلى الحد الذي دفعه إلى وضع قواعد ثابتة لوقع الألوان المختلفة على النفس وآثر اتجاهات الخطوط في استثارة الانفعالات، ومن بين هذه القواعد أن البهجة تتحقق من الألوان الناصعة الدافئة والخطوط الصاعدة إلى أعلى من خط الأفق .. أما الهدوء فيتحقق بتوازن درجات اللون الباردة والدافئة مع الخطوط الأفقية في اللوحة .. بينما الكآبة تتسبب في الألوان القاتمة الباردة والدافئة مع الخطوط الهابطة إلى أسفل من خط الأفق ..
إلا أن وفاة "سيراه الفجائية في 21 مارس 1891 وهو لم يتجاوز بعد سن الثانية والثلاثين قد منعته من استكمال عمله الأخير "السيرك" والذي تركه ناقصاً ليعرض حالياً في متحف التأثريين بجوار متحف "اللوفر" في "باريس".
وهذه إحدى لوحاته![]()
[/c]