بسم الله الرحمن الرحيم
فوائد إصلاح ذات البين
الحلقة الأولى
إصلاح ذات البين شعبة من شعب الإيمان, وشرعة إسلامية, تقوي العزائم, وتصفي القلوب, وتخمد نيران الفتن.
قال الله عز وجل منوهاً بتلك الخصلة: (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) [النساء: 114].
ولكن هذه الخصلة الكريمة، والقربة العظيمة تحتاج إلى ممارسة ودراية، وحكمة وشخصية قوية ومهذبة، كما تحتاج إلى نية صالحة وصادقة وقدرة على حسن الأخذ بالأسباب والعدالة ومعرفة أساليب الإصلاح؛ والصبر والمثابرة في السعي للإصلاح وتحمل المتاعب والمشقة في سبيل عمل الخير0فهذه على سبيل المثال لا الحصر أسس لابد للمُصْلِح من مراعاتها، والأخذ بها حال خوضه غمار إصلاح ذات البين. كما تحتاج إلى معرفة تامة أسباب الخلاف والمختلف عليه0أما تفصيل ذلك فيحتاج إلى شرح وتفصيل، والمقام لا يسمح إلا بأقل القليل.
وفيما يلي معالم بارزة في هذه الشأن هي أشبه بالإيضاح للأسس الماضية المجملة.
1- احتساب الأجر: قال الله عز وجل (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) [النساء: 114].
فما ظنك بعمل صالح رتب الله عليه هذا الثواب الجزيل؟ إنه عمل عظيم وله في نظر الشارع مقام جليل؛ فاحتساب ذلك عند الله عز وجل يقوي العزائم، ويقود إلى المسارعة والمسابقة في ذلك السبيل، ويمد القائم به بالصبر، وسمو النفس، وطمأنينة القلب.
2- استشعار أن ذلك العمل استجابة لأمر الله، قال الله عز وجل-: (وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ) [الأنفال: 1].
3- استحضار أن الإصلاح سبب لقوة الأمة عامة وللمجتمع ككل: لأن الأمة المتصارعة، المتفككة يوشك أن تنهار، وأن تلتهمها أمم أخرى؛ فإصلاح ذات البين سبب لقوة الأمة، وصلابتها، وهيبة أعدائها لها.والمجتمع المتفكك المتباغض تضيع عليه فرص كبيرة وكثير من المحبة والألفة والإخاء والتعاون في المجالات الحياة المختلفة 0
4- شكر الله عز وجل-: فحقيق على المُصلِح بين الناس المُيَسَّر لهذا العمل الجليل أن يشكر الله على هذه النعمة؛ وأن يعترف له بتلك المنة؛ فانشراح صدره لذلك العمل, وقبول الناس لإصلاحه, وإصغاؤهم لكلامه, وأخذهم برأيه إنما هو محض فضل الله
عز وجل-.
قال الإمام الشافعي-رحمه الله-:
الناسُ بالناس ما دام الحياةُ بهم 0000000000000000والسعدُ لا شك تاراتٌ وهباتُ
وأفضلُ الناس ما بين الورى رجل 000000000000000تُقضى على يده للناس حاجاتُ
لا تمنعنّ يدَ المعروفِ من أحدٍ 0000000000000000ما دمْتَ مقتدراً فالسعدُ تاراتُ
واشكرْ فضائلَ صنعِ اللهِ إذْ جعلت 00000000000000إليك لا لك عند الناس حاجاتُ
5- التحلي بالحلم وسعة البال: لأن المصلح في أغلب الأحيان سيدخل بين أطراف يقل عندها العدل والعقل، ويفشو فيها الظلم والجهل فيحتاج إذاً إلى ضبط النفس وسعة الصدر واحتمال ما يصدر من سفه وتطاول وترديد كلام وإطالة في المقدمات.فلا يحسن به أن يكون ضيق الصدر قليل الصبر.وليعلم أن مهمته مرهقة فليوطن نفسه على عقبات الطريق وليداويِ ضعاف النفوس بالهدوء، وسعة الصدر، ولين الجانب ومقابلة السيئة بالحسنة؛ فإن تلك الصفات رقيةُ النفوس الشرسة، وبلسم الجراح الغائرة.
