لونك المفضل

المنتديات الثقافية - Powered by vBulletin
 

النتائج 1 إلى 20 من 502

الموضوع: أقدم لكم إستشارة نفسية مجانا

العرض المتطور

  1. #1
    Status
    غير متصل

    الصورة الرمزية ضيف الله مهدي
    شخصية مهمة
    تاريخ التسجيل
    10 2006
    المشاركات
    1,832

    مشاركة: أقدم لكم إستشارة نفسية مجانا

    سادسا :
    في قوله صلى الله عليه وسلم : ( وإذا استعنت فاستعن بالله )
    الاستعانة طلب العون من الله تعالى ، بلسان المقال ، كأن تقول ، عند شروعك بالعمل : اللهم أعني ، أو لا حول ولا قوة إلا بالله ، أو بلسان الحال ، وهي أن تشعر بقلبك أنك محتاج إلى الله تعالى أن يعينك على هذا العمل ، وأنه إن وكلك إلى نفسك وكلك إلى ضعف وعجز، أو طلب العون بهما جميعاً، والغالب أن من استعان بلسان المقال فقد استعان بلسان الحال 0
    فتجب الاستعانة بالله تعالى على تحمل الطاعات ، وترك المنهيات، كما تجب الاستعانة به سبحانه على الصبر على المقدورات؛ فإن العبد عاجز عن الاستقلال بنفسه في الإتيان بهذه الأمور، ولا بد له من طلب الإعانة من ربه جل وعلا ، ولا معين للعبد على مصالح دينه ودنياه إلا الله سبحانه ، فمن أعانه الله فهو المعان، ومن فرط في حق الله تعالى، لم يعنه الله، فهو المخذول 0
    يذكر ابن كثير ( ت 774 هـ ) أن الدين كله يرجع إلى العبادة والاستعانة، فالعبادة تبرؤ من الشرك، والاستعانة تبرؤ من الحول والقوة والتفويض إلى الله سبحانه ، وهذا المعنى في غير آية من القرآن 0 مثال ذلك قوله تعالى : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} وقوله تعالى : { قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا }0 وقوله تعالى : { رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْـرِبِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً }0 وقوله : { وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ }0 ونحو ذلك من الآيات 0
    ولهذا أشار الإمام محمد بن عبد الوهاب (ت 1206 هـ)، أن معنى الاستعانة: ((سؤال الله الإعانة وهو التوكل والتبري من الحول والقوة)) 0
    ويعرف أحد العلماء الاستعانة بقوله : (( والاستعانة هي الاعتماد على الله تعالى ، في جلـــب المنافع ، ودفع المضـــار ، مع الثقة به في تحصيل ذلك )) 0
    ويؤكد هذا التعريف قوله تعالى : { إياك نعبد وإياك نستعين }0
    هذه الآية العظيمة التي يتلوها المسلم في كل ركعة من ركعات صلواته، وهي آية من سورة الفاتحة، التي ( هي أعظم السور في القرآن ) 0
    ومعنى { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } : أي نخصك وحدك يا إلهنا بالعبادة والاستعانة ، وذلك لأن تقديم المعمول يفيد الحصر ، وهو إثبات الحكم للمذكور وفيه عما عداه ، ف:انه يقول : نعبدك ، ولا نعبد غيرك ، ونستعين بك ، ولا نستعين بغيرك ، أي نوحدك ونطيعك خاضعين ، ونطلب منك وحدك المعونة على عبادتك وعلى جميع أمورنا 0
    (( وللقيام بعبادة الله تعالى ، والاستعانة به هما الوسيلة للسعادة الأبدية، والنجاة من جميع الشرور، فلا سبيل إلى النجاة إلا بالقيام بهما ، وإنما تكون العبادة عبادة إذا كانت مأخوذة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مقصوداً بها وجه الله ، فبهذين الأمرين تكون عبادة ، وذكر الاستعانة بعد العبادة مع دخولها فيها ، لاحتياج العبد في جميع عباداته إلى الاستعانة بالله تعالى ؛ فإنه إن لم يعنه الله لم يحصل له ما يريده من فعل الأوامر واجتناب النواهي)) 0
    وجاء في الحديث الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم : ( احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز ) 0أي احرص على طاعة الله تعالى ، والرغبة فيما عنده ، واطلب الإعانـة من الله تعالى على ذلك ، ولا تعجز ولا تكسل عن طلب الطاعة، ولا عن طلب الإعانة 0
    ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه خطبة الحاجة ، وهي : ( أن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره 00 ) الحديث 0
    قال شيخ الإسلام ابن تيمية : " وتستحب هذه الخطبة في افتتاح مجالس التعليم ، والوعظ ،والمجادلة ، وليست خاصة بالنكاح " 0
    وعن معــاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيده ، وقال : ( يا معاذ إني والله لأحبك فلا تدعن في دبر كل صلاة أن تقول : اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ) 0
    وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو ويقول : ( رب أعني ، ولا تُعن عليّ ) 0 الحديث 0
    فالمسلم مطالب بالاستعانة بالله تعالى في فعل المأمورات ، واجتناب المنهيات 0
    يقول ابن تيمية عند تفسير قوله تعالى : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } : " وكل واحد من العبادة والاستعانة دعاء ، وإذا كان قد فرض علينا أن نناجيه وندعوه بهاتين الكلمتين في صلاة، فمعلوم أن ذلك يقتضي أنه فرض علينا أن نعبده وأن نستعينه 00، كما أمر بهما في قوله : { فاعبده وتوكل عليه } ، والأمر له ولأمته ، وأمره بذلك في أم القرآن ، وفي غيرها، لأمته؛ ليكون فعلهم ذلك طاعة لله ، وامتثالاً لأمره، لا تقدماً بين يدي الله ورسوله ، وإلى هذين الأصلين كان النبي عليه الصلاة والسلام يقصد في عبادته وأذكاره ومناجاته، مثل قوله في الأضحية: ( اللهم هذا منك ولك وإليك ) ؛ فإن قوله: منــك ، هو معنى التوكـــل والاستعانــة ، وقولــه : لك، هو معنى العبادة " 0
    وقال في موضع آخر: (( فإن الإخلاص والتوكل جماع صلاح الخاصة والعامة، كما أمرنا أن نقول في صلاتنا : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } ، فهــاتان الكلمتــان قد قيل إنهــما تجمعان معانــي الكتب المنزلة من السماء )) 0
    ويذكر ابن القيم أن آية { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } (( متضمنة لأجلّ الغايات وأفضل الوسائل، فأجلّ الغايات عبوديته، وأفضل الوسائل إعانته، فلا معبود يستحق العبادة إلا هو، ولا معين على عبادته غيره، فعبادته أعلى الغايات، وإعانته أجل الوسائل 00، وقد اشتملت هذه الكلمة على نوعي التوحيد، وهما توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، وتضمنت التعبد باسم الرب، واسم الله، فهو يعبد بألوهيته، ويستعان بربوبيته، ويهدي إلى الصراط المستقيم برحمته 00، وهو المنفرد بإعطاء ذلك كله، لا يعين على عبادته سواه، ولا يهدي سواه )) 0
    كما أن العبد مطالب بالصبر والاستعانة بالله تعالى عند وقوع المصائب والابتلاءات، ولهذا قال يعقوب عليه السلام ، عند وقوع مصيبته: { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ } 0
