معرض الكتاب.. معرض الصراع
لماذا تحوّل معرض الكتاب بالذات، دون كل المعارض الأخرى التي تقام سنوياً في المملكة، إلى ساحة صراع غير مباشر بين التيارات الاجتماعية في السعودية؟ لماذا ليس معرض السيارات مثلاً، أو معرض العقارات، أو أي مناسبة أخرى يحتشد فيها الناس رجالاً ونساء؟ كلما حلّ معرض الكتاب في الرياض يكرّس التيار الليبرالي (آلته الإعلامية) من أجل حرية أكبر، ورقابة أقل، ونشاطات أكثر انفتاحاً، وأدوار أفضل للمرأة، بينما يكرّس التيار الإسلامي (آلته الحسبوية) من أجل عكس ما سبق تماماً. إنه الصراع الكلاسيكي المعتاد، ولكن ما الذي يجعل من معرض الكتاب بالذات أحد ميادينه السنوية المتكررة؟
السؤال يذكّرني بأعراف المدارس الابتدائية سابقاً عندما كان هناك اتفاق عام بين الطلاب على أن (الطلعة) هي ميدان حسم الخلافات التي تراكمت أثناء اليوم الدراسي. وفي مدارس معينة كانت هناك ساحات مخصصة للعراك الذي سيفصل أخيراً بين طالبين مختلفين في (وجهات النظر). هذا ليس قانوناً مكتوباً في نظام التعليم السعودي، ولم تقرره نقابة طلاب المدارس الابتدائية. إنه عرفٌ شائع، وقانونٌ غير مكتوب. مثلما أن اختيار معرض الكتاب للصراع بين التيارين الإسلامي والليبرالي كان عرفاً لا نعرف له مصدراً، وقانوناً صراعياً لا ندري متى بدأ.
إذا افترضنا أن الكتاب أداة فكرية أساسية تتسابق التيارات إلى السيطرة عليها فعلينا أن نعترف أيضاً أن الكتاب، حتى الآن، ليس من مصادر التأثير الثقافي الأولى في هذه المرحلة من عمر السعودية. إذ يتقدم عليه كل ما هو مرئي، ورقميّ، ومسموع. فالكتاب إذن ليس غنيمة تيّارية كبرى تستحق هذا الصراع، كما أن المشغولين بقراءة الكتب في السعودية هم شريحة مثقفة نسبياً، يفترض أنهم قد حسموا ميولهم التيارية فعلاً، ولم يعد هناك متسع لتسويق الأفكار عليهم.
إن فهم الحركية الاجتماعية التي يمارسها كل تيّار بدقة يسهل علينا توقع ساحة المعركة القادمة وزمنها، لأن المجتمع صار معقداً بما يكفي لأن تخرج علينا كل يوم ساحاتٌ جديدة لهذا الصراع في أوقات غير بدهية. من كان يتخيل أن شوارع المشاة ستتحول إلى ساحة جدل يومي بين المتطوعين للاحتساب المجاني فيها، وبين ممارسي رياضة المشي الذين يتعرضون لفاصل وعظي مجاني وشبه إجباري كل ليلة؟ من كان يتخيّل أنه رغم سيطرة الإعلام السعودي الخاص على أغلب الإنتاج الدرامي العربي إلا أن مسرحية عابرة ستتحول إلى حفلة تكسير وتخريب همجي؟ ما الذي جعل الانتخابات البلدية تتحول من ممارسة مدنية لانتخاب الأنفع والأجدر مهنياً، إلى صراع تياري لانتخاب الأقرب انتماءً للتيار وولاءً له، وكأن المجلس البلدي سيغيّر الخارطة الفكرية للبلاد، وليس خارطة الشوارع والأرصفة والحدائق العامة؟
