مقال للاستاذ تركي الدخيل
الاثنين 18/10
جريدة الوطن
http://www.almadinapress.com/index.a...icleid=1021934

زمان البعارين!
قال أبو عبدالله غفر الله له: ويمكنني القول إن زمننا هو زمان البعارين بجدارة منقطعة النظير.
وإذا كان الشاعر القديم يقول:
يا أيها الرجل المرخي عمامته
هذا زمانك إني قد مضى زمني
فالأولى أن نعدل هذا البيت فيقول البشر فيه لبني الإبل، وبخاصة السيدات من البعارين:
يا أيها النوق المؤَخّر سنامته
هذا زمانكِ إني قد مضى زمني
فأخبار مهرجانات مزاين الإبل لا تنقطع، بل إن الأمر بلغ إلى أن البعض أجرى عمليات تجميل بعارينية ضمنها نفخ شفاة الناقة، وتغيير موضع سنامها بتأخيره إلى الخلف، وهو ما يوازي بالمفهوم البشري نفخ الأرداف بالسيلكون عياذاً بالله من الخذلان.
من حق الجميع أن يتصرفوا كما يشاؤون إذا لم يؤذوا أحداً، ومن حكم في ماله فما ظلم كما تقول العرب، لكن ما يشغلني في هذه الظاهرة الخطيرة، هو حجم مُخرجات التعصب والعصبية التي يمكن لهذه المهرجانات الملايينية أن تفرزها هكذا ظاهرة.
اليوم مزاين القبيلة الفلانية، وغداً مزاين القبيلة العلانية، وإذا فعل هؤلاء مهرجاناً، فماذا ينقص قبيلتنا لتفعل مهرجاناً أعظم وأضخم، ولتهدر الأموال كيفما اتفق، في استعراض عصبي، لو قّدّر للجمال أن تتحدث تعليقاً عليه، لقالت لبني البشر: ما انتم صاحين! ولربما زادت: وش ذا الهبال، ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين!
أجد أننا نعيش رِدة عصبية في بلادنا، فبعد أن تعززت أدوار الدولة المدنية، عززنا أدواراً ساذجة للقبيلة، في الوقت الذي كنّا نتمنى أن يكون الدور القبلي تأكيداً على قيم الدولة الحديثة.
قليلاً من العقل يا قوم، قبل أن تعلن البعارين احتجاجها على هذا السُعار، وتطلب لجوءا سياسياً!


