حال المؤمن في قبره
أيُّ مسكين ذلك الذين يجلس فإذا به بملكين أسودين أزرقين ينتهرانه فيقولان له: من ربك؟ فيجيب إجابة المستيقظ: ربي الله.. ما دينك؟ ديني الإسلام؛ لأنه عندما كان يسمع: الله أكبر! كان الله عنده أكبر من كل شيء، وعندما كان يسمع: الصلاة خير من النوم، رمى الفراش وهب مسرعاً إلى المسجد، وعندما كان يخر ساجداً لله فيقول: سبحان ربي الأعلى، كان في قلبه أن الله هو الأعلى من كل شيء في قلبه وفي حياته، وإن سأل فلا يسأل إلا عن شيء هو موافق لشرع الله، شراء السيارة حرام أم حلال.. وما حكم الشرع فيه؟ هذه الصلاة هل هي بدعة أو سنة وما حكم الشرع فيها؟ كان لا يسأل إلا عن دين الله؛ ولهذا إذا سئل: ماذا تقول في الرجل الذي بعث فيكم؟
فيقول: هو محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فينادي منادٍ من السماء: أن صدق عبدي، وجاء في بعض الروايات: فيفتح له باب إلى النار، فينظر إلى النار، فيقال له: هذا مكانك لو عصيت الله، نار يأكل بعضها بعضاً، سوداء مظلمة، ثم يغلق الباب ويفتح له باب إلى الجنة، فيقال له: هذا مكانك، انظر لعلك لا زلت فوق رأسه في المقبرة، وبعضهم يمشي عليه وهو ينظر إلى قصره في الجنة، ينظر إلى الأنهار والأشجار، ثم يغلق الباب، فيقول: ربِ أقم الساعة! ربِ أقم الساعة! ربِ أقم الساعة، فيأتيه رجل طيب الثياب، حسن الوجه، طيب الرائحة، فيقول: من أنت؟ فوجهك الوجه يجيء بالخير؟ فيقول: أنا عملك الصالح، والله ما علمتك إلا سريعاً لطاعة الله بطيئاً إلى معصيته.
نعم. تعصي الله؛ لكنك تخاف؛ كل الناس يخطئون ويعصون لكنك إن عصيت فلا تحرص على المعصية.. إن عصيت الله فإنك ترجع بعد المعصية؛ تندم.. تتوب.. تخر ساجداً لله.. تبكي.. تستغفر الله.. تنكسر وتنطرح بين يديه.
يقول: والله ما علمتك إلا بطيئاً إلى معصية الله، سريعاً إلى طاعته، فيجلس عنده، فيقال له: نم نومة العروس، فيأتيه من ريح الجنة ويفرش له من فراش الجنة مد بصره.
خروج المؤمن من قبره إلى المحشر
الله أكبر! الناس فوقه يظنونه في حفرة ضيقة.. ونحن المساكين وليس هو.. نحن في عذاب وليس هو، فقد فتح له في قبره مد بصره، وفرش له من الجنة، وتأتيه رائحة من الجنة، ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، يبكون وهم يخرجون من المقبرة، وهو يدعو الله أن تقوم الساعة، ينام نومة ثم يستيقظ.. على ماذا؟ يستيقظ حين يسمع صيحة فوقه؛ فإذا بالقبر ينشق، ثم إذا به يخرج يستمع إلى الناس وهم يبكون، والبعض منهم يدعو ثبوراً، والبعض منهم يضرب نفسه، حتى يقول المجرمون: يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا [يس:52]^؟ فيرد عليهم: هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ [يس:52]^ هذا الذي كنا نقرأه في كتاب الله.. هذا الذي كنا نسمع به في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يقال لهم: أيها الناس! هلموا إلى ربكم، فيقف تحت ظل العرش.. أرأيت! الأمر سريع، يقف تحت ظل عرش الرحمن.. إنه من السبعة الأصناف.. من هم؟ رجل قلبه معلق بالمساجد، نشأ في عبادة الله، شاب أتته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله، الشهوة تدعوه، كان عنده قوة وجرأة لكنه يخاف الله، فإن كان من هؤلاء السبعة, فيكون تحت ظل عرش الرحمن.
إن الأمر -أيها الإخوة- حق وصدق وليس بالهزل.. كم يقف الناس؟ خمسين ألف سنة، أما هو فيقف كما بين صلاة الظهر والعصر، أرأيت الأمر كم هو؟ إنه لحظات، بالأمس كان في الدنيا فمات، ثم نام في القبر، ثم استيقظ، ثم يؤتى إلى الرحمن -إن كان يحاسب- فتعرض عليه أعماله عرضاً.. عبدي! أتذكر ذنبك؟ أتذكر تلك الليلة وذلك اليوم؟ قبل أن تلتزم كم كنت تفعل وتفعل.. لا تصلي الصلوات، تذكر يا فلان، لكنه التزم بشرع الله، وغير حياته، وإن عصى الله ستر على نفسه، يقول الله له تلك الكلمات العظيمة: سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، فإذا بالكتاب يعطى باليمين، ومن شدة الفرح يولي إلى الناس، فيقول: هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ [الحاقة:19-20]^ كنت متأكداً منه هذا اليوم، كنت أشعر أن هناك يوم قيامة، وكنت مصدقاً وواثقاً به، لهذا كانت آمالي كلها رجاء ذلك اليوم، والخوف من ذلك اليوم.. أيها الناس اقرءوا كتابيه! ماذا ترون؟ فيرون صلاة الفجر، وقيام الليل، وقراءة القرآن، والتسبيح والتهليل والتحميد والذكر، وطلب العلم، والدعوة إلى الله، وصحبة الصالحين.. ماذا يرون؟ عمرة وحج وجهاد وأذان وصلاة واستغفار.
اقرءوا كتابيه، إن كانت معصية سترها الله، بل لعل الله عفا عنها ومحاها، اقْرَأوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ [الحاقة:19-20]^، إلى أين يذهب؟ الأمر سريع ونراه قريباً، يحشر مع زمرة لعلها كانت معه في الدنيا أو تساويه في الدرجات يوم القيامة وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً [الزمر:73]^.
أخي الكريم! لم لا ترجو أن تتوب إلى الله، تخيل نفسك وأنت تمشي إلى الجنة! هل يحتاجون إلى مشي طويل؟ لا، وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ [الشعراء:90]^ تقترب منهم الجنة فإذا بهم قد انتظروا عند أبوابها، ولها ثمانية أبواب مغلقة، ما بين مصراعيها مسيرة أربعين سنة.. تخيل عظمها! يخرج منها ريح يوجد من مسيرة كذا وكذا، ويتقدمهم أفضلهم عليه الصلاة والسلام.. من هو؟ إنه محمد صلى الله عليه وسلم، ذلك الذي كنت طالما أسأل عن سنته وهديه، وأحب أن أقتفي أثره.. كيف كان يقرأ.. يصلي.. يتوضأ.. كيف كان يعلم الناس؟ كل هديه أسأل عنه، الآن رأيته بعيني يتقدم الناس، فيقدم على حلقة من حلقاتها، فيطرق الباب -والأمر حقيقة فادعُ الله أن تكون منهم- فيقول الملك: من أنت؟ فيقول: (أنا محمد -انظر إلى التواضع- فيقول له الملك: بك أمرت ألا أفتح لأحد قبلك، فإذا بالباب يفتح والناس ينظرون ).
الله أكبر! هل تظن أنك سوف تتخيل كيف يفتح الباب وماذا يكون داخل الباب؟ مهما تخيلت، مالا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:17]^ كم هو الأمر؟ سريع ولن ندخل في تفاصيل الجنة، ولكن لمحة سريعة.
وصف الجنة وحال المؤمن فيها
إن أول زمرة يدخلون الجنة كصورة القمر ليلة البدر، تخيل: كالقمر وما أجمل من القمر! يدخلونها تظن ماذا يرون فيها؟ إذا رأيت إلى صورهم وهم يدخلونها وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ [عبس:38-39]^ يدخلون إذا رأيت ماذا ترى وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً [الإنسان:20]^ أربعة أنهار: نهر من لبن.. هل تتصور هذا؟ والله الأمر عجيب! أم هل تتخيل نهر من عسل يجري وليس أي عسل؛ إنه عسل مصفى.. من الذي صفاه؟ تخيل خمر لذة للشاربين! ليس كخمر الدنيا ماء يجري.. أنهار، قال بعض السلف : لا تجري في أخاديد إنما تجري على أرض الجنة المستوية. تخيل كيف يجري عليها النهر؟ أرض مستوية ليس فيها أخاديد، قال سبحانه: وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ [الواقعة:31]^ قال بعضهم: ليس في أخاديد. هكذا تجري على أرض الجنة، تخيل هذه الأنهار! ما بالك بالأشجار.. ما في الجنة شجرة إلا ساقها من ذهب، تخيل ولو لحظات! هل تتصور ظلها مائة عام يجري فيه الجواد المضمر مائة عام لا يقطع هذا الظل.
والله إنه ليكفي أن نتخيل هذه النعمة شوقاً إلى الجنة، تخيل القصور! بعضها من ذهب وأخرى من فضة، أتعرف لمن؟ لمن ألان الكلام، وأفشى السلام، وصلى بالليل والناس نيام.
أتعرف لمن؟ لمن تعب وظمأ بالهواجر -في النهار يظمأ وفي الليل يقوم- لمن يقرأ القرآن، لمن يطلب العلم (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له طريقاً إلى الجن ) نعم! يدخل الحنة لكن بأي طريق؟ بطريق سهل ميسر.
أخي الكريم! أتعرف ماذا في الجنة؟ وإذا دخلت في القصر ماذا ترى فيه؟ حور عين، لو أن واحدة منهن نظرت إلى أهل الأرض لأضاءت ما بين السماء والأرض.
لو تحمل شيئاً من الجنة بظفرك وأخرجته منها، لتزخرفت خوافق السماوات والأرض، سوار واحد لرجال أهل الجنة -وليس للنساء- إذا خرج من الجنة طمس نور الشمس.. فالأمر عجيب يا إخوة! إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً [الواقعة:35]^ من الذي أنشأهن؟ إنه الرحمن الذي أنشأ لك الحور العين!
عبد الله! تتركها لساقطة فاجرة متبرجة يأتيها أيام في الشهر تُنْتِن.. يأتيها زمن يرق عظمها وجلدها ثم تذهب إلى المقبرة.
عبد الله! كن صادقاً مع نفسك، واتق الله، ولتنظر نفس ماذا قدمت لغد؟
إذا كانت لك الحور العين بتلك الصورة فسوف أصف لك شابة يرى مخ عظامها من وراء اللحم.. كيف هي لطيفة ورقيقة! إذا كان الجلد واللحم من رقته لا يمنع رؤية العظم داخل الساق.. كيف هي يا عبد الله؟ لا ترى غيرك في الجنة ولم ترَ قبلك أحد، قاصرات الطرف لا ترى غيرك، كأنهن لؤلؤ مكنون، مغطى من جمالها وحسنها؟ كل أسبوع تزداد حسناً وجمالاً، فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
يجتمع أهل الجنة يتذكرون ما كان يحصل لهم في الدنيا، كل أحد يقول: تذكروا عندما كنا نفعل كذا وكذا قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ [الطور:26]^ تذكرون كان لي صاحب في الدنيا لا أراه الآن.. سواء في العمل.. في المدرسة.. في الشارع.. في البيت.. من الأقرباء ليس هو معنا الآن في الجنة.. أين هو ؟ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ [الصافات:51]^ في الجنة يتحدثون.. كان صاحب يمشي معي في كل مكان؛ لكن ترك يوماً من الأيام والتزم مع الصالحين.. ماذا قال له؟ يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ [الصافات:52]^ كان عندما تبت ورجعت إلى الله، والتزمت مع الصالحين كان يقول لي: أإنك لمن المصدقين، أين تذهب تضيع نفسك.. شبابك.. حياتك ....وتربي اللحية، امشِ نسافر ونذهب السوق، وفلان وفلانة يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَدِينُونَ [الصافات:52-53]^ حتى نموت وحتى يبعثنا الله أياماً طويلة أإنا لمدينون؟
من صدقك أن الله سوف يحاسبنا، ونحن مسلمون والحمد لله، وبعد لحظة وإذا بالنار تكشف لهم وهم جالسون في الجنة، قال تعالى: قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ [الصافات:54]^، يقول لأصحابه في الجنة: ألا ترون؟ فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ [الصافات:55]^ رأى صاحبه في قعر النار يحترق.. نار تلظى، نزاعة للشوى، من حرها ينفصل العظم عن اللحم، وتتطاير بشرر كالقصر، يأكل ما يسيل من فروج الزواني؛ بل إذا تشقق الجلد وخرج الصديد تسابق إليه أهل النار ليأكلونه، يأكلون طعاماً ذا غصة وهو ينظر إليه، ابتلع الطعام من شوك تغص بها الحلوق، يريد أن يشرب الماء فيقترب منه ليشرب فعندما يقترب تسقط منه فروة الرأس إِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهًَ [الكهف:29]^ يقول لأصحابه: هل أنتم مطلعون؟ فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ [الصافات:55]^.
والآن تبدأ المحادثة: من في الجنة يحدث من في النار! نعم. إنها الحقيقة أحدث فلاناً الذي كان طالما يجرك من الهداية، ويمنعك منها، ويصدك عن الصلاة، ويشوه سمعة الصالحين، ويحدثك بالنساء، ويدعوك للزنا وللسفر إلى الحرام، والذي كان طالما يدعوك للحرام، الآن تراه وتحدثه وأنت في الجنة قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ [الصافات:56]^ كدت تهلكني معك وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ [الصافات:57]^ ثم يلتفت إلى من حوله في الجنة، فيقول لهم: أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [الصافات:58-60]^ ثم ختم الله بتلك الآية: لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ [الصافات:61]^ لمثل هذا -أخي الكريم- قم لصلاة الفجر.. افتح كتاب الله واقرأ.. عندما يقال: الله أكبر فليكن حقاً الله أكبر.. لمثل هذا أخي الكريم! كف لسانك عن أعراض المسلمين.. بر بوالديك.. صل الأرحام.. اترك الفسقة الفجرة واستبدلهم بالصالحين لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ [الصافات:61]^.......