    ولما قال أهل الإفك ما قالوا في عائشة رضي الله عنها قالت : (( والله ما أجد لي ولكم مثلاً إلا أبا يوسف إذ قال : { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} ، فبرأها الله مما قالوا )) 0
    وعندما هدد فرعون موسـى وقومـه ، { قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } ، فجاء الأمر على خلاف ما أراد فرعون؛ إذ أعزهم الله وأذله، وأرغم أنفه، وأغرقه وجنوده 0
    وأخبر الله تعالى عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه لما كذبه قومه : { قَالَ رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُون } ، أي والله المستعان عليكم فيما تقولون وتفترون من التكذيب والإفك 0
    وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يدعو في قنوته بقوله: ( اللهم إنا نستعينك، ونؤمن بك، ونتوكل عليك ) 0
    ولما بشَّر الرسول صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان رضي الله عنه بالجنة ، مع بلوى تصيبه، قال رضي الله عنه: (( اللهم صبراً، الله المستعان )) 0
    وقد قال الرسول عليه الصلاة والسلام لأحد الصحابة : ( قل لا حول ولا قوة إلا بالله؛ فإنها كنز من كنوز الجنة ) 0 يقول ابن حجر (ت 852 هـ) : " تسمى هذه الكلمة كنزاً؛ لأنها كالكنز في نفاسته، وصيانته عن أعين الناس 00 لأن معنى ( لا حول ) لا تحويـل للعبد عن معصية الله إلا بعصمة الله ، ولا قوة له على طاعة الله إلا بتوفيق الله 00 وحاصله أن المراد أنها من ذخائر الجنة، أو من محصلات نفائس الجنة " 0 ويقول النووي : " قال العلماء : سبب ذلك أنها كلمة استسلام وتفويض إلى الله تعالى ، واعتراف بالإذعـان له " 0 فهــي كلمـة عظيــمة تتضمن اعتراف العبد بأنه لا تحول له من حال إلى حال، ولا قوة له على ذلك إلا بإعانة الله وحده. فالاستعانة لا تطلب من أي إنسان، إلا عند الضرورة، وفيما يقدر عليه فقط، وإذا اضطر العبد الاستعانة بالمخلوق فيما يقدر عليه، فعليه أن يجعل ذلك وسيلة وسبباً، لا ركناً يعتمد عليه، وإنما الركن الأصيل الذي يعتمد عليه في الدعاء والسؤال والاستعانة هو الله وحده لا شريك له. كما أنّ على العبد إذا احتاج إلى الاستعانة بالمخلوق، كحمل صندوق مثلاً، أن لا يشعر نفسه أن هذه استعانة كاستعانته بالخالق ، وإنما عليه أن يشعر أنها كمعونة بعض أعضائه لبعض، كما لو عجز عن حمل شيء بيد واحدة، فإنه يستعين على حمله باليد الأخرى0 وعلى هذا فالاستعانة بالمخلوق، فيما يقدر عليه، كالاستعانـــة ببعض الأعضاء، فلا ينافي ذلك قوله تعالى : ( فاستعن بالله ). فإذا وقع العبد في مكروه وشدة فلا بأس أن يستعين بمن له قدرة على تخليصه ، أو الإخبار بحاله بعد الاستعانة بالله تعالى ، ولا يكون هذا شكوى للمخلوق؛ فإنه من الأمور العادية ، التي جرى العرف باستعانة الناس ، بعضهم ببعض، ولهذا قال يوسف عليه السلام للذي ظن أنه ناج من الفتيين : { اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ } 0 والمصيبة العظيمة، والخطر الجسيم فيمن يسأل أو يستعين بأصحاب القبور، أو غيرهم ممن يسمون بالأولياء والصالحين، سواء أكانوا أمواتاً أم أحيـــاء فيسألهـــم ويستعين بهم فيما لا يقدرون عليه من جلب نفع أو دفع ضر، أو رزق ولد، أو دخول الجنة، أو النجاة من النار، ونحو ذلك مما هو واقع في بعض البلاد ، فإن هذا شرك بالله تعالى ، إذ هو وحده القادر على كل شيء، وما دونه من نبي أو ولي لا يملك لنفسه جلب الخير أو دفع الشر إلا بإذنه جل وعلا 0 ولهذا قال الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : { قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوء } ، فهذه الآية تبين جهل من يقصد النبي صلى الله عليه وسلم ، ويدعوه لحصول نفع ، أو دفع ضر، فإنه ليس بيده شيء من الأمر، ولا ينفع من لم ينفعه الله ، ولا يدفع الضر عمن لم يدفعـه الله عنــه ، ولا لــه من العلــم إلا ما علمه الله 0 ويقول الله تبارك وتعالى : { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11) يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُ وَمَا لاَ يَنفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُو لَمَن ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ } ، هذه صفة كل مدعو ومعبود من دون الله ، فإنه لا يملك لنفسه ، ولا لغيره، نفعاً ولا ضراً { ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ } الذي بلغ في البعد حد النهاية، حيث أعرض عن عبادة النافع الضار، الغني المغني ، وأقبل على عبادة مخلوق مثله، أو دونه، ليس بيده من الأمر شيء، بل هو إلى حصول ضد مقصوده أقرب ؛ ولهذا قال تعالى : { يَدْعُو لَمَن ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ } ؛ فإن ضرره في العقــل والبــــــدن، والدنــــيا والآخرة معلوم ، { لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ } أي لبئس هذا المعبود والقرين ، الملازم على صحبته ، فإن المقصود من المولى والعشير حصول النفع ، ودفع الضر، فإذا لم يحصل شيء من هذا، فإنه مذموم ملوم0 ولهذا ينبه الله تعالى على حقارة الأصنام ، وسخافة عقول عابديها بقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ }0 يقول ابن دقيق العيد في شرح هذا الجزء من توجيه رسول الله عليه الصلاة والسلام لابن عباس : (( أرشده إلا التوكل على مولاه ، و أن لا يتخذ إلهاً سواه، ولا يتعلق بغيره ، في جميع أموره، ما قل منها وما كثر، وقال الله تعالى : { وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُه } ، فبقدر ما يركن الشخص إلى غير الله تعالى، بطلبه، أو قلبه، أو بأمله، فقد أعرض عن ربه، بمن لا يضره ولا ينفعه، وكذلك الخوف من غير الله )) 0 ومما يــدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم : ( احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، وإذا سألت فسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله) أن الإيمان يشمل العقائد القلبية، والأقوال، والأعمال ، كما هو المذهب الحق ، وهو قول أهل السنة والجماعة؛ فإن (الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول لا إله إلا الله ، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان ) 0 وهذه الشعب التي ترجع إلى الأعمال الباطنة والظاهرة كلها من الإيمان 0 ويدل هذا الحديث العظيم على أنه من نقص التوحيد أن الإنسان يسأل غير الله ، ولهذا قال العلماء بكراهية المسألة لغير الله سبحانه وتعالى ، في قليل أو كثير، والله سبحانه وتعالى إذا أراد إعانة أحد يسر له العون، سواء أكان بأسباب معلومة أو غير معلومة، فقد يعين الله العبد بسبب غير معلوم له، فيدفع عنه من الشرّ ما لا طاقه لأحد به، وقد يعينه الله على يد أحد من الخلق يسخره له، ويذلّله له حتى يعينه، ولكن مع ذلك لا يجوز للعبد إذا أعانه الله على يد أحد أن ينسى المسبب وهو الله سبحانه وتعالى 0

