أَيُّهَا الإخوة الكرام ، تَذهَبُ إِجَازَةٌ وَتجيءُ أُخرَى، وَتَنتَهِي عُطلَةٌ وَتَبدَأُ ثَانِيَةٌ،
وَعِندَ إِقبَالِ كُلِّ وَاحِدَةٍ يُمَنِّي المَرءُ نَفسَهُ بِأَمَانِيَّ كَثِيرَةٍ،
وَيَعِدُهَا بِمَوَاعِيدَ مُختَلِفَةٍ، ذَاكَ يَأمَلُ حِفظَ القُرآنِ أَو مَا تَيَسَّرَ مِنهُ،
وَهَذَا يَضَعُ في بَرنَامجِهِ أَن يَقرَأَ كِتَابًا أَو يَستَمِعَ لِدُرُوسٍ في أَشرِطَةٍ،
وفي النَّاسِ مَن يُخَطِّطُ لِحُضُورِ دَورَاتٍ شَرعِيَّةٍ أَو عِلمِيَّةٍ أَو مَهَارِيَّةٍ،
وَفِيهِم مَن يُسَافِرُ بِخَيَالِهِ قَبلَ بَدَنِهِ، وَيُمَتِّعُ خَاطِرَهُ بِقَضَاءِ سَفَرٍ دَاخِلِيٍّ أَو خَارِجِيٍّ،
وَيُعِدُّ العُدَّةَ وَيَجمَعُ المَالَ وَيَعِدُ الرِّفَاقَ، وَتَبدَأُ الإِجَازَةُ وَتَستَمِرُّ
وَيَتَوَالى مُرُورُ أَيَّامِهَا يَومًا بَعدَ يَومٍ، وَيَتَتَابَعُ تَصَرُّمُ لَيالِيهَا لَيلَةً بَعدَ أُخرَى
فَإِذَا بِالأَهدَافِ التي وُضِعَت تَتَبَدَّدُ، وَإِذَا بِالأَمانيِّ التي عُقِدَت تَتَنَاثَرُ
وَتَنقَضِي الإِجَازَةُ وَمَا قَضَى مُرِيدٌ مُرَادَهُ، وَتَضِيعُ وَمَا حَصَّلَ مُتَمَنٍّ مَا تَمَنَّى
أَفَلَم يُفَكِّرْ أَحَدُنَا بِجِدٍّ في هَذَا الوَاقِعِ المُرِّ مَرَّةً وَيُسَائِلُ نَفسَهُ
: لماذا لا يَتَغَيَّرُ وَاقِعِي مِن سَيِّئٍ إِلى حَسَنٍ وَمِن حَسَنٍ إِلى أَحسَنَ؟
! لماذا لا أَستَفِيدُ مِنَ الإِجَازَةِ وَأَستَثمِرُ فَرَاغِي؟!
لماذا تَضِيعُ الأَيَّامُ عَلَيَّ سُدًى وَيَذهَب وَقتي هَدَرًا؟!
إِنْ كَانَ قَد طَرَأَ عَلَيكَ مِثلُ هَذِهِ التَّسَاؤُلاتِ ـ أَخي المُسلِمَ ـ
فَاعلَمْ أَنَّ ذَلِكَ أَوَّلُ بِدَايَةٍ لِسَيرِكَ في الطَّرِيقِ الصَّحِيحِ
وَإِن لم تُفَكِّرْ يَومًا مِثلَ هَذَا التَّفكِيرِ فَاعلَمْ أَنَّ قَلبَكَ مَيِّتٌ فَاسأَلِ اللهَ أَن يَبعَثَهُ
أَو مَرِيضٌ فَادعُ اللهَ أَن يَشفِيَهُ. قال : صلى الله عليه وسلم
((خَيرُ النَّاسِ مَن طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ، وَشَرُّ النَّاسِ مَن طَالَ عُمُرُهُ وَسَاءَ عَمَلُهُ))
، وقال عليه الصلاةُ وَالسَّلامُ: ((اِغتَنِمْ خمسًا قَبلَ خمسٍ: شَبَابَكَ قَبلَ هَرَمِكَ
وَصِحَّتَكَ قَبلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبلَ فَقرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبلَ شُغلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبلَ مَوتِكَ)).
