دَعـيني مِـنْ أماسـيك ِ العِـذاب ِ

فما أبْقى التغـرّبُ من شــبابي


قلبْتُ موائدي ورمَيْتُ كأسـي

وشيّعْتُ الهوى ورتجْتُ بابي


خَـبَـرْتُ لذائذ َ الدنيا فــكانتْ

أمَرَّ عليَّ من سَـمّ ٍ وصـاب ِ (1)


وجَدْتُ حَلاوةَ الإيمان أشهى

وأبْقى من لماكِ ومن إهابي (2)


أنا جُرْحٌ يسـيرُ عـلى دروب ٍ

يتوه بها المُصيبُ عن الصواب


سُـلِبْتُ مسرّتي واسْـتفرَدَتني

بِدار ِ الغربتين ِمِدى ارتيابي


وحاصَرَتِ الكهولة َ بعدَ وَهْن ٍ

يـَدُ النكبات ِ جائعَة َ الحِـراب ِ


ومـا أبْـقـتْ ليَ الأيّــــام ُ إلآ

حُـثالـتها بإبْــريق ٍ خَــراب ِ


ترشفتُ اللظى حين اصطباحي

وأكمَلتُ اغتِباقي بالضـباب ِ


تحَرِّضُني على جرحي طيوفٌ

فأنْـبِـِشُــهـا بسـكِـيـني ونابي


ورُبَّ لذاذة ٍ أوْدَتْ بِـنـَفـس ٍ

وحِرمان ٍ يقودُ إلى الطِلاب ِ


أنا البَدَويّ .. لا يُغري نياقي

رُخامُ رُبىً وناطِحة ُالسحاب


ولا يُغوي صُداحَ فمي وقلبي

سوى عزفِ السّواني والرَّبابِ(3)


ودلـّةِ قهوة ٍ ووجاق ِ جَـمْـر ٍِ(4)

تحلـّقَ حولهُ لـيلا ً صحابي


وبيْ شوق ٌ إلى خبز ٍ وتمْـر ٍ

كما شوق الضرير إلى شهاب ِ


وللبَن ِِ الخضيض ِوماء كوز ٍ(5)

وظلّ حصيرة ٍ في حـَرِّ آب ِ


فـُطِرْنا قانعين بِفـَقـر ِ حال ٍ

قناعة َ ثغر ِ زِقّ ٍ بالحباب ِ(6)


أبٌ صلى وصام وحجّ خمسا ً

وأمٌّ لا تـقوم عـن " الكتاب ِ "


وأطـفـالٌ ثـمانية ٌ... أنابــوا

عن الدنيا فراشات ِ الرّوابي


ألا يا أمس : أين اليومَ مني

صباحات ٌ مُشعْشِعَة ُ القِباب ِ؟


وفانوسٌ خجولُ الضوء تخبو

ذبالـتـُهُ فـيُسْـرجُها عِـتابي ؟


وأين شقاوتي طفلا ً عـنيدا ً

أبى إلآ مُـراكضة َ السّراب ِ ؟


أُشاكِسُ رِفقتي زهوا ً بريئا ً

ومن "خيشٍ وجنفاصٍ" ثيابي(7)


ألوذ بحضن ِ أمي خوفَ ذئب ٍ

عوى ليلا ً ورعبا من عُقاب ِِ؟


كبرتُ وما يزال الخوفُ طفلا ً

وقد صار الفراقُ إلى ذِئاب ِ !!


يُشاكسُ خطوتي دربٌ طويل ٌ

فـعَـزَّ عـليَّ يــا أمـي إيابي


وعـزَّ على يديك ِ تمسُّ وجهي

لتمسَحَ عـنه ذلَّ الإغـتِراب ِ


وعاقبني الزمان ُ! وهل كنأي ٍ

بعيد ٍ عن بلادي من عِقاب ِ ؟؟


تقاسَمَتِ المنافي بعضَ صحبي

وبعـضٌ ألحَدَتـْهُ يـدُ الغـياب (8)


عشقت ُ ديارَ ليلى قبل َ ليلى

فمِن ْ رَحِمِ الصِّبا وُلِدَ التصابي


ولسـتُ بـِمُبْدِل ٍ كأسا ً بكوز ٍ

ولا لهوا ً بعِفـّة ِ" ذي نِقاب ِ "


ولكـن شاءتِ الأيــامُ مـني

وشاء جنونُ طيشي من لُبابي


ولولا خشيتي من سوء ِ ظن ّ ٍ

وما سيُقالُ عن فقدي صَوابي


لقلت ُ : أحِـنُّ يا بغـدادُ حتى

ولو لصدى طنين ٍ من ذبابِ


لطين ٍفي الفرات وضُنك عيش ٍ

جوارَ أبي المـُدَثر ِ بالتـراب ِ


جـوارَِ أُخـيَّـة ِ.. وأخ ..ٍ وأمّ ٍ

وأحْباب ٍ يُعَـذبُهـم عــذابـي


أظلُّ العاشق َالبدويّ.. أهـفـو

إلى نخل ٍ وللأرض ِ الرَّغاب ِ(9)



إذا كان العراقُ رغيفَ روحي

فإنّ ندى مـحبتكم شــرابــي !!

**




(1) الصاب :نبت شديد المرارة

(2) الإهاب : الجلد لم يدبغ بعد

(3) السواني : جمع سانية : لآلة بدائية لرفع الماء من البئر

(4) الوجاق :موقد الحطب

(5)اللبن الخضيض : اللبن الذي تستخلص زبدته بواسطة الخض في قربة .

(6) الحباب : الفقاقيع التي تعلو الماء

(7) الخيش والجنفاص : نسيج خشن من الكتان شاع استعماله في العراق قبل عقود

(8) ألحدته : دفنته في اللحد

(9)الرغاب : الارض التي تشرب تشرب الكثير من ماء المطر فلا تسيل " كناية عن البادية "