ومقال آخر لــ محمود عبدالغني صباغ
مزايين الإبل وأحصنة طروادة
ينزع الرأي العام مؤخراً إلى التنبيه عن مخاطر وسلبيات التجمعات القبلية التي تبرز فيها العلاقات العصبية، وبالإشارة إلى الأثر السلبي للفعاليات المنبثقة -كمزايين الإبل- على وحدة الدولة سواء بالإخلال بأنماط الولاء أو في تعزيز قيم التشرذم والانقسام.
يصدر مثل ذلك الحكم التبسيطي المتعجل، منافياً لمخرجات التحليل العلمي التاريخي وصنوه السيسو-سياسي لواقع الدول العربية المعاصرة، ومجافياً لقوانين السببية الاجتماعية التي تشهد واقعتها بغياب التحديث الجوهري الذي كان من الممكن أن يُرشِح ظهور البديل.
أن يتم قلب السبب أثراً، والأثر سبباً في تحليل الواقع الاجتماعي، فذاك امتثال -بامتياز- للممارسة الطبقية لدى الأيديولوجية البرجوازية في الدول العربية الراهنة، تماماً كما لاحظ مهدي عامل منذ عقود مديدة.
إن أسباب تنامي العلاقات الاجتماعية العصبية الموروثة عن ماضي البنية الاجتماعية العربية البعيد، كما أسباب عصيان البنية التقليدية للقبيلة العربية عن الخضوع للتحديث الجوهري، ليست حتماً تاريخياً أو قدراً نهائياً، بقدر ما أنها ذات أسباب بنيوية، بمعنى أن حضورها كان مفروضا من قبل الطبقة الحاملة للأيديولوجية البرجوازية المسيطرة على علاقات الإنتاج في الدولة الحديثة، في نزوعها المصلحي لضرورة الإبقاء على تلك العلاقات والبنى التقليدية، كشرط ظرفي لإحكام وتجدد سيطرتها.
والتجمعات القبلية في حضورها في شكل مهرجانات لمزايين الإبل، دون الخضوع للإشكال الثقافي والمعرفي، ليست سبباً للتخلف أو الرجوع أو الردة، بل إنها وليدة للتخلف والرجوع والردة، أي أثرٌ لها وانعكاس موضوعي. فالكتل القبلية لا تتصرف من تلقاء نفسها، ولا بمعزل عن بنائها الثقافي الذي تنبثق منه، فهي- بحسب الأنثروبولوجي الرصين سعد الصويان- أسيرة للنمط التنظيمي والتركيبي الذي تخضع إليه والمفروض عليها.
إن للظاهرة الصاعدة امتدادات متعددة الأوجه، وأسباباً موضوعية عدة تثوي خلف بروزها ذلك.
إن انغماس الشعوب العربية في ذاتها، وتنامي مظاهر التجزؤ والانقسام بالدول العربية المعاصرة؛ كالعودة إلى القبيلة أو صعود الانتماء الإقليمي/ المناطقي أو تعزز دور المرجعية والجماعة الطائفية، إنما أثر مباشر لعدة أسباب موضوعية تحضر من واقع الدول العربية المعاصرة.
أول تلك الأسباب معزو إلى الإخفاق البيّن للبرجوازية المسيطرة على وسائل الإنتاج في الدول العربية إلى تقنين وأنسنة أشكال ووسائل الصراع الطبقي والاجتماعي في مجتمعاتها، نتيجة للافتقار الواضح لظاهرة المجتمع المدني بمفهومها الواسع والشمولي.
إنه ليس من نافل القول، إن إحدى مهام مؤسسات المجتمع المدني أنها تمتص النزعات والميول والمشاعر الفردية والاجتماعية. وفي غيابها، تصعد الهوية الفرعية لتملأ الفراغ ولتعوّض أدوارها وتضطلع بوظائفها، وذاك أمر وارد ومشروع في ذاته، ولكن الخشية في الإخلال بسلم الأولويات الوطنية أو الانغلاق على الذات الأمر الذي يرشّح من استحالة الهوية الفرعية إلى هوية خطرة ذات مضامين ضيّقة وانقسامية.
أما تالي تلك الأسباب فمرتبط بالضرورة بغياب منجزات الدولة العربية الحديثة، وفشلها في بلورة أطر مستمرة وواعدة من التنمية المستدامة لمواطنيها، التي هي أساساً مصدر شرعيتها.
الأمر الذي يولد إحساساً عميقاً، يكاد يصل إلى درجة الإحباط والنكسة، بتدهور الحاضر، وانحطاطه، والقنوط من وجود أمل في مستقبل أفضل، ما يدفع إلى الهروب إلى لحظة ماضية في الزمان، قد يُعتقَد بيقظتها الروحية أو قد يرجى منها إشعال جذوة الكرامة الإنسانية، مما يجعل النفس المحبطة، راغبة في اللجوء إليها، والاعتصام فيها، والتلويح بها.
غير أن المتابع لنقد النخب العربية لتمظهرات الرجوع إلى الذات تلك، يلاحظ رفعها من مستوى خطر تلك المظاهر إلى ترشحها للقيام بدور أحصنة طروادة، التي تفرض تقويضاً عاجلاً للوحدة والمكتسبات الوطنية من داخل الأسوار، بيد أن الحقيقة، أن تلك المظاهر ليست سوى انعكاس من انعكاسات الأزمة أُريد له البروز والظهور بمظهر السبب، لإخفاء فشل الطبقات البرجوازية في تقديم النماذج الحديثة وتطوير أوضاع بلدانها الاقتصادية والتقنية، ولإيهام الوعي الاجتماعي بتفردها بمنشور الخلاص، وبتقدمها - ولو في الإقرار العام بفشلها- قيماً ومسلكاً، على أي بديل "متخلف"، ما يبرر استمرارية تمرير نوازع سيطرتها المطلقة.
إن أحصنة طروادة الحقيقية هي في تأجيل تقنين وأنسنة أشكال ووسائل الصراع الطبقي والاجتماعي في المجتمعات العربية، تحت مغريات الاستئثار بعناصر الثروة والقوة واحتكار العنف. وهي أيضاً في تغييب وتهميش مؤسسات المجتمع المدني ومنعها عن الاضطلاع بأدوارها المفروضة في المشاركة الشعبية بالقرار، ومراقبة مؤسسات الدولة، وفي بلورة أشكال من التعاون والتكافل بين الفئات الاجتماعية المختلفة، وفي تعزيز التنوعية الجوهرية، وتحفيز الإبداع والتغيير.
إن باحثاً حصيفاً كالسيّد ولد أباه، والذي يرفع كثيراً من اللوم عن القبيلة العربية كعائق للتحول الديموقراطي، وينفي عنها أسباب الردة أو التخلف أو الرجوع. إذ يعتبر أن القبيلة في الحالة العربية الراهنة ليست سوى مؤسسة أهلية فاقدة لكل الشروط والمحددات الموضوعية لفعاليتها التاريخية المنحسرة، ويفترض أنها على العكس من التخوفات، إنما تشكل أحد مظاهر تلك السلطة ومرتكزاتها، ما دعاه في نهاية المطاف، إلى المناداة بضرورة إعادة صياغة السؤال المطروح من قِبَل النخبة العربية، ليصبح؛ ليس في كيف نحمي الدولة العربية من الانتماء العصبي والطائفي الضيق، بل في كيف نحمي المواطن العربي من بطش أجهزة الدولة العربية وهيمنتها!


















http://www.almadinapress.com/index.a...icleid=1021934