زموح أبو لبانة وأحلام تهامة
هذه قصة اعجبتني للكاتب
محمد حسين القيسي
جريدة الوطن السعوديه اجاد فيها التعبير واللهجه العاميه لمنطقتنا اتمنى انها تعجبكم
بعد ثلاثين عاماً قضاها زموح أبو لبانة في خدمة الوطن قرر في لحظة شوق وحنين العودة إلى قريته الصغيرة سلامة في ربوع تهامة, مستعيداً ذكريات الماضي الجميل التي قضاها في طفولته مع أصدقائه في القرية التي عاش فيها أجمل سني عمره, فتقدم إلى جهة عمله بطلب التقاعد ثم عاد لمنزله فرحاً وأخبر زوجته مريمة وأولاده بقراره هذا ففرحوا وبدؤوا يستعدون للعودة إلى القرية وسارت الأمور على ما يرام فتوجه الجميع إلى القرية ووصلوا منزلهم مساءً فجاءهم الجيران فرحين مستبشرين فرحبوا بهم وأكرموهم.
وفي صباح اليوم التالي أخذ زموح ابنه الأكبر خدّار وابنتيه ليلى وشريفة إلى الوادي المجاور للقرية، ومن حسن حظهم فقد كان الجو ماطراً صباح ذلك اليوم, فأخذ زموح يتمشى مع أبنائه والسعادة تغمرهم جميعاً وبدأ بسرد ذكرياته الجميلة, ينظر زموح خلف الأشجار ويقول: انظروا إلى هذه الطيور فهذا أبو سوادة وذاك أبو غبارة وتلك قمرية الوادي, كنا نسميها فاطم حزام, وهذه الجرادة الصغيرة نسميها خبّازة وذلك العش الصغير الذي يقع تحت تلك الشجرة الصغيرة (الرزواية) هو عش أبو سواده يا الله...يا بَني!، كم كنت شقياً في طفولتي رغم صعوبتها ولكنها كانت ممتعة.
ويستمر زموح في سرد ذكرياته بحلوها ومرها مسترجعاً شريط الماضي ثم يقول الحمد لله, ويوجه حديثه لابنه خدّار ويقول: يا بُني لقد أكرمني الله بخدمة وطني وهأنذا أعود إلى قريتي فينظر خدّار إليه وكله فخرٌ وكبرياء ويقول له سأكون مخلصاً لوطني مثلك يا أبي.
فجأةً يمر من أمامهم طائر صغير فتسأل ليلى ما هذا؟, فيقول: إنه اللبّاد يا بنيتي, كان دائماً ما يُفزعنا فهو يتعمد الجلوس في الطرق التي تسلكها الحمير ثم تؤشر شريفة بيدها إلى حشرة صغيرة تشبه الخنفساء فتقول ما هذا فيقول هذا أبو دُريقة وله رائحة كريهة فلا تلمسوه بأيديكم.
يهز الجميع رؤوسهم بالإيجاب, ثم يشير بيده إلى تلة قريبة, ويقول لابنه خدّار لقد كنت مختبئاً خلفها مع جدك رحمة الله عليه قبل أربعين عاماً عندما كان الصوتيون العرب يقصفون هذه المناطق من سفنهم في البحر بحجة تحرير فلسطين, في السنة المعروفة بسنة الهربة, لقد قتل في هذا القصف عمك الأكبر أبو زرحرح أثناء رعيه للغنم, نعم لقد قُتل بلا ذنب وقُتلت معه أحلامه البسيطة يا بني, وها أنت ترى ما حل ببني يعرب الآن, ثم تتسلل دمعة على خده الأيمن يمسحها بيده, ثم يستطرد في الحديث قائلاً: يا بني احمد ربك على هذه النعمة التي أنت فيها اليوم, واعرف قيمتها, فيهز خدّار رأسه قائلاً: الحمد لله, ثم يزداد هطول المطر, فيقرر زموح وأبناؤه العودة من الوادي إلى المنزل فرحين وفي طريقهم يصادفون بائعاَ جائلاَ فيؤشر زموح إليه بيده ويقول: وهذا البائع الذي ترونه يسير على حماره أمامكم نسميه دهاشاً فهو يبيع أجود أنواع الحناء الذي يجلبه من باجل, وكذلك يبيع أفخر أنواع (الصليط) زيت السمسم.. يا الله! كم كانت أياماً جميلة.
يصل الجميع للمنزل وتستقبلهم مريمة وقد أعدت الأكلات الشعبية فيتناولها الجميع ثم يخلدون للنوم وهكذا سارت الأمور على ما يرام وبعد مرور ستة أشهر, بدأ زموح يشعر بالضجر فأمواله بدأت تتبدد على لا شيء وأولاده بدؤوا يقلدون بعض السلوكيات الخاطئة, وجيرانه بدؤوا في مضايقته, فجارته العجوز حمياء بدأت بوضع القمامة أمام منزله, وجاره أبو قرن اقتطع جزءاً من أرضه الزراعية بحجة دخولها في صك أرضه الزراعية.
تحمّل زموح الأذية حفاظاً على حقوق الجار الذي أوصى به النبي صلى الله عليه وسلم, فكان يبدأ بجمع القمامة من أمام منزله يومياً بعد أدائه صلاة الفجر مع الجماعة, ويسأل نفسه فيقول: لقد تغير الناس يا زموح وأنت ما زلت تتعامل معهم بعقلية ما قبل ثلاثين عاماً؟, ثم يستعيذ بالله من الشيطان, وهكذا استمر على هذه الحال مدة من الزمن.
وذات يوم يصل المنزل فتخبره زوجته مريمة بأن ابنهم الأصغر خُزري بدأ يتعاطى الدخان تقليداً لابن جارهم الأكبر جُعلي وابنته الصغيرة شريفة أهملت في دراستها ولا هم لها سوى متابعة الموضة وشراء الملابس من مشغل القرية, أخذ زموح يفكر جدياً في العودة إلى مدينته السابقة فبدأ يعد العدة لذلك ولكن ظروفه لم تسعفه فقال: أؤجل إلى السنة القادمة وجاءت فقال: السنة التي بعدها وهكذا مرت السنون وزموح يؤجل ويؤجل حتى شارف عمره على السبعين, وبدأ يصيبه الخرف من كثرة التفكير, فلقد جاء يحمل أحلامه بالعيش السعيد بقية عمره في قريته فواجه الصعوبات تلو الصعوبات, وأصبح كذلك الطائر الصغير المسمى زموح الذي جاء من الجبال إلى تهامة بحثاً عن الخضرة في موسم الربيع فوقع في أيدي الصيادين فكسروا أجنحته, وتركوا صبيانهم يلعبون به مرددين كُجل كُجل حرمة ولا رجل (أي ذكر أم أنثى), بدأ زموح بعدها يجلس أمام بوابة منزله يومياً ويردد زموح يا بو لبانة ما هدّ (جاء) بك تهامة, هدّيت (نزلت) شتّخضر (تبحث عن الخضرة) حطيت في اللزامة (الصيادين), ثم يتمتم بعدها بكلمات غير مفهومة, ويمر الناس من حوله ينظرون إليه ويقولون لا حول ولا قوة إلا بالله!.
وهكذا تمضي السنون وزموح على هذا المنوال, وفي أحد الأيام يسقط مغشياً عليه فيقترب منه أحد المارة ويسعفه للمستشفى ولكن إرادة الله سبقت, فلقد مات زموح وماتت معه أحلامه, فهل يا ترى أن زموح قد كان له من اسمه نصيب؟.