أَلَيسَ مِنَ الخُسرَانِ أَنَّ لَيَالِيًا ** تَمُرُّ بِلا نَفعٍ وَتُحسَبُ مِن عُمرِي
أَيُّها الإِخوَةُ، إِنَّ لاستِغلالِ الإِجَازَةِ طُرُقًا وَأَسَالِيبَ كَثِيرَةً
وَلِضَيَاعِهَا أَسبَابٌ مُتَعَدِّدَةٌ، فَمَن سَلَكَ الطُّرُقَ الصَّحِيحَةَ
وَاتَّبَعَ الأَسَالِيبَ المُثلَى وَاستَقبَلَ وَقتَهُ بِالجِدِّ مِن أَوَّلِهِ
وَبَكَّرَ وَبَادَرَ أَوشَكَ أَن يَستَفِيدَ وَيَصِلَ إِلى مُرَادِهِ
وَمَن أَخَذَ بِأَسبَابِ الضَّيَاعِ وَسَوَّفَ وَأَجَّلَ وَتَقَاعَسَ وَتَأَخَّرَ فَلَن يَجنيَ إِلاَّ الضَّيَاعَ.
إِذَا أَنـتَ لم تَستَقبِلِ الأَمرَ لم تَجِدْ * بِكَفَّيـكَ في إِدبَـارِهِ مُتَعَلَّقـا
إِنَّ الوَقتَ لا يَتَوَقَّفُ، وَإِنَّ العُمرَ في ازدِيَادٍ
وَإِنَّ الأَجَلَ يَقرُبُ وَيَدنُو، وَالمَوتُ بِالمِرصَادِ لا يغفلُ
((قُلْ إِنَّ المَوتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُم ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى
عَالِمِ الغَيبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُم تَعمَلُونَ.))
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، إِنَّ أَبنَاءَنَا في الإِجَازَةِ يَعِيشُونَ فَرَاغًا كَبِيرًا
وَيَتَقَلَّبُونَ سَاعَاتٍ طِوَالاً لا يَجِدُونَ فِيهَا مَا يَشغَلُهُم
وَإِنَّهُ يَجِبُ أَن نَعلَمَ أَنَّ هَذَا الفَرَاغَ جُزءٌ مِن أَعمَارِهِم وَحَجَرٌ في بِنَاءِ ثَقَافَتِهِم
إِنْ لم يُستَثمَرْ فِيمَا يَنفَعُهُم وَيَعُودُ عَلَيهِم بِالفَائِدَةِ في دُنيَاهُم
وَآخِرَتِهِم فَإِنهم سَيَقضُونَهُ فِيمَا يَضُرُّهُم في دِينِهِم وَأَخلاقِهِم
وَقَد صَحَّ عنه أَنَّهُ صلى اله عليه وسلم قال:
((نِعمَتَانِ مَغبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالفَرَاغُ))
وَمَعنى كَونِ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ مَغبُونِينَ في هَاتَينِ النِّعمَتَينِ
أَنهم لا يُحسِنُونَ استِعمَالَهُمَا فِيمَا يَنبَغِي
وَلا يَشكُرُونَ اللهَ جل وعلا عَلَيهِمَا الشُّكرَ الوَاجِبَ
ذَلِكَ أَنَّ الإِنسَانَ قَد يَكُونُ صَحِيحًا وَلَكِنَّهُ مَشغُولٌ
وَقَد يَكُونُ فَارِغًا لَكِنَّهُ مَرِيضٌ، وَأَمَّا إِذَا اجتَمَعَ لَهُ
الصِّحَّةُ وَالفَرَاغُ فَقَد جمع نِعمَتَينِ مِن أَجَلِّ النِّعَمِ
التي يَستَعِينُ بها العَبدُ على العَمَلِ لآخِرَتِهِ وَالتَّقَرُّبِ لِرَبِّهِ
فَإِذَا غَلَبَ عَلَيهِ الكَسَلُ عَنِ الطَّاعَةِ وَالحَالُ هَذِهِ أَو استَعمَلَ
تِلكَ النِّعمَتَينِ في المَعصِيَةِ وَالضَّيَاعِ فَهُوَ المَغبُونُ حَقًّا
لأَنَّ الفَرَاغَ يَعقُبُهُ الشُّغلُ، وَالصِّحَّةُ يَعقُبُهَا السَّقَمَ أُوِ الهَرَمُ.