  2. #2
    Status
    غير متصل

    الصورة الرمزية ضيف الله مهدي
    شخصية مهمة
    تاريخ التسجيل
    10 2006
    المشاركات
    1,832

    مشاركة: أقدم لكم إستشارة نفسية مجانا

    سابعا :
    في قوله عليه الصلاة والسلام : ( واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعـوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك ) 0 يبين الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الكلمات أن الأمة لو اجتمعت واتفقت كلها على نفــــع إنســــان بشيء لم يستطيعــــوا نفعه إلا بشيء قد كتبه الله وقدره له، وإن وقع منهم نفع له فإنما هو من الله تعالى ؛ لأنه هو الذي كتبه وقدره 0 فالرسول عليه الصلاة والسلام لم يقل لو اجتمعت الأمة على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك، وإنما قال: (لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ) ، فالناس ينفع بعضهم بعضاً، لكن كل هذا مما كتبه الله للإنسان، فالفضل فيه لله سبحانه وتعالى أولاً ، فهو الذي سخر لك من ينفعك، ويحسن إليك، ويزيل كربتك 0 وكذلك لو اجتمعت الأمة على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، (( والإيمان بهذا يستلزم أن يكون الإنسان متعلقاً بربه، ومتكلاً عليه، لا يهتم بأحد؛ لأنه يعلم أنه لو اجتمع كل الخلق على أن يضروه بشيء لم يضروه إلا بشيء قد كتبه الله عليه، وحينئــــذ يعلق رجاءه بالله، ويعتصم به، ولا يهمه الخلق، ولو اجتمعوا عليه، ولهذا نجد الناس في سلف هذه الأمة لما اعتمدوا على الله وتوكلوا عليه لم يضرّهم كيد الكائدين، ولا حسد الحاسدين قال تعالى : { وَإِن تَصــــــْبِرُواْ وَتَتَّقـــــُواْ لاَ يَضُرُّكـــــُمْ كَيْدُهـــــــُمْ شَــــــيْئًا إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلــُونَ مُحِــــيط } 0 فالإيمان بالقضاء والقدر، والاعتماد على الله وحده، في كل الشؤون، سكينة واطمئنان للعبد، إذ لا يبالي بما يدبــــره الخلــــق أو يهددونه به، لأنه يعلم أن الخير والشر بتقدير الله تعالى ، والنفع والضر بإرادته وحكمته سبحانه، فلا يســـتطيع أحد من الخلــــق أن يحقـــق للعبد أذى أو ابتلاء إلا بإذن الله تعالى لحكم يريدها سبحانه، بل الله يدافع عنه وينصره ويؤيده، وكذلك لا يستطيع أحد من الخلق تحقيق منفعة للعبد لم يأذن بها الله تعالى. كما أن الإيمان بالقضاء والقدر، وبما جاء في هذا الجزء من الحديث، من أعظم أسباب الشجاعة والإقدام والجهاد، فلن يستطيع الأعداء أن يضروا أحداً بشيء مهما خططوا وتآمروا إلا بشيء قد كتبه الله وقدره لحكم أرادها 0 والشجاعة ليست هي قوة البدن ، فقد يكون الرجل قوي البدن ، ضعيف القلب، وإنما الشجاعة قوة القلب وثباته، فإن القتال مداره على قوة البدن ، وصنعته للقتال ، وعلى قوة القلب وخبرته به، والمحمـــود منهما ما كان بعلم ومعرفــــة، دون التهـــــور الذي لا يفكر صاحبه، ولا يميز بين المحمود والمذموم 0 فهذا الحديث العظيم يوجب الإيمان بالقضاء والقدر ، وهو الركن السادس من أركان الإيمان ، والإيمان به يتضمن الإيمان بمراتبه الأربع ، وهي :
    المرتبة الأولـى ـ الإيمان بعلم الله المحيط بكل شيء، الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ، وأنه تعالى قد علم جميع خلقه قبل أن يخلقهم، وعلم أرزاقهم وأقوالهم وأعمالهم وجميع حركاتهم وسكناتهم، وإسرارهم وعلانياتهم ومن هو منهم من أهل الجنة، ومن هو منهم من أهل النار، قال تعالى : { هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَة }0 وقال سبحانه : { عَالِمِ الْغَيْبِ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ }0 وقال : { وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا }0 وقال صلى الله عليه وسلم : ( إن الله خلق للجنة أهلاً خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم وخلق للنار أهلاً خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم ) 0 ولما سئل صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين قال : ( الله أعلم بما كانوا عاملين) 0 يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في هذا الحديث : (( أي يعلم من يؤمن منهم ومن يكفر لو بلغوا، ثم إنه جاء في حديث إسناده مقارب عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا كان يوم القيامة فإن الله يمتحنهم، و يبعث إليهم رسولاً في عرصة القيامة، فمن أجابه أدخله الجنة، ومن عصاه أدخله النار) 0 فهنالك يظهر فيهم ما علمه الله سبحانه، ويجزيهم على ما ظهر من العلم، وهو إيمانهم وكفرهم، لا على مجرد العلم0 المرتبة الثانية ـ الإيمان بأن الله تعالى قد كتب جميع ما سبق به علمه أنه كائن ، وفي ضمن ذلك الإيمان باللوح والقلم 0 قال تعالى : { وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِين }0 وقال سبحانه : { إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَاب }0 وقال : { وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِــهِ وَمَا يُعَـمَّرُ مِن مُّعَــمَّرٍ وَلاَ يُنقَــــــصُ مِنْ عُــــــــمُرِهِ إِلاَّ فِي كِـــــتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ }0 وقال صلى الله عليه وسلم : ( ما من نفس منفوسة إلا وقد كتب الله مكانها من الجنة والنار وإلا وقد كتب شقية أو سعيدة )0
    المرتبة الثالثة ـ الإيمان بمشيئة الله النافذة ، وقدرته الشاملة، وهما متلازمتان من جهة ما كان وما سيكون ، ولا ملازمة بينهما من جهة ما لم يكن ولا هو كائن ، فما شاء الله تعالى فهو كائن بقدرته لا محالة، وما لم يشأ الله تعالى لم يكن لعدم مشيئة الله إياه، لا لعدم قدرة الله عليه، تعالى الله عن ذلك : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا } 0 ومن أدلة هــــذه المرتبة قوله تعالى : { وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّه }0 وقولـــه تعالــى : { مَن يَشَإِ اللّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } 0 وقوله تعالى : { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } ، وقوله صلى الله عليه وسلم : ( إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء ) ، ثم قال صلى الله عليه وسلم : ( اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك )0
    المرتبة الرابعة ـ الإيمان بأن الله تعالى خالق كل شيء ، وأنه ما من ذرة في السموات ولا في الأرض ولا فيما بينهما إلا والله خالقها وخالق حركاتها وسكناتها ، لا خالق غيره ولا رب ســــواه ، قــــــال تعالى : { اللَّهُ خَالِــــقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ } ، وقال سبحانه : { هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْض } ، وقال تعالى : { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُــم مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُــم مِّن شَـيْءٍ } ، وقال تعالى : { وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } ، وعن حذيفة رضي الله عنه مرفوعاً : ( إن الله يصنع كل صانع وصنعته ) 0 والإيمان بالقدر نظام التوحيد، كما أن الإيمان بالأسباب التي توصل إلى خيره وتحجز عن شره هي نظام الشرع، ولا ينتظم أمر الدين ويستقيم إلا لمن آمن بالقدر وامتثل الشرع ، فمن نفى القدر زاعماً منافاته للشرع فقد عطل الله عن علمه وقدرته ، وجعل العبد مستقلاً بأفعاله خالقاً لها ، فأثبت مع الله تعالى خالقاً، بل أثبت أن جميع المخلوقين خالقون، ومن أثبت القدر محتجاً به على الشرع، نافياً عن العبد قدرته واختياره فقد نسب الله تعالى إلى الظلم 0 وليعلم أن الله سبحانه الذي أمرنا بالإيمان بالقضاء والقدر، أمرنا بالعمل والأخذ بالأسباب ، فقال تعالى : { وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ } ، وقــال الرســـول عليه الصلاة والسلام : ( اعملوا فكل ميسر لما خلق له ) 0 وفي هذا رد على المتخاذلين ، المستسلمين لأهوائهم وشهواتهم، محتجين بتقدير الله تعالى ذلك عليهم، فعلى المسلم أن يحرص على حسن الاتباع لما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام ، مع إخلاص العمل لله تعالى ، وسلامة العقيدة ، والاجتهاد بالأخذ بالأسباب ، والسعي وبذل الجهد، فمن ترك الأسباب محتجاً بالقدر فقد عصى الله تعالى وخالف شرعه 0 والمؤمنون حقاً يؤمنون بالقدر خيره وشره وأن الله خالق أفعال العباد، وينقادون للشرع أمره ونهيه، ويحكمونه في أنفسهم سراً وجهراً، وأن للعباد قدرة على أعمالهم، ولهم مشيئة وإرادة ، وأفعالهم تضاف إليهم حقيقة، وبحسبها كلفوا، وعليها يثابون ويعاقبون، ولكنهم لا يقدرون إلا على ما أقدرهم الله عليه، ولا يشاؤون إلا أن يشاء الله0 قال أبو بكر محمد بن الحسبن الآجُرِّي (ت 360هـ) : " قد جرى القلم بأمره الله سبحانه في اللوح المحفوظ بما يكون، من بِرّ أو فجور، يثني على من عمل بطاعته من عبيده ، ويضيف العمل إلى العباد، ويعدهم عليه الجزاء العظيم، ولولا توفيقه لهم ما عملوا ما استوجبوا به منه الجزاء ، قال تعالى : { ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } 0 وكذا ذم قوماً عملوا بمعصيته، وتوعدهم على العمل بها وأضاف العمل إليهم بما عملوا، وذلك بمقدور جرى عليهم، يضل من يشاء، ويهدي من يشاء " 0
