لذة الغيبة
إن كانت للغيبة لذة، فإنها قطعاً من اللذات المحرمة، لكن الناس فطروا على الركض وراء المحرمات، فكثير مما نهي الناس عنه يبدو لذيذاً مغرياً، والعاقلون وحدهم هم الذين يقوون على مقاومة إغراء المحرمات، ويستطيعون قمع الرغبة فيها، بينما يتفرد الطائشون باللامبالاة فيظلون يمتعون أنفسهم بالتنقل بين ما حرم من اللذائذ والمتع.
ولأن الغيبة واحدة من تلك اللذات المحرمة، فإنها تبدو مغرية للكثيرين، فالقلة من الناس هم الذين لا يقعون في إثمها، ولذلة الغيبة تزداد بازدياد مكانة وشهرة الضحية، فكلما كان الضحية معروفاً بين الناس بالغ المغتابون في تجريحه والنيل منه.
وكما أن التلذذ باغتيال الآخرين يكاد يكون سمة مشتركة بين الناس، فإن التعرض لأذى الاغتياب هو كذلك حالة عامة بين الناس، فلا يكاد يسلم أحد منهم من التعرض لذلك الأذى، بمن فيهم الأنبياء المطهرون، وما يبدو هو أن غالبية الناس لهم حالان، إحداهما يكون الإنسان فيها مغتاباً لغيره، والأخرى يكون فيها هو نفسه ضحية لاغتياب غيره له. ويصف ابن دريد في أبيات قصيرة له شيوع الغيبة بين الناس وعدم نجاة أحد من التعرض لأذاها، معبراً عن تقبله ما يقوله الناس عنه من صنوف القول السيئ لإدراكه أن أذى الاغتياب واقعاً على الناس كلهم فلا يكاد ينجو منه أحد حتى الأنبياء أنفسهم.
وما أحد من ألسنة الناس سالماً
ولو أنه ذاك النبي المطهّر
فإن كان مقداماً يقولون أهوج
وإن كان مفضالاً يقولون مبذر
وإن كان سكيتاً يقولون أبكم
وإن كان منطيقاً يقولون مهذر
وإن كان صواماً وبالليل قائماً
يقولون زرّاف يرائي ويمكر
وغني عن القول، إن هذا الاندفاع نحو الغيبة ما كان له ليعم وينتشر لولا ما يحمله من متعة إلى نفوس المغتابين، إلا أن الناس قليلاً ما يجهدون فكرهم في البحث عن أسباب تلك المتعة التي تلقي بظلالها على نفوس البعض منهم لحظة اغتيال الغير.
لم يتولد الشعور باللذة عند ذكر الآخرين بالسوء أو السخرية منهم أو نقدهم أو الانتقاص منهم؟ لا تفسير لذلك لدى البعض سوى الحسد أو الغيرة، فعندما يكون المرء في نعمة يحسد عليها لا يجد الحاسدون تنفيساً لمشاعرهم الحاسدة سوى اغتيابه والنيل منه، ودعبل الخزاعي، أحد أولئك الذين ركنوا إلى تفسير لذة الغيبة بسبب الإصابة بالحسد.
وذي حسد يغتابني حين لا يرى
مكاني، ويثني صالحاً حين اسمع
تورعت أن اغتابه من ورائه
وما هو أن يغتابني متورع
وربما لهذا السبب نفسه، لم يملك جحظة البرمكي نفسه من الوقوع في الغيبة حين قال:
قلت لما رأيته في قصور
مترفات ونعمة لا تعاب
رب ما أبين التباين فيه
منزل عامر وعقل خراب
وفي ظني، لو أن كل من سولت له نفسه اغتياب أحد، بادر بسؤالها، إن كان يحس بشيء من الغيرة أو الحسد، لعله لو فعل ذلك، يجد نفسه تعاف الاغتياب.
منقول