أَيُّهَا الفضلاء "لا يَحسُنُ بِمَن مَطِيَّتُهُ الأَيَّامُ أَن يَنَامَ
ذَلِكَ أَنها سَائِرَةٌ بِهِ وَإِنْ لم يَسِرْ، مُتَحَرِّكَةٌ وَإِن هُوَ تَوَقَّفَ
وَمِن هُنَا كَانَ لِزَامًا عَلَى المَرءِ أَن يجعَلَ لِكُلِّ يَومٍ عَمَلاً يُنجِزُهُ
وَأَن يُخَصِّصَ لِكُلِّ سَاعَةٍ مُهِمَّةً يَقضِيهَا، وَإِلاَّ ضَاعَت عَلَيهِ الغَنَائِمُ وَالفُرَصُ
وَتَجَرَّعَ الآلامَ وَالغُصَصَ، وَإِنَّهُ مَا آفَةٌ تَأكُلُ الوَقتَ وَتُذهِبُهُ
في غَيرِ فَائِدَةٍ مِثلُ آفَةِ التَّسوِيفِ وَالتَّأجِيلِ، حَيثُ يُؤَجِّلُ المَرءُ عَمَلَ اليَومِ إِلى الغَدِ
فَإِذَا جَاءَ الغَدُ اجتَمَعَ عَلَيهِ عَمَلانِ أَو أَكثَرُ، فَإِنْ هُوَ بَدَأَ بِأَحَدِهِمَا
فَقَد يَكِلُّ وَيَمَلُّ قَبلَ أَن يَأتيَ دَورُ الآخَرِ، وَإِذَا هُوَ تَحَامَلَ
عَلَى نَفسِهِ وَجَمَعَ عَلَيهَا العَمَلَينِ أَرهَقَهَا، فَطَلَبَتِ الرَّاحَةَ في اليَومِ الذِي بَعدَهُ
فَأَضَاعَ عَمَلَ ذَلِكَ اليَومِ، وَمِن هُنَا كَانَ عَلَيهِ تَرتِيبُ وَقتِهِ
وَإِشغَالُ نَفسِهِ وَمُصَاحَبَةُ مَن يُعِينُهُ عَلَى ذَلِكَ وَتَجَنُّبُ
الفَارِغِينَ البَطَّالِينَ الذِينَ لا يُؤَدُّونَ وَاجِبًا وَلا يَحفَظُونَ وَقتًا.
إِنَّ في الإِجَازَةِ لَفُرَصًا لِمَن أَرَادَ لأَبنَائِهِ الخَيرَ
فهُنَاكَ الدَّورَاتُ المُكَثَّفَةُ لِحِفظِ القُرآنِ في بَعضِ الجَوَامِعِ وَالمَسَاجِدِ
وَثَمَّةَ دَورَاتٌ عِلمِيَّةٌ شَرعِيَّةٌ وَمُلتَقَيَاتٌ شَبَابِيَّةٌ دَعَوِيَّةٌ
وَمَكَاتِبُ الدَّعوَةِ وَالجَمعِيَّاتُ الخَيرِيَّةُ مُفَتَّحَةُ الأَبوَابِ لِمَن أَرَادَ
التَّعَاوَنَ مَعَهَا في مَنَاشِطِهَا، وَفَضَلاً عَن هَذَا فَإِنَّ في الأَعمَالِ
الدُّنيَوِيَّةِ المُبَاحَةِ مِن تِجَارَةٍ أَو زِرَاعَةٍ أَو صِنَاعَةٍ أَو مِهَنٍ أَو حِرَفٍ
أَو تِقنِيَاتٍ، إِنَّ فِيهَا لَمَندُوحَةً عَنِ البَطَالَةِ وَالكَسَلِ
فَمَا عَلَى الأَبِ إِلاَّ أَن يَلتَفِتَ يَمنَةً أَو يَسرَةً وَيَطلُبَ لابنِهِ
مَا يُنَاسِبُهُ وَيُلحِقَهُ بِعَمَلٍ يَنفَعُهُ وَيَشغَلُ وَقتَهُ عَمَّا يَضُرُّهُ وَيُفسِدُهُ.
أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ، وَالعَصرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسرٍ
إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوا بِالحَقِّ وَتَوَاصَوا بِالصَّبرِ.
فَاتَّقُوا اللهَ أَيُّهَا الآبَاءُ مَا استَطَعتُم، وَابذُلُوا جُهدَكُم يُهَيِّئْ لَكُم
رَبُّكُم مِن أَمرِكُم رَشَدًا ويُصلِحْ لكم
أَمَّا أَن يَبذُرَ الرَّجُلُ ثم لا يَسقِيَ وَيَغرِسَ
وَلا يَعتَنيَ فَمَا أَشَدَّ خَسَارَتَهُ وَلَو بَعدَ حِينٍ!
وَمَن بَذَرَ البُذُورَ وَمَا سَقَاهَا *** تَأَوَّهَ نَادِمًا يَومَ الحَصَـادِ
منقول من خطبة جمعة بتصرف