خامسا :
في قوله صلى الله عليه وسلم : (وإذا سألت فاسأل الله ) قوله: (إذا سألت فاسأل الله) أي لا تعتمد على أحد من المخلوقين، وإذا احتجت فاسأل الله وحده، يأتيك رزقك من حيث لا تحتسب، أما إذا سأل الإنسان المحتاج الناس فربما أعطوه أو منعوه، ولهذا جاء في الحديث: (لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتـــطب ثم يبيـــــعه لكان خيراً له من أن يســــأل الناس أعطـــوه أو منعوه ) 0 فعلى المسلم أن يتجه بسؤاله لله وحده، ويدعوه بإلحاح ، مثل أن يقول: ( اللهم ارزقني )، و(اللهم أغنني بفضلك عمَّن سواك) وما أشبه ذلك من الكلمات 0 وفي قوله: (إذا سألت فاسأل الله) أمر بإفراد الله سبحانه بالسؤال، ونهي عن سؤال غيره 0 وقال الله تعالى : وَاسْأَلُواْ اللّهَ مِن فَضْلِهِ } ، وقال جل وعلا : { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِين } 0 (( وهذا من لطفه بعباده، ونعمته العظيمة، حيث دعاهم إلى ما فيه صلاح دينهم ودنياهم، وأمرهم بدعائه، دعاء العبادة، ودعاء المسألة، ووعدهم أن يستجيب لهم، وتوعّد من استكبر عنها )) 0 فيجب على المســــــلم أن يتوجه بسؤاله لله وحـــده، لاسيما في الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله، فمن طلبها من غير الله فقد أشرك مع الله غيره، كمن يدعو أصحاب القبور ونحوهم، قال تعالى : { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَة } 0 أما سؤال الناس في الأمور التي يقدرون عليها، فقد وردت نصوص كثيرة تذم طلبها منهم، وتثني على المتعففــــين الذين لا يســــألون الناس، قال تعالى : { لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا } 0 وقد بايع النبي صلى الله عليه وسلم جماعة من أصحابه عل ألا يسألوا الناس شيئاً منهم : أبو بكر الصديق ، وأبو ذر ، وثوبان ، وكان أحدهم يسقط سوطه أو خطام ناقته فلا يسأل أحداً أن يناوله إياه 0 وقد أجاد شيخ الإسلام ابن تيمية في تفصيل الحكــــم في هذه المســـألة فقال : (( وتفصيل القول: أن مطلوب العبد إن كان في الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله تعالى، مثل أن يطلب شفاء مريضه من الآدميين والبهائم، أو وفاء دينه من غير جهة معينة، أو عافيته، أو عافية أهله، وما به من بلاء الدنيا والآخرة، وانتصاره على عدوه، وهداية قلبه، أو غفران ذنبه، أو دخول الجنة، أو نجاته من النار، أو أن يتعلم القرآن والعلم، أو أن يصلح قلبه، ويحسن خلقه، ويزكي نفسه، وأمثال ذلك، فهذه الأمور كلها لا يجوز أن تطلب إلا من الله تعالى، ولا يجوز أن يقول لا لملك ولا نبي، ولا شـــــــيخ، ســـــواء كان حياً أو ميتاً: اغفر ذنبي ، ولا انصرني على عـدوي ، ولااشـف مريضي ، ولا عافني وعافي أهلي ودوابي، وما أشـبه ذلك ، ومن ســأل ذلك مخلوقاً ـ كائناً من كان ـ فهو مشرك بربه، من جنس المشركين، الذين يعبدون الملائكة والأنبياء والتماثيل، التي يصورونها على صورهم، ومن جنس دعاء النصارى للمسيح وأمه، وقال تعالى : { وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ } ، وقال تعالى : { اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } 0 وأما ما يقدر عليه العبد، ويجوز أن يطلب منه في بعض الأحوال دون بعض؛ فإن مسألة المخلوق قد تكون جائزة، وقد تكون منهياً عنها، وقال تعالى: { فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)}، وأوصى النبي صلى الله عليه وسلم ابن عباس: (إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله)، وأوصى النبي صلى الله عليه وسلم طائفة من أصحابه ألا يسألوا الناس شيئاً، فكان أحدهم يسقط السوط من يده، فلا يقول لأحد: ناولني إياه 00 ، ومن الأمر المشروع في الدعاء دعاء غائب لغائب؛ ولهذا أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة عليه، وطــلب الوســيلة له ، وأخبرنا بمالــنا بذلك من الأجر إذا دعونا بذلك 00 ويشرع للمسلم أن يطلب الدعاء ممن هو فوقه ، وممن هو دونه 00 لكن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمرنا بالصلاة عليه ، وطلب الوسيلة له ، ذكر أن من صلى عليه مرة صلى الله بها عليه عشراً ، وان من سأل الله له الوسيلة حلت له شفاعته يوم القيامة ، فكان طلبه منا لمنفعتنا في ذلك ، وفرق بين من طلب من غيره شيئاً لمنفعة المطلوب منه، ومن يسأل غيره لحاجته إليه فقط 0 وكيف يطلب من غير الله كشف الضر أو جلب النفع، وذلك كله بيده سبحانه وتعالى ، قال تعالى : { وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ } ، وقال سبحانه : { مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ }0 والله سبحانه يحب أن يُسأل ويُرغب إليه في الحوائج، ويلح في سؤاله ودعائه، ويغضب على من لا يسأله، قال صلى الله عليه وسلم: ( من لم يدْعُ الله سبحانه يغضب عليه)0، ويستدعي من عباده سؤاله، وهو قادر على إعطاء خلقه كلهم سؤلهم من غير أن ينقص من ملكه شيء، والمخلوق بخلاف ذلك 0 وقال تعالى : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ } ، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، يقول: من يدعونـــي فأســـتجيب له، من يسألني فأعطيه، من يســـتغفرني فأغفر له) 0 وعن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما روى عن الله تبارك وتعالى أنه قال : ( يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني، فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر) 0 يقول ابن القيم (ت 751 هـ ) في شرح هذه المسألة: (( وهذا كله تحقيق للتوحيد والقدر، وأنه لا رب غيره، ولا خالق سواه، ولا يملك المخلوق لنفسه، ولا لغيره ضراً ولا نفعاً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، بل الأمر كله لله، ليس لأحد سواه منه شيء، كما قال تعالى لأكرم خلقه عليه، وأحسنهم إليه: { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمـــــْرِ شَيْء }، وقال جـــواباً لمن قال : { هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ } ، { قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ } ، فالملك كله له، والأمر كله له، والحمد كله له، والشفاعة كلها له، والخير كله في يديه، وهذا تحقيق تفرده بالربوبية والألوهية، فلا إله غيره، ولا رب سواه، { قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُون } ، { وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِـضُرٍّ فَلاَ كَاشــــِفَ لَـــهُ إِلاَّ هــــُوَ وَإِن يَمــْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ } { مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } ، فاستعذ به منه، وفرّ منه إليه، واجعل لجاك منه إليه، فالأمر كله له، لا يملك أحد معه منه شيئاً، فلا يأتي بالحسنات إلا هو، ولا يذهـــــب بالسيئات إلا هــــو، ولا تتحرك ذرة فما فوقها إلا بإذنه، ولا يضرّ سم ولا سحر ولا شيطان ولا حيوان ولا غيره إلا بإذنه ومشيئته، يصيب بذلك من يشاء، ويصرفه عمن يشاء )) 0 ولــذلك قــال تعالى ؛ مخــبراً عن نوح عليه السلام أنه قال لقــومـــه : { إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللّهِ فَعَلَى اللّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُواْ إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونِ }0 فنوح عليه السلام قال لقومه : إن كان عظم عليكم مقامي فيكم بين أظهركم، وتذكيري إياكم بحجج الله وبراهينه، { فَعَلَى اللّهِ تَوَكَّلْتُ }؛ فإني لا أبالي، ولا أكف عنكم، سواء عظم عليكم، أولا، فاجتمعوا أنتم وشركاؤكم، الذين تدعون من دون الله، من صنم ووثن، { ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً } ، أي ولا تجعلوا أمركم عليكم ملتبساً، بل افصلوا حالكم معي ، فإن كنتم تزعمون أنكم محقون فاقضوا إليّ ولا تتأخروا ساعة واحدة، مهما قدرتم فافعلوا ؛ فإني لا أباليكــم ، ولا أخاف منكم؛ لأنكم لستم على شيء 0 وقال تعالى ، مخبراً عن هود عليه السلام :{ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللّهَ وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } 0 يبين هود عليه السلام أنه واثق غاية الوثوق أنه لا يصيبه منهم، ولا من آلهتهم أذى؛ ولهذا أشهد الله وأشهدهم أنه عليه السلام بريء من جميع الأنداد والأصنام، ثم قال لهم : { فَكِيدُونِي جَمِيعًا } أي اطلبوا لي الضرر كلكم، أنتم وآلهتكم، إن كانت حقاً، بكل طريق تتمكنون بها مني ولا تمهلون طرفة عين ، { إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ} واعتمدت عليه في أمري كله، فهو خالق الجميع، ومدبرنا وإياكم، وهو الذي ربانا، فلا تتحرك دابة ولا تسكن إلا بإذنه، فلوا اجتمعتم جميعاً على الإيقاع بي، والله لم يسلطكم علي، لم تقدروا على ذلك؛ فإن سلطكم فلحكمة أرادها، { إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }، أي على عـــدل وقسط وحكمــــة، لا تخرج أفعـــــاله عن الصراط المستقيم، التي يحمد، ويثنى عليه بها 0 وقال تعالى ، مخبراً عن هود عليه السلام :{ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللّهَ وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } 0
يبين هود عليه السلام أنه واثق غاية الوثوق أنه لا يصيبه منهم، ولا من آلهتهم أذى؛ ولهذا أشهد الله وأشهدهم أنه عليه السلام بريء من جميع الأنداد والأصنام، ثم قال لهم : { فَكِيدُونِي جَمِيعًا } أي اطلبوا لي الضرر كلكم، أنتم وآلهتكم، إن كانت حقاً، بكل طريق تتمكنون بها مني ولا تمهلون طرفة عين ، { إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ} واعتمدت عليه في أمري كله، فهو خالق الجميع، ومدبرنا وإياكم، وهو الذي ربانا، فلا تتحرك دابة ولا تسكن إلا بإذنه، فلوا اجتمعتم جميعاً على الإيقاع بي، والله لم يسلطكم علي، لم تقدروا على ذلك؛ فإن سلطكم فلحكمة أرادها، { إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }، أي على عـــدل وقسط وحكمــــة، لا تخرج أفعـــــاله عن الصراط المستقيم، التي يحمد، ويثنى عليه بها 0
أما سؤال الناس فيما يقدرون عليه فتركه أولى، وذلك أن في طلب الناس وسؤالهم ذلة وخضوعاً، والمسلم مطالب بإظهار كمال الذل والخضوع لله وحده لا شريك له 0
يقول ابن ر(( واعلم أن سؤال الله تعالى، دون خلقه هو المتعين، لأن السؤال فيه إظهار الذل من السائل والمسكنة والحاجة والافتقار، وفيه الاعتراف بقدرة المســـؤول على دفع هذا الضرر، ونيل المطلوب، وجلب المنافع، ودرء المضــار، ولا يصلح الذل والافتقار إلا لله وحده، لأنه حقيقة العبادة )) 0
وقال في كتاب آخر: (( واعلم أن سؤال الله تعالى دون خلقه هو المتعين عقلاً وشرعاً، وذلك من وجوه متعددة، منها: أن السؤال فيه بذل ماء الوجه وذلة للسائل، وذلك لا يصلح إلا لله وحده، فلا يصلح الذل إلا له بالعبادة والمسألة، وذلك من علامات المحبة الصادقة 0
ومنها أن في سؤال الله عبودية عظيمة؛ لأنها إظهار للافتقار إليه، واعتراف بقدرته على قضاء الحوائج ، وفي سؤال المخلوق ظلم، لأن المخلوق عاجز عن جلب النفع لنفسه، ودفع الضر عنها فكيف يقدر على ذلك لغيره ؟ وسؤاله إقامة له مقام من يقدر، وليس هو بقادر 0
ومنها أن الله يحب أن يسأل، ويغضب على من لا يسأله، فإنه يريد من عباده أن يرغبوا إليه ويسألوه، ويدعوه ويفتقروا إليه، ويحب الملحين في الدعاء، والمخلوق غالباً يكره أن يُسأل لفقره وعجزه 0
ومنها: أن الله تعالى يستدعي من عباده سؤاله، وينادي كل ليلة: هل من سائل فأعطيه؟ هل من داع فاستجيب له 00 ، فأي وقت دعاه العبد وجده سميعاً قريباً مجيباً، ليس بينه وبينه حجاب ولا بواب، وأما المخلوق؛ فإنه يمتنع بالحجاب والأبواب، ويعسر الوصول إليه في أغلب الأوقات )) 0
ولهذا كان عقوبة من سأل الناس تكثراً أن يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحم، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( ما يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة ليس في وجهه مزعة لحم )0
وقال صلى الله عليه وسلم : ( يا قبيصة إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة، حتى يصيبها ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلّت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش، أو قال سداداً من عيش، ورجل أصابته فاقة، حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجا من قومه: لقد أصابت فلاناً فاقة، فحلت له المسألة، حتى يصيب قواماً من عيش، أو قال سداداً من عيش، فما سواهن من المسألة يا قبيصة سحتاً يأكلها صاحبها سحتاً )0
في هذا الحديث يبين الرسول صلى الله عليه وسلم أن من يحل له المسألة من الناس ثلاثة: الأول : صاحب الحمالة ، وهو أن يكون بين القوم تشاحن، في دم أومال، فيسعى رجل في إصلاح ذات بينهم، ويضمن مالاً يبذل في تسكين ذلك التشاحن، فإنه يحل له السؤال، ويعطى من الصدقة قدر ما تبرأ ذمته عن الضمان، وإن كان غنياً 0
الثاني : أن يكون معروفاً بالمال، فيهلك ماله بسبب ظاهر كالجائحة، فهذا يحل له الصدقة، حتى يصيب ما يسد خلته به، ويعطى من غير بينة، تشهد على هلاك ماله؛ لأن سبب ذهاب ماله أمر ظاهر 0
الثالث : صاحب مال هلك ماله بسبب خفي من لص ، أو خيانة، أو نحو ذلك، فهذا تحل له المسألة، ويعطى من الصدقة بعد أن يذكر جماعة من أهل الاختصاص به، والمعرفة بشأنه أنه قد هلك ماله )) 0
وقد ذكر النووي (ت 676 هـ)، اتفاق العلماء على النهي عن السؤال إذا لم تكن ضرورة، ثم قال: (( واختلف أصحابنا في مسألة القادر على الكسب على وجهين أصحهما أنها حرام؛ لظاهر الأحاديث والثاني حلال مع الكراهية بثلاثة شروط: أن لا يذل نفسه، ولا يلح في السؤال، ولا يؤذي المسؤول؛ فإن فقد أحد هذه الشروط فهي حرام بالاتفاق )) 0
وإذا علم المسلم أن الغني القادر الذي بيده الخير كله هو الله سبحانه ، تربى على الأنفة والاستغناء عن المخلوقين، وعلم أن السبيل الوحيد إلى ذلك هو التعلق بالله تعالى والتوكل عليه، وعبادته والالتجاء إليه، مع الأخذ بأسباب الجد والعمل، وبذلك يحفظ المسلم ماء وجهه من التذلل والسؤال، وخفض الأكف والانكسار للأشخاص مهما كانوا، فيحفظ كرامته، وتبقى له عزته ومكانته 0