في الدور الرابع أسكن. أعيش وحيداً. لا شيئ لدي يمكن عمله. أفتح النافذة. الى لاشيئ أنظر. أغلق النافذة. أخلع ملابسي. أتعرى. أقف أمام المرآة عارياً. خرجنا الى الحياة عراة. ماأجمل ان يكون الانسان عارياً. أتساءل أمام المرآة لماذا زيفّنا حياتنا؟ هل تسيرنا الحياة؟ ام نسيّرها؟ هل الحياة زيف؟
أفتح النافذة. أطل على غرفتي. جارتي أمام مخزن الملابس تقف بدون زيف. أنظر باندهاش. تغريني موخرتها. هاتفي يرن. يزعجني صوت الهاتف. أتجاهل. يصر. أبصق. ألعن. أرد. يتسلل صوتها عبر الهاتف. خدر يدب في جسدي. منظر جارتي لازال عالقاً في ذهني. تعاتبني على تأخري في الرد. تغضب. أغضب. نتشاتم. نتصالح. نتواعد مساءأً في مقهى النور. تنهي محادثتها. أعود سريعاً الى النافذة. جارتي أغلقت نافذتها. ظلام كثيف أمامي. متوتر أنا. ألفرصة التي تأتي لا تعود أبداً. أزداد توتراً. أبكي وأنهار على سريري.
لا أدري كم مضى من الوقت قبل افاقتي، لكنني افقت. أمامي أربع ساعات على موعدي. على أن أشغلها بالجلوس في غرفتي. فتحت النافذة. جارتي ماتزال تغلق نافذتها. ربما كانت تصلي او تمارس الجنس مع صديق أو زوج، لا فرق، المهم أن تشبع رغبتها.
أخذت حماماً سريعا.ً لبست ملابسي. خرجت. كتبت على باب غرفتي (مغلق للصلاة). تسكعت قليلاً في بهو الفندق. يعج البهو بالحركة. الكل عاشق. فتاة تحاور صديقها ترتدي شورتاً أسود اللون مكتوب عليه بالأبيض 1948 . أعشق الأرقام عندما تكون على مؤخرة امرأة. يذكرني الرقم بعام النكبة. نغالط انفسناً كثيراً عندما نعتقد بأنه العام الوحيد للنكبة. ايامنا كلها نكبة. أعوامنا تبكي. القادم اسوأ.
تركت الفندق الى سان خوزية. مدينة حالمة تبعد عن سان فرانسيسكو أربعون دقيقة. بقي على ميعادي مع آسيا اربعون دقيقة. استقليت سيارة اجرة وطلبت من السائق التوجه الى سان خوزيه. تعمدت النزول قبل الوصول الى المقهى. الشارع الذي يقع فيه المقهى مليء بالمغتربين والحالمين ممن طحنتهم الحياة والأوضاع. مغترب سوداني أسلم عليه. لايرد. خلفه يقبع مسجل. مطرب يشدوا باغنية بلحن سوداني "دنيا تتغير ودنيا... ادمنت عشق الثوابت". لاادري اي ثوابت يقصد. أتركه مع دنياه وأسير قليلاً . مغترب يمني في دكان صغير مليء بالمجلات الجنسية. بعد السلام سألته لماذا يبيع هذا النوع من المجلات؟ اجاب بنبرة حزينه وغاضبة "قدو كل الجماعه يحبوا العراب". أخرج ضاحكاً وفي يدي كومة منها. يبتسم مردداً "قد قلنا لك".
المقهى الذي واعدتني فيه اسيا قريب من دكان اليمني. ألمحها جالسة. يخفق قلبي. اضطراب جميل يعصف بي. أقبلها في خيالي. ألتهمها. أقترب. أصل. تهب واقفة. أقبلها وأجلس. جميلة هي. أحبها عندما تغضب، وأعبدها عندما ترضى. سمعت عن عبادة المرأة، ولكن لا أعرف عدد معتنقيها. ربما أكون أحدهم.
- "ماذا تشرب؟" تسائلني آسيا.
- "أفضل المشروب الحكومي".
- سألتني عن اسمه ولماذا هو حكومي.
- أجبتها بلحن سامري معروف "شيفاز ريقال أفضل مشروب في المملكة".
- "ولكن ما دخل الحكومة؟"
- "لأنها تشربه".
- "والشعب؟"
- "يرقص جوعا"ً.
- "ولكن كيف يجوع وهو ينتج عشره ملايين برميل؟"
- "بيض السمّانه يطرى ولا يشاف". لم تفهم وأنا كذلك.
شربنا. ضحكنا. صمت. الصمت العربي والحزن العربي سيد الموقف.
بدأت تشرح لي مأساتها وكيف تركت المغرب هرباً من البطالة والجوع وخوفاً من ان تكون نهايتها في أحد مواخير المدينة. عقبات جمة اعترضت طريقها، لم يكن اصعبها الحصول على جواز سفر. تبكي وهي تسرد قصتها. أبكي أنا، لا أدري حزناً ام سكراً. تقبلني. أضحك.
قالت لي وقد انتشت "عندما تصادر حرية الفرد تفقد الانسانية معالمها". سألت "وعندما يفقدها مجتمع؟". أجابت "كارثة".
لعب الخمر برأسينا ولم نعد نعي مانقول. تضحك أبكي. أبكي تضحك. تمسك مقبض الشيشة بطريقة مثيرة. أقبلها تبتسم. تصرخ. صوتها يثير الكوامن. حدثتها عن أبو عبادة الجهني عندما قال (أجمل الصراخ اغنجه). ضحكت كثيرا.ً"دعنا في عبادتنا ودع عنك ابو عبادة". قلت "أتسمين هذه عبادة؟". "نعم". أجابت. "الحب عبادة".
- قلت "والقيامة والعذاب؟"
قالت "الله كبير ورحمته أكبر". أضافت "ألا يكفينا عذابنا بحكامنا؟"..
صمت. ألا يقولون (الصمت علامة الرضى).
...........
...........
مسعد الحارثي
سان فرانسيسكو
يونيو 2002