    وقوله صلى الله عليه وسلم في الرواية الثانية : ( واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك وما أصابك لم يكن ليخطئك )، هو توجيه إلى الإيمان بالقضاء والقدر، خيره وشره، فقوله: (واعلم أن ما أخطأك) أي من المقادير فلم يصل إليك، (لم يكن) مقدراً عليك (ليصيبك)؛ لأنه بان بكونه أخطأك أنه مقدر على غيرك، (وما أصابك) منها (لم يكن) مقدراً على غيرك (ليخطئك)، وإنما هو مقدر عليك؛ إذ لا يصيب الإنسان إلا ما قدر عليه، ومعنى ذلك: أنه قد فرغ مما أصابك أو أخطأك من خير وشر، فما أصابك فإصابته لك محتومة لا يمكن أن يخطئك وما أخطأك فسلامتك منه محتومة، فلا يمكن أن يصيبك، قال تعالى : { مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِير } ، وقال تعالى : { قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا }0 وقال سبحانه : { قُـل لَّوْ كُنتُـمْ فِي بُيُوتِكُــمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِــمُ الْقَتْــلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ }0 وثبت في الحديث الصحيح أن رجلاً قال : يا رسول الله فيمَ العمل اليوم ؟ أفيما جفت به الأقلام ، وجرت به المقادير، أم فيما يستقبل ؟ قال : (لا بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير) قال : ففيم العمل ؟ قال : (اعملوا فكل ميسر لما خلق له) 0 فلابد من الإيمان بأن كل ما يصيب العبد مما يضره وينفعه في دنياه فهو مقدر عليه ، وأنه لا يمكن أن يصيبه ما لم يكتب له ولم يقدر عليه ولو اجتهد على ذلك الخلق كلهــم جميعاً 0 قــال تعالى : { مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْـدِ قَلْبَـهُ وَاللَّهُ بِكُـلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }0 يعني أن من أصـابته مصـيبة فعلم أنها بقضاء الله وقدره، فصبر واحتسب ، واستسلم لقضاء الله ، هدى الله قلبه، وعوضه عما فاته من الدنيا هدى في قلبه ويقيناً صادقاً، وقد يخلف عليه ما كان أخذ منه، أو خيراً منه، روى ابن كثير عن ابن عباس أنه قــال، في قوله تعالى : { وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْــدِ قَلْبَهُ } : يعني يهد قلبه لليقين، فيعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيـــــبه 0 يقول ابن دقيق العيد : " هذا هو الإيمان بالقدر، والإيمان به واجــــب، خيره وشــره، و إذا تيقن المؤمن هذا، فما فائدة سؤال غير الله والاستعانة به "0 ومما يجب أن يعلم أن القدر السابق لا يمنع العمل ، ولا يوجب الاتكال عليه ، بل يوجب الجد والاجتهاد، والحرص على العمل الصالح وحسن الاتباع، ولهذا لما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام أصحابه بسبق المقادير وجريانها وجفوف القلم بها، قال بعضهم : أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟ فقال صلى الله عليه وسلم ( اعمـــلوا فكل ميسر ) ، ثم قــــــرأ : { فَأَمَّا مَن أَعْطــــــَى وَاتَّقَى (5) وَصـــــَدَّقَ بِالْحُســْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى } 0 فالله تعالى قدر المقادير وهيأ لها أسباباً، وهو الحكيم بما نصبه من الأسباب في المعاش والمعاد، وقد يسر كلاً من خلقه لما خلقه له في الدنيا والآخرة، فهو مهيأ له ميسر له؛ فإذا علم العبد أن مصالح آخرته مرتبطة بالأسباب الموصلة إليها كان أشد اجتهاداً في فعلها والقيام بها، وأعظم منه في أسباب معاشه ومصالح دنياه، وقد فقه هذا كل الفقه من قال من الصحابة لما سمع أحاديث القدر : ما كنت أشد اجتهاداً مني الآن "0 وقد قال النبـي صلى الله عليه وسلم : ( احرص على ما ينفعـك واستعن بالله ولا تعجز ) ، وروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه لما قيل له : أرأيت دواءً نتداوى به ورقى نسترقيها هل ترد من قدر الله شيئاً ؟ قال : ( هي من قدر الله ) ، يعني إن الله تعالى قدر الخير والشر، وأسباب كل منهما 0 والأسباب وإن عظمت إنما تنفع إذا لم يعارضها القدر والقضاء، فإذا عارضها القدر لم تنفع شيئاً، بل لا بد أن يمضي الله ما كتب في اللوح المحفوظ من الموت والحياة، وعموم المصائب التي تصيب الخلق، من خير وشر، فكلـهــا قد كتب في اللوح المحفوظ، صغيرها وكبيرها، (( وهذا أمر عظيم لا تحيط به العقول، بل تذهل عنه أفئدة أولي الألباب، ولكنه على الله يسير )) 0 ولهذا جاء في الحديث عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر خيره وشره، حتى يعلم أن ما أصابه لم يكــن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه ) 0 يقول ابن رحب : " واعلم أن مدار جميع هذه الوصية من النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس على هذا الأصل ، وما بعده وما قبله متفرع عليه وراجع إليه، فإنه إذا علم العبد أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له، من خير أو شر، أو نفع أو ضر، وأن اجتهاد الخلق كلهم جميعاً على خلاف المقدور غير مفيد شيئاً البتة، علم حينئذ أن الله تعالى وحده هو الضار النافع ، والمعطي المانع ، فأوجب ذلك للعبد توحيد ربه تعالى ، وإفراده بالاستعانة والسؤال والتضرع والابتهال، وإفراده أيضاً بالعبادة والطاعة، لأن المعبود إنما يقصد بعبادته جلب المنافع ودفع المضار، ولهذا ذم الله تعالى من يعبــد ما لا ينفــع ولا يضر، ولا يغني عن عابده شيئاً، وأيضاً فكثير ممن لا يحقق الإيمان وقلبه يقدّم طاعة مخلوق على طاعة الله رجاء نفعه أو دفعاً لضره، فإذا تحقق العبد تفرد الله وحده بالنفع والضر، وبالعطاء والمنع، أوجب ذلك إفراده بالطاعة والعبادة، ويقدم طاعته على طاعة الخلق كلهم جميعــاً، كما يوجب ذلك أيضاً إفــراده ســبحانه بالاســتعانة به والطلب منه " 0 ثم قال أيضاً شارحاً حديث ابن عباس : (( ثم عقب ذلك بذكر إفراد الله بالسؤال و إفراده بالاستعانة، وذلك يشمل حال الشدة وحال الرخاء ، ثم ذكر بعد هذا كله الأصل الجامع الذي تنبني عليه هذه المطالب كلها ، وهو تفرد الله تعالى بالضر والنفع والعطاء والمنع، وإنه لا يصيب العبد في ذلك كله إلا ما سبق تقديره و قضاه له، و أن الخلق كلهم عاجزون عن إيصال نفع أو ضر غير مقدر في الكتاب السابق ، و تحقيق هذا يقتضي انقطاع العبد عن التعلق بالخلق، وعن سؤالهم واستعانتهم ورجائهم بجلب نفع أو دفع ضر، وخوفهم من إيصال ضر أو منع نفع، وذلك يستلزم إفراد الله سبحانه بالطاعة و العبادة أيضاً، وأن يقدم طاعته على طاعة الخلق كلهم جميعاً، وأن يتقي ســــخطه، ولو كان فيه سخط الخلق جميعاً "0 وفي قوله صلى الله عليه وسلم : ( وما أصابك لم يكن ليخطئك ) أعظم وقاية ضد القلق النفسي ، وسائر الهواجس والاضطرابات النفسية، التي يشتكي منها كثير من الناس، حتى سماها بعضهم بمرض العصر، فمن آمن بهذا الحديث اطمأن قلبه وانشرح صدره، وعلم أن كل ذلك بقضاء الله وقدره، وأنه خير له، فيبتعد عن التضجر والزفرات والحسرات، جاء في الحديث الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم : ( المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك ، واستعن بالله ، ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل : لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل؛ فإن لو تفتح عمل الشيطان ) 0