قبل أن نسأل أين ستكون الساحة القادمة علينا أن نطرح السؤال السوسيولوجي أولاً: ما هي الآلية التي يعتمد عليها السلوك الحركيّ للتيار في اختيار ساحة المعركة وزمنها؟ أو بالأحرى: ما هي مواصفات الحدث الاجتماعي الذي يستثير شهوة التيار في الصراع والعراك؟
بعد ذلك يمكننا أن نطرح أسئلة أخرى أقرب لواقعنا: بالنسبة للتيار المحافظ، لماذا (يحتسب) المئات منهم على مسرحية ولا يحتسبون على مهرجان غنائي كامل؟ لماذا يدبرون بليل أمر خنق ندوة ثقافية عن طريق إغراقها بالمداخلات الوعظية ولا يحضر منهم أحد في المنتدى الاقتصادي بجدة أو منتدى التنافسية؟ وبالنسبة للتيار الليبرالي، لماذا يكافح من أجل قيادة المرأة للسيارة، ولا يكافح من أجل تعيينها في منصب وزاري أو قضائي؟ ولماذا ينتقد بعنف قناة فضائية واحدة مثل قناة المجد، رغم أن التيار نفسه يتحكم في أسطول كامل من القنوات الفضائية التي ليست خيراً محضاً بطبيعة الحال؟
ثمة إجابات بسيطة، وأخرى معقدة لأسئلة كهذه. فالبسيطة منها تقول إن السلوك البراغماتي للتيارين معاً يحبذ العراك في مساحة الممكن والمعقول، والتي ستفيء عليه بنتائج إيجابية محتملة ومباشرة، ولا يميل للمغامرات المستحيلة التي ستنهك قوى التيار الحركية وتشوه صورته الاجتماعية. الاحتساب في الندوات الثقافية سهل، الاحتساب في منتدى التنافسية صعب. المطالبة بقيادة المرأة للسيارة سهلة، المطالبة بتعيين المرأة قاضية في وزارة العدل صعبة. هذه هي الإجابة البسيطة المباشرة، إلا أنها لا تختصر كل الحكاية (السوسيوسيكلوجية) للتيارات الاجتماعية.
ثمة ممارسات تعود بعوائد معنوية عالية على الفرد المنتمي فكرياً لتيار ما أكثر من غيرها. المحتسب في معرض الكتاب يمارس فعلاً سلطوياً على شريحة اجتماعية (مثقفة) مثل روّاد معرض الكتاب، (قد) يشعر أنه أقل ثقافة منهم، إن هذا يختلف كثيراً في عوائده المعنوية عن ممارسة الحسبة نفسها في سوق شعبي يرتاده عامة الناس وبسطاؤهم. كما أن مهاجمة مثقف نخبوي معروف على الملأ في ندوة ثقافية، وإتراع آذان الحاضرين بالوعظ (رغماً عنهم)، هي ممارسة حسبوية منعشة، ومثيرة، ومحمّسة أكثر بكثير من سرد نفس المونولوج الوعظي إياه في محاضرة دينية أغلب روّادها متفقون سلفاً مع هذا الوعظ قبل سماعه.
والليبراليون يستفزهم الحضور الفضائي الديني المحدود، ليس لأنه ينافسهم على عرشهم الفضائي، ولكن لأنه يحرمهم من مواصلة (وصم) التيار الديني بالجمود والتخلف الحضاري. رغم أن شيئاً على مستوى الفكر لم يتغير بطبيعة الحال. وهم كذلك محجمون عن إطلاق العنان لمطالبات ليبرالية كبرى لأن الليبراليّ بطبيعته فرديّ Individualistic، يصعب عليه التحرك في منظومة جماعية تدوزن أفكاره المستقلة والمشتتة، في مقابل التيار المحافظ الذي يتمتع بأفراد جمعيين Collectivistic، يسهل تنظيمهم وتحريكهم.
مرة أخرى: لماذا معرض الكتاب بالذات؟ إجابة محتملة: ربما لأنها الثقافة دائماً، الصداع الأزلي لكل أيديولوجيات التاريخ!