|
إن الله سبحانه وتعالى خلق هذا الإنسان مؤلفاً من ثلاثة عناصر، هي: العقل والبدن والروح.
وأشرف هذه العناصر الثلاثة الروح التي هي نفخة غيبية من عند الله " وقد رتب الله على هذه العناصر الثلاثة عناصر الدين فجعل الإسلام لمصلحة البدن، والإيمان لمصلحة العقل، والإحسان لمصلحة الروح، وجعل التكامل بين هذه العناصر والتوازن بينها مطلوباً، فلا يكون الإنسان سوياً مستقيماً إلا بالاعتدال والتوازن بين هذه العناصر، فلا بد من العناية بها جميعاً والسير بها في خط متواز، حتى لا يحصل ميل أو اعوجاج في هذه النفس البشرية، فإن من مال إلى أحد هذه العناصر دون غيره وأولاه عناية على حساب الجوانب الأخرى كان إنساناً معوجاً غير مستقيم.
وأهم هذه الجوانب وأشدها خطراً هو عنصر الإحسان الذي لا يكمل إيمان المسلم إلا به، وعنصر الإحسان إنما يتعلق بتزكية النفوس(1).
من المسلّمات شرعاً وعقلاً أن تحقيق صلاح الإنسان هو المقصد الأعلى لجميع الأديان والشرائع السماوية. وقد كان صلاح الفرد جوهر اهتماماتها؛ لكونه اللّبنة التي يبنى عليها المجتمع والعالم الإنساني، من هنا اهتم به علماء الدين ورجال الفكر والتربية والإصلاح، غير أن الطرق والمناهج التي سلكتها تلك المذاهب الإصلاحية اختلفت فيما بينها وتباينت إلى حدّ التنافر والتناقض، بسبب اختلاف الرّؤى والتّصورات لحقيقة الإنسان والمناهج الإصلاحية. وكذا الغلوّ والتطرّف الذي أدّى إلى بروز ظواهر فكرية واجتماعية مصادمة للفطرة والعقل والدين السّمح، الذي جاء رحمة للعالمين.
فالبعض نظر إلى الجانب الرّوحي في الإنسان، وغالى في تقديسه والعناية به دون التفات إلى بقية الجوانب المكونة لشخصيته، فاقتصر في إصلاحه على هذا الجانب، مما أدى إلى انعدام التوازن في إصلاح الإنسان، وهؤلاء هم أصحاب الاتجاه الروحي.
والبعض نظر إلى الجانب المادّي في الإنسان، فاقتصر في إصلاحه على إشباع المتع واللذات المادية، وإغفال الجوانب الأخرى، مما أدى إلى طغيان المادة على الروح، وهؤلاء هم أصحاب الاتجاه المادي.
وبين الاتجاهين المتنافرين جاء القرآن بمنهج إصلاحي مغاير، حيث اعتنى بجميع مكوّنات الإنسان الروحية والمادية، فأعطى الروح حقّها والجسم حقّه في العناية والرعاية، واعتمد على الموازنة بين البعدين الرّوحي والمادّي.
وما تزال ظاهرة التطرف في الميدان الدّيني والفكري والاجتماعي تطرح نفسها بقوة خاصة في العصر الحديث؛ حيث فتحت المجال واسعاً أمام أعداء الإسلام للتدخل في خصوصيات الشعوب الدينية والثقافية بدعوى محاربة الغلو والتطرف.
يمكن القول إن ما كتب إلى الآن عن وجهة نظر إيمانية وإسلامية تعبر عن إفرازات ومعالم هذه الثقافة لهو أمر ضئيل ويحتاج منا إلى جهد كبير.
ويمكن أن تتمثل الشخصية الإسلامية من خلال ثلاثة محاور أو دوائر متكاملة ومتفاعلة فيما بينها ,
علاقة الشخصية الاسلامية بذاتها,بالاخرين,بالكون
وسنتكلم عن علاقة الشخصية الإسلامية بذاتها : وتتضمن علاقتها بذاتها ومدى فعاليتها في المستويات الأخرى من الحياة . حيث أن الذات المسلمة هي مستودع العقيدة والقيم والفكر . وهي صاحبة التكاليف بتحقيق أفعالها وتقدير غاياتها وسلوكها والوفاء بالتزاماتها تجاه خالقها ونفسها ومن ثمة الآخرين والبيئة أو العالم المحيط بها وكلها دوائر وعلاقات متفاعلة ومتداخلة فيما بينها كما أشرت آنفا .
ويكمن جوهر علاقة هذه الشخصية بذاتها في مفهوم ( تزكية النفس ) أي السمو بها وتنمية جوانبها والارتقاء بغاياتها وأهدافها . وفي هذه الحالة يحدث التوازن بين مكونات هذه النفس من جسم وعقل وروح . حيث يطالب المسلم برعاية هذه المكونات والسمو بها في توازن ووسطية ويؤكد ذلك ما ورد من آيات قرآنية وأحاديث نبوية سنشير إليها لاحقا
وهذا الكلام يضطرنا الى التعرض إلى انواع النفس ونستطيع ان نسميها منازل النفس .