6- التصور التام للقضية: فلا بد للمصلح إذا أراد الدخول في قضية ما 0أن يكون على معرفة تامة وتصور تام لسبب الخلاف بين الفريقين0 فالحكم على الشيء فرع من تصوره؛ إذ كيف يدخل في مجاهل، ومتاهات لا يدرك غورها، ولا يسبر مسالكها ؟ فلا بد إذامن تصور القضية، ومعرفة أطرافها، وأحوال أصحابها، وما يكتنفها من غموض، وظروف.
7- النظر في إمكان الدخول في القضية: فإذا تصور المصلح القضية تماماً نظر في إمكان الدخول فيها، وجدوى السعي في حلها.
وربما احتاج إلى الاستشارة والاستخارة والاستعانة بمن لديه القدرة على إعانته0 فربما تكون القضية فوق طاقته وربما يكون دخوله فيها دون أدنى فائدة. ومن هنا كان التحري، والتروي، وحسن النظر مطلبا حتمياً قبل الدخول في القضية.
8- الدعاء وسؤال الله التوفيق: فمهما بلغ الإنسان من الكياسة والفطنة، والسياسة، وحسن التصرف - فإنه لا يستغني عن توفيق الله ولطفه، وإعانته؛ فليلجأ المصلح إلى ربه وليسأله التوفيق والعون والتسديد, واللطف، فإنه عز وجل يجيب من دعاه، ويعين من استعان به قال تعالىوَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [غافر: 60].
9- المحافظة على أسرار المتخاصمين: فذلك من الأخلاق التي يجب على المصلح أن يأخذ بها، وألاّ يسمح لنفسه بالتفريط في شأنها.أما إذا احتاج إلى إفشاء شيء من ذلك لمن يعنيه الأمر، أو لمن يمكن الإفادة من رأيه - فذلك داخل في الإصلاح.
10- الحذر من اليأس: فربما حاولت المحاولة الأولى، وبذلت وسعك في معالجة المشكلة - فأخفقت؛ فإن كنت قصير النظر ضيق الصدر يئست من الإصلاح وتركت المحاولة إلى غير رجعة.أما إذا أخذت بسياسة النفس الطويل، وتدرّجت في مراحل الإصلاح مرحلة مرحلة أوشكت أن تصل إلى ما تريد0 إذاً فالحذر الحذر من اليأس وإن أعيتك حيلة فالجأ إلى أخرى، وإذا انسدّ عليك طريق فاسلك طريق آخر. وإذا أغلق في وجهك باب فطرق بابا أخر0
11- الاستعانة بمن يفيد: سواء من أقارب الأطراف، أو من أصدقائهم، أو معارفهم، أو من له تأثير عليهم.أو ممن يحب عمل الخير0ولكن يُراعى في ذلك أن يكون أولئك من ذوي الروية والخبرة والبصيرة والحكمة.والعدالة والتقى0
12- مراعاة الذوق العام: ويندرج تحت ذلك أمور كثيرة، وربما كان بعضها صغيراً، لكنه قد يغير مسار القضية تماماً، فيدخل تحتَ الذوقِ تجنبُ بعضِ الكلمات الجافية المثيرة، واستعمل العبارات اللائقة الجميلة التي تبهج النفس، وتشرح الصدر.
ويدخل في ذلك اللمسةُ الحانيةُ، والبسمةُ الصادقة، ويدخل فيه استثارة النخوة، وتحريك العاطفة، بل قد يدخل فيه العتب والغضب إذا كان ذلك في محله، وممن يليق منه ذلك. ويدخل في ذلك مراعاة العادات، وفهم الطبائع ونفسيات الأطراف0فهذه الأمور، وما جرى مجراها من جملة ما يحتاجه المصلح مع مراعاة وضع كل أمر في نصابه دون وجل ولا شطط، ولا تكلّف.
13- حسن الاستماع: لأن كلَّ طرف من الأطراف يزعم أنه على حق، وأن صاحبه على باطل؛ فيحتاج كلُّ واحد منهما إلى مَنْ يَستمع إليه، ويرفق به، ويأخذ ويعطي معه.بالتي هي أحسن0ويحاوره محاورة هادئة وبحكمة بالغة0لأن بعض الخصوم قد يكفيه أن يفرغ ما فيصدره من غيظ، أو كلام؛ فيشعر بعد ذلك بالراحة، ويكون مستعداً لما يُراد منه.وللمصالحة0
14-في بدية الأمر ربما يستحسن الانفراد بكل طرف من الأطراف على حدة: فاللقاء الفردي بكل واحد من الأطراف في البداية أفضل؛ حتى لا يحصل الصراع والعراك في بداية الأمر؛ فيتعذر الإصلاح. فإذا حصل اللقاء الفردي كان ذلك سبباً لأن يقف المُصْلِحُ على حقيقة الأمر، وما يريده كل طرف من الآخر.
15- الرفع من قيمة المتخاصمين: وذلك بإنزالهم منازلهم، ومناداتهم بأحب أسمائهم إليهم، والحذر من انتقاصهم، أو الحطّ من أقدارهم.
16- الحذر من الوقيعة بأحد الخصمين عند الآخر: لأن ذلك ضرب من الغيبة, ولأنهما ربما اصطلحا، فأخبر كل واحد منهما بما قلته في صاحبه؛ فتحصل على الضرر من غير ما فائدة، وقديماً قيل:
كم صاحبٍ عاديتَه في صاحبٍ 00000000فتصالحا وبقيتَ في الأعداء
17- الوضوح ولزوم الصدق والصراحة والعدالة: والمقصود بالصراحة هاهنا ألاّ يساير أحداً من الخصمين على باطل، وألاّ يَعِدَ أحداً منهما وعداً وهو غير قادر على إنفاذه، إلى غير ذلك مما يستلزم الوضوح والصدق. وليس من شرط ذلك أن يتشدد المصلح، أو أن يواجه الخصوم بما يكرهون بحجة أنه صريح، بل يحرص على أن تكون صراحته مغلفة بالأدب واللياقة، وأن تكون كلماته خفيفة الوقع على أسماع المتخاصمين.وعلى سبيل النصية والمصلحة0كما لا ينافي الصراحةَ والصدق تمنيةُ الخير للطرفين, واستعمال الجمل والعبارات الواسعة التي تصلح وتقرب.
18- تذكير الخصوم بالعاقبة: فيحسن بالمصلح أن يُذكِّر الأطراف المتخاصمة بالعاقبة؛ فيذكرهم بعاقبة الخصومة, وما تجلبه من الشقاق, وتوارث العداوات بين الأبناء والأجيال, واشتغال القلوب والأحقاد والضغائن والغفلة عن مصالح الطرفين.ويذكرهم بالعواقب الحميدة للصلح في الدنيا والآخرة, ويسوق لهم الآثار الواردة في ذلك 0قوله الله تعالى-: (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) [البقرة: 237] وقوله تعالى: (وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ) [آل عمران: 134] وكقوله: (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) [الشورى: 40].
ويسوق لهم قصصاً لأناس عفوا, فحصل لهم من العز, والخير ما حصل.وهكذا0فذلك يبعث في النفوس الراحة والطمأنينة والرجوع عن التمادي في الخصام.
19- إعطاء الوقت والفرصة الكافية: فإذا قام المصلح بما ينبغي له أن يقوم به فَلْيَدَعْ للزمن دوره, حتى تهدأ النفوس, ويختمر الرأي في الأذهان, ويبدأ الأطراف في المراجعة أنفسهم0
20- الحذر من إلحاق الضرر بأيٍ من الخصوم: وذلك بالحرص على ألاّ يترتب على الإصلاح أي ضرر بأحد الأطراف، وربما جامل صاحب الحق، وسكت، وصالح في الظاهر وفي نفسه ما فيها 0فلا بد إذاً من مراعاة هذا الأمر؛ فلا ضرر ولا ضرار، ولا بد في العفو من الإصلاح لا الإفساد.وليقسْ المصلح على هذه النبذة كثيراً مما قد يقع من الخلاف، والتنازع في الحقوق.مستقبلا0
21- ألاّ تدخل في قضية بشرط النجاح: بل عليك أيها المصلح بذل الجهد، واستنفاد الطاقة، ثم بعد ذلك وطّن نفسك على أن محاولاتك ربما لا تفلح؛ فلا يكبر عليك ذلك، وأعلم بأنك مأجور مثاب، وليس من شرط الإصلاح إدراك النجاح، وليكنْ شعارك قول الله تعالىإِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) [هود: 88].
يتبع في الخلقة القادمة إن شاء الله0