  3. #3
    Status
    غير متصل

    الصورة الرمزية ضيف الله مهدي
    شخصية مهمة
    تاريخ التسجيل
    10 2006
    المشاركات
    1,832

    مشاركة: أقدم لكم إستشارة نفسية مجانا

    ثامنا :
    في قوله صلى الله عليه وسلم رفعت الأقلام وجفت الصحف )أي تركت الكتابة في الصحف، لفراغ الأمر وانبرامه منذ أمد بعيد، فقد تقدم كتابة المقادير كلها، فما كتبه الله فقد انتهى ورُفع، والصحف جفت من المداد، ولم يبق مراجعة 0 فما أخطئك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك 0 وهذا يدل على أن ما في علم الله تعالى ، أو ما أثبته سبحانه في أم الكتاب ثابت لا يتبدل ولا يتغير ولا ينسخ ، وما وقع وما سيقع كله بعلمه تعالى وتقديره ، وهذه الجملة من الحديث تأكيد لما سبق من الإيمان بالقدر، والتوكل على الله وحده، وأن لا يتخذ إلهاً سواه، فإذا تيقن المؤمن هذا فما فائدة سؤال غير الله والاســتعانة به ، ولهذا قال : ( رفعت الأقلام وجفت الصحف ) : أي لا يكون خلاف ما ذكرت لك بنسخ ولا تبديل 0
    ويشهد لهذا قوله تعالى : { مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِير} 0
    وقوله صلى الله عليه وسلم ( إن أول ما خلق الله القلم ، فقال له : اكتب ، قال : يا رب ، وما أكتب ؟ قال : اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة ) 0
    وقوله صلى الله عليه وسلم : ( كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة ) 0
    وعن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( فرغ الله إلى كل عبد من خمس : من أجله ، ورزقه ، وأثره ، ومضجعه ، وشقي أو سعيد ) 0
    وعن جابر رضي الله عنه أن رجلاً قال : يا رسول الله فيم العمل اليوم ؟ أفيما جفّت به الأقلام وجرت به المقادير، أم فيما يستقبل ؟ قال : ( لا، بل فيما جفت به الأقـــــلام وجرت به المقاديـــر) قال: ففيـــــم العمــــل ؟ قال: ( اعملــــوا فكل ميسر ) 0
    وعن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( خلق الله كل نفس، وكتب حياتها، ورزقها، ومصائبها ) 0
    وفي قوله: ( رفعت الأقلام ) جاءت ( الأقلام ) في هذا الحديث وفي غيره، مجموعة، فدل ذلك على أن للمقادير أقلاماً، وقد ذكر العلماء أقساماً للأقلام ، وهي :
    القلم الأول ـ العام الشامل لجميع المخلوقات، وهو القلم الذي خلقه الله وكتب به في اللوح المحفوظ مقادير الخلائق ، وهذا أول الأقلام وأفضلها وأجلها، كما دل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : ( أول ما خلق الله تعالى القلم ، فقال له : اكتب ، قال : يا رب ، وما أكتب ؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة ) 0
    القلم الثاني ـ قلم الوحي : وهو الذي يكتب به وحي الله إلى أنبيائه ورسله ، وقد رفع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به إلى مستوى يسمع فيه صريف الأقلام ، فهذه الأقلام هي التي تكتب ما يوجبه الله تبارك وتعالى من الأمور التي يدبر بها أمر العالم العلوي والسُّفلي 0
    القلم الثالث ـ حين خلق آدم عليه الصلاة والسلام ، وهو قلم عام أيضاً، لكن لبني آدم 0
    القلم الرابع ـ حين يُرسل الملك إلى الجنين في بطن أمه ، فينفخ فيه الروح ، ويأمر بأربع كلمات : يكتب رزقه ، وأجله ، وعمله ، وشقي أو سعيد، كما قال صلى الله عليه وسلم إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك ، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويأمر بأربع كلمات: يكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أم سعيد ) 0
    القلم الخامس ـ الموضوع على العبد، الذي بأيدي الكرام الكاتبين ، الذين يكتبون ما يفعله بنو آدم، كما قال تعالى : { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ }0
    وقوله صلى الله عليه وسلم : ( رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، والمجنون حتى يعقل، وعن الصبي حتى يحتلم ) 0
    وقد اختلف العلماء هل القلم أول المخلوقات أم العرش ؟
    ـ فقيل بأن العرش قبل القلم لقوله صلى الله عليه وسلم : ( كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء)، فهذا صريح أن التقدير وقع بعد خلق العرش، والتقدير وقع عند أول خلق القلم 0
    ـ وقيل بأن القلم أول المخلوقات بدليل قوله صلى الله عليه وسلم : ( أول ما خلق الله تعالى القلم فقال له: اكتب، قال: يا رب وما أكتب ؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة ) 0
    ولعل القول الأول أصح للحديث الصريح الصحيح السابق الذي يدل على أن العرش مخلـوق قبل تقدير الله مقادير الخلق، أما قوله صلى الله عليه وسلم : ( أول ما خلق الله القلم فقال له اكتب ) فإن معناه: عند أول خلقه قال له اكتب، ويدل عليه لفظ : ( أول ما خلق اللـه القـلم قال له اكتب )، بنصب (أولَ) و (القلمَ)، وحملت رواية الرفع ( أولُ) و( القلمُ) على أن القلم أول المخلوقات من هذا العالم، فيتفق الحديثان؛ إذ حديث القول الأول يدل على أن العرش سابق على التقدير، وحديث القول الثاني يدل على أن التقدير مقارن لخلق القلم 0
    وقد رجح القول الأول ابن تيمية، وذكر أنه مذهب (( كثير في السلف والخلف )) 0
    هذا وقد رجح بعض أهل العلم أن القلم أول مخلوق، واستدل برواية: (إن أول شيء خلقه الله تعالى القلم، وأمره أن يكتب كل شيء يكون ) 0 قال الألباني رحمه الله : " وفيه رد على من يقول بأن العرش هو أول مخلوق، ولا نص في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم 00 فالأخذ بهذا الحديث ـ وفي معناه أحاديث أخرى ـ أولى ؛ لأنه نص في المسألة، ولا اجتهاد في مورد النص ، كما هو معلوم ، وتأويله بأن القلم مخلوق بعد العرش باطل ؛ لأنه يصح مثل هذا التأويل لو كان هناك نص قاطع على أن العرش أول المخلوقات كلها ، ومنها القلـــم ، أما ومثل هذا النص مفقـود، فلا يجــوز هذا التأويل " 0
    والإيمان باللوح والقلم هو من الإيمان بالقضاء والقدر، ولهذا يذكرهما هل العلم ضمن الإيمان بالمرتبة الثانية من مراتب الإيمان بالقدر، وهي مرتبة الإيمان بكتابة المقادير، ويدخل في هذه المرتبة خمسة من التقادير هي :
    الأول ـ التقدير الأزلي : وهو كتابة المقادير قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، عندما خلق الله القلم ، قال تعالى : { مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِير } ، وقال الرسول عليه الصلاة والسلام : ( كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألـف سـنة ، قـال : وكان عرشـه على المـاء ) ، وقال صلى الله عليه وسلم: ( أول ما خلق الله القلم، فقال له: أكتب، فقال: يا رب وماذا أكتب ؟ فقال: أكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة ) 0
    الثاني ـ التقدير العمري ، حين أخذ الميثاق ، قال تعالى : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِين } ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم عليه السلام بنعمان ـ يعني عرفه ـ فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها، فنشرها بين يديه، ثم كلمهـم قبلاً، قال تعالى : { أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا } إلى قولـه تعالى : { المبطلون } 0
    الثالث ـ التقدير العمري أيضاً، عند تخليق النطفة في الرحم، قـــال تعالى : { هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلاَ تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذا أنتم أجنة في بطون أمهاتكم فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى } ، وقوله صلى الله عليه وسلم: ( إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة ، ثم يكون علقة مثل ذلك ، ثم يكون مضغة مثل ذلك ، ثم يرسل إليه الملك ، فينفخ فيه الروح ، ويؤمر بأربـــع كلمـــات ، يكتب رزقــه ، وأجله ، وعمله ، وشقي أو سعيد 00) الحديث 0
    الرابع ـ التقدير الحولي ، في ليلة القدر، قال تعالى : { فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا } 0
    الخامس ـ التقدير اليومي ، قال تعالى : { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ }0
    وكل هذه التقادير كالتفصيل في القدر السابق ، وهو الأزلي الذي أمر الله تعالى القلم عند خلقه أن يكتبه في اللوح المحفوظ ، وبذلك فسر ابن عمـــر وابن عـــباس رضي الله عنهم قولـــه تعالــى : { إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } ، وكل ذلك صادر عن علم الله الذي هو صفته تبارك وتعالى 0

  4. #4
    Status
    غير متصل

    الصورة الرمزية ضيف الله مهدي
    شخصية مهمة
    تاريخ التسجيل
    10 2006
    المشاركات
    1,832

    مشاركة: أقدم لكم إستشارة نفسية مجانا

    تاسعا :
    في قوله صلى الله عليه وسلم تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة ) 0
    يعني أن العبد إذا اتقى الله وحفظ حدوده وراعى حقوقه في حال رخائه ، فقد تعرف بذلك إلى الله، فعرفه ربه في الشدة ، ورعى له تعرفه إليه في الرخاء، فنجاه من الشدائد بهذه المعرفة 0
    يذكر ابن رجب أن معرفة العبد لربه نوعان :
    أحدهما ـ المعرفة العامة ، وهي معرفة الإقرار به والإيمان ، وهذه عامة للمؤمنين 0
    والثاني ـ معرفة خاصة تقتضي ميل القلب إلى الله بالكلية، والانقطاع إليه 0
    كما يذكر ابن رجب أن معرفة الله لعبده نوعان ، أيضاً، هما :
    الأول ـ معرفة عامة ، وهي علمه تعالى بعباده وإطلاعه عليهم ، قال تعالى : { هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَإِذْ أَنتــُمْ أَجِــنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكـــُم } ، وقال تعالى : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ } 0
    والثاني ـ معرفـة خاصة ، وهي تقتضي المحبة وإجابة الدعاء ونحو ذلك 0
    ويقول ابن علان ( ت 1057 هـ ) : " ( تعرّف ) بتشديد الراء : أي تحبب ( إلى الله في الرخاء ) بالدأب في الطاعات، والإنفاق في وجوه القرب والمثوبات، حتى تكون متصفاً عنده بذلك، معروفاً به، ( يعرفك في الشدة ) بتفريجها عنك، وجعله لك من كل ضيق فرجاً، ومن كل هم مخرجاً، بواسطة ما سلف منك من ذلك التصرف " 0
    والمراد بقوله صلى الله عليه وسلم ( يعرفك في الشدة ) : أي المعرفة الخاصة التي تقتضي النصر والتأييد والقرب 0 قال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى : ( وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه ) 0
    فمتى تعرّف العبد إلى الله في الرخاء المعرفة التامة الخاصة، وذلك بحرصه على إكمال إخلاص عبادته، وخضوعه لله تعالى، واتباعه لرسوله e، عرفه الله في كل وقت، وبخاصة في وقت الشدائد والكرب، فينصره الله ويؤيده، ويسدده في سمعه وبصره، ويده ورجله، ويعطيه سؤاله، ويعيذه ويحفظه 0
    يقول صلى الله عليه وسلم : ( من سره أن يستجيب الله له عند الشدائد والكرب؛ فليكثر الدعاء في الرخاء ) 0
    والنبي يونس عليه السلام إنما نجاه الله بـسبب ذكــره الله في الرخاء، قال تعالى : { وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } 0
    يقول الطبري : " يقول تعالى ذكره : { فلولا أنه } يعني يونس كان من المصلين لله، قبل البلاء، الذي ابتلي به من العقوبة بالحبس في بطن الحوت ، للبث في بطنه إلى يوم يبعثون 00 ، ولكنه كان من الذاكرين الله قبل البلاء، فذكره الله في حال البلاء؛ فأنقذه ونجاه " ، وأشار إلى هذا القول ابن كثير بقوله : " قيل لولا ما تقدم له من العمل في الرخاء " تم نسبه إلى بعض أهل العلم 0 واستدل عليه بحديث ابن عباس رضي الله عنهما ، وقيل معناه لولا أنه سبح الله في بطن الحوت، وقال ما قال من التهليل والتسبيح، والتوبة إلى الله 0
    وفرعون كان طاغياً باغياً، فلما أدركه الغرق { قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِين } ، فقال الله تعالى له :{آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ } ، أي أهذا الوقت تقول، وقد عصيت الله قبل هذا فيما بينك وبينه، وكنت من المفسدين في الأرض الذين أضلوا الناس، فهو سبحانه يبين أن هذا الإيمان في هذه الحالة غير نافع له 0
    ومن اتقى الله في جميع أحواله جعل الله له مخرجاً من المضائق والمحن، يقول الله تعالى : { وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِب } ، أي من يتق الله يجعل له مخرجاً ونجاه من كل كرب في الدنيا والآخرة، ومن كل شيء ضاق على الناس، ويرزقه من جهة لا تخطر بباله، ولهذا يروى عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال عن هذه الآية بأنها أكبر آية في القرآن فرجاً 0 فكل من اتقى الله ولازم مرضاته في جميع أحواله، فإن الله يثبته في الدنيا والآخرة، ومن جملة ثوابه أن يجعل له فرجاً ومخرجاً من كل شدة ومشـقة ، ويســوق الله الـــرزق للمتقي من وجه لا يحتسبه ولا يشعر به 0
    وإذا كان من يتقي الله يجعل له فرجاً ومخرجاً، فإن من لم يتق الله يقع في الآصار والأغلال والشدائد التي لا يقدر على التخلص منها، والخروج من تبعاتها 0 قال تعالى : { إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ} 0
    وقال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ }0
    وقوله سبحانه : { إِنَّ الَّذِينَ قَالـــُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اســـــْتَقَامُوا فَلاَ خــَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنــُونَ (13) أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 0
    فمن عرف الله واسـتقام على شرعه تنزلت عليه الملائكــة بأن لا يخاف ولا يحزن، ويبشرونه بالجنة، وذلك عند موته وفي قبره وحين يبعث، وقيل بأن هذا التنزّل عند الاحتضار، والصحيح بأنه في الأحوال الثلاثة المذكورة آنفاً؛ ولهذا قال ابن كثير بعد ذكره أن البشارة من الملائكة للعبد تكون عند الموت، وفي القبر، وحين البعث : (( وهذا القول يجمع الأقوال كلها، وهو حسن جداً، وهو الواقع )) 0
    وإذا علم من قوله صلى الله عليه وسلم : ( تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة ) أن التعرف إلى الله في الرخاء يؤدي إلى معرفة الله لعبده في الشدة، وعلم بأن شدة الموت من أعظم الشدائد التي يلقاها العبد المؤمن، فالواجب المبادرة بالاستقامة والاستعداد للموت بالأعمال الصالحة وإخلاصها لله وحده لا شريك له، فهي السبيل إلى تنزل الملائكة على العبد المؤمن عند الاحتضار بألا يخاف ولا يحزن والبشارة له بالجنة؛ كل ذلك في وقت الشدائد والكرب عند الموت، وفي القبر، وحين البعث، فلا بد من الاستعداد لتلك الأهوال العظيمة؛ فإن المرء لا يدري متى يفاجئه الموت، ويقبل على تلك الشدائد 0
    يقول الطبري في تفسير الآيات السابقة في سورة فصلت : " يقول تعالى ذكره : إن الذين قالوا ربنا الله وحده لا شريك له، وبرئوا من الآلهة والأنداد، ثم استقاموا على توحيد الله، ولم يخلطوا توحيد الله بشرك غيره به، وانتهوا إلى طاعته فيما أمر ونهى 00 ، تتهبط عليهم الملائكة عند نزول الموت بهم 00 ، قائلة: لا تخافوا ما تقدمون عليه من بعد مماتكم، ولا تحزنوا على ما تخلفونه وراءكم 00 ، وقيل إن ذلك في الآخرة ، وقوله تعالى : { وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ } يقول : وسروا بأن لكم في الآخرة الجنة التي كنتم توعدونها في الدنيا على إيمانكم بالله واستقامتكم على طاعته " 0
    ويقول في تفسير آية الأحقاف : " يقول تعالى ذكره: إن الذين قالوا ربنا الله الذي لا إله غيره ثم استقاموا على تصديقهم بذلك فلم يخلطوه بشرك، ولم يخالفوا الله في أمره ونهيه، فلا خوف عليهم من فزع يوم القيامة وأهواله، ولا هم يحزنـــون على ما خلفـــوا وراءهــــم بعد مماتهم، وقولـه تعالى : { أولئك أصحاب الجنة } يقول تعالى ذكره: هؤلاء الذين قالوا هذا القول واستقاموا أهل الجنة وسكانها { خالدين فيها } يقول : ماكثين فيها أبداً ، { جزاء بما كانوا يعملون } يقول : ثواباً منا لهم ، آتيناهم ذلك على أعمالـهم الصالحة، التي كانوا في الدنيا يعملونها " 0
    فلا بد من الاستقامة على شرع الله ، والحرص على سلامة التوحيد مما قد يشوبه، في حال الصحة والرخاء، وفي جميع الأحوال، والاستعداد للقاء الله، فمن عرف الله في هذه الأحوال عرفه الله عند الشدائد فكان معه بتأييده وتوفيقه، يعينه ويتولاه، ويثبته على التوحيد، في الحياة وعند الممات، ومن نسي الله في حال صحته ورخائه، ولـم يستعد للقائه نسـيه الله ، قال تعالى :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } 0
    ويجب التعرف إلى الله في رخاء العيش، وتكاثر الأموال، وذلك بأن تكون مصادرها حلالاً، بعيدة عن الربا، ونحوه، وأن تؤتى زكاتها، وينفق على أوجه الخير منها، ويحذر من الطغيان والإنفاق على المحرمات والمنهيات، فمن تعرف إلى الله في أمواله، وتصرف فيها وفق الشرع الحكيم عرفه الله في الشدة، و ذلك بأن يسهل له أبواب الرزق، ويسدده لاستعماله على الوجه المطلوب شرعاً، ويلهمه شكره وحمد الله تعالى عليه، قال تعالى : { وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِب } ، وقال سبحانه : { وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا } ، وقال عن أهل الكتاب : { وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِـم مِّن رَّبِّهـِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم} ، أي لو أنهم عملوا بما في الكتب التي بأيديهم عن الأنبياء على ما هي عليه، من غير تحريف ولا تبديل ، ولا تغيير، لقادهم ذلك إلى اتباع الحق، والعمل بمقتضى ما بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم ؛ فإن كتبهم ناطقة بتصديقه، والأمر باتباعه، حتماً لا محالة، ومن ثم { لأكلوا } يعني بذلك كثرة الرزق النازل عليهم من السماء ، والنابت لهم من الأرض 0
    وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ( يا معشر المهاجرين، خمس إذا ابتليتم بهن، وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط ، حتى يعلنوا بها، إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا ولم ينقصوا المكيال والميزان، إلا أخذوا بالسنين، وشدة المؤونة، وجور السلطان عليهم ، ولم يمنعوا زكاة أموالهم، إلا منعوا القطر من السماء، ولو لا البهائم لم يمطروا ، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله، إلا سلّط الله عليهم عدواً من غيرهم، فأخذوا بعض ما في أيديهم ، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله، ويتخيروا مما أنزل الله، إلا جعل الله بأسهم بينهم ) 0
    وفي رواية : ( ما نقض قوم العهد قط إلا كان القتل بينهم، وما ظهرت فاحشة في قوم قط إلا سلط الله تعالى عليهم الموت ، ولا منع قوم الزكاة، إلا حبس الله عنهم القطر ) 0
    فمن عمل لله بالطاعة في جميع أوقاته ، ولا سيما في الرخاء، عرفه الله في الشّدة ووجده تجاهه ينصره ويؤيده ويفرج عنه، كما جرى للثلاثة الذين أصابهم المطر فأووا إلى غار فانحدرت صخرة فانطبقت عليهم، فقالوا: انظروا ما عملتم من الأعمال الصالحة، فاسألوا الله تعالى بها، فإنه ينجيكم، فذكر كل واحد منهم سابقة سبقت له مع ربه في الرخاء، فانحدرت عنهم الصخرة، فخرجوا يمشون 0

  5. #5
    Status
    غير متصل

    الصورة الرمزية ضيف الله مهدي
    شخصية مهمة
    تاريخ التسجيل
    10 2006
    المشاركات
    1,832

    مشاركة: أقدم لكم إستشارة نفسية مجانا

    عاشرا :
    في قوله صلى الله عليه وسلم : ( واعلم أن النصر مع الصبر )
    يجب على كل مسلم أن يعلم علم اليقين أن النصر مع الصبر، فإذا صبر وفعل ما أمره الله به من وسائل النصر؛ فإن الله تعالى ينصره؛ لأن العدو يصيب الإنسان من كل جهة فقد يشعر الإنسان أنه لن يطيق عدوه فيستحسر ويدع الجهاد، وقد يشرع في الجهاد، فإذا أصابه الأذى استحسر، وتوقف، وقد يستمر، فيصيبه الألم من عدوه، فيكون عرضة لليأس والخذلان، فهذه الأمور كلها يجب الصبر عليها، والحذر من اليأس وأسبابه، وليعلم المسلم أن الصبر من أعظم أسباب النصر 0 قال تعالى : { وَلاَتَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (139) إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ } 0
    في هاتين الآيتين يخاطب الله تعالى عباده المؤمنين لما أصيبوا يوم أحد، وقتل منهم سبعون، مسلياً لهم قائلاً : { ولا تهنوا } أي لا تضعفـوا بسبب ما جرى { ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين } أي العاقبة والنصر لكم أيها المؤمنون ، { إن يمسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله } أي إن كنتم قد أصابتكم جراح