: يمكن تصور منازل النفس المسلمة على أنها تتدرج إلى مستويات من التزكية والتدني وهناك المكون الأوسط الذي يحدد توجه الإنسان ومسيرته ويتميز بالإرادة المنفذة والقدرة على التمييز ويمكن أن نطلق عليه ( النفس المريدة المنفذة ) وهذا المكون هو الذي يسيطر عليه العقل والإرادة ويتحكم في سلوك الفرد ويحاسب على أساسه .
فإذا استجاب هذا المكون لما يعلوه فإنه يرقى ويسمو في منازل الرقي بالنفس فيبدأ ب(النفس اللوامة ) والتي تلوم نفسها على فعل المعاصي أو تتأرجح بين الخير والشر وتحاول اجتناب الآثام والذنوب قدر وسعها وتستغفر إذا أذنبت وتشعر بتأنيب الضمير ومن ثمة تعدل من سلوكها إلى الخير والعمل الصالح لتمحو ما سبقها من أعمال سيئة .
وإذا ما ارتقت النفس في مراتب الرقي وصلت إلى ( النفس المطمئنة ) وهي التي تسير في طاعة الله ومحبته وتطمئن إلى ذلك وتصفو في درجات العبادة والقربى من الله يسودها المحبة والوئام ويحفها الود والسلام ويسيطر على قلبها الاطمئنان خاصة بذكر الله وطاعته ( ألا بذكر الله تطمئن القلوب ) الرعد : 8 .
وإذا ما وصلت النفس إلى مستويات أرقى من القرب إلى الله والاطمئنان إلى محبته صارت تتلذذ بالطاعة وتنعم بها لتصبح لذة في حد ذاتها وينعم عليها المولى سبحانه وتعالى بأشكال من الرضا لتصبح ( راضية مرضية ) حيث منازل الرضا العليا التي لا حدود ولا نهاية لها . وهي متأسية في ذلك بخير خلق الله الرسول عليه الصلاة والسلام . ويؤيد ذلك الحديث القدسي الذي رواه أبو هريرة عن رسول الله صلي الله عليه وسلم عن الله سبحانه وتعالى ويقول فيه ( ... وما تقرب إلي عبدي بأفضل من أداء ما افترضته عليه وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي عليها ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذ ني لأعذنه وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءلته ) رواه البخاري في صحيحة .
وعلى الطرف المقابل يتجه الفرد إلى أفعال السوء والظنون الباطلة ويشكك بالحق والحقيقة وهو ما يطلق عليه ( النفس الأمارة بالسوء ) وهي التي تسودها الشهوة والإشباعات الفورية واللذات الوقتية دون رادع من ضمير أو خلق . وهي تعتقد أن في ذلك مصلحتها وفائدتها وهو بلا شك فيه هلاكها وموتها . وتظل هذه النفس أسيرة دائرة الإشباعات واللذات الجسدية والوقتية التي تستغرقها وتستنفذ طاقاتها وتسيرها وتسيطر عليها بل وتستعبدها . ويزين لها كل من شياطين الإنس والجن ذلك لتسرف على نفسها غاية الإسراف .
فإذا تمادت هذه النفس في إسرافها وتدنت في مراتب التدني صارت نفسا ( قلقة مضطربة ) وهي التي تسودها حياة القلق والاضطراب واللهو والصراعات المادية الدنيوية حيث التنافس المادي البغيض على الدنيا وشهواتها من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث وغيرها من مستجدات العصر الحديث .
وتصل النفس في تماديها من التدني إلى النفس ( الكئيبة الضنكة ) وهي التي تسودها حياة الضنك والكآبة وتسيطر عليها الذنوب والمعاصي وتسيطر عليها حياة الترف والمفاسد لتجعل من حياتها ضنكا يسودها الفساد وانعدام البركة وغضب من الله أكبر. ويبسط الله لهذه النفس لتثبت عليها الإدانة وتكون مبلسة حيث تتمادى في البعد عن الله وسوء التدبير والمكر ( ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين ) الأنفال : 30 .
وتصل النفس إلى أدنى مراتب التدني وتصبح نفسا ( مسودة ) حيث يسود الوجه والقلب ويغطي عليها الفساد والاسوداد والذنوب والمعاصي لتصير حياتها لا خير فيها ولا صلاح فقد صار الإنسان فيها متماديا ومبتعدا عن الله كثيرا ومبارزا له بالمعاصي وقانالله وإياكم من ذلك .
ولذلك لا بد من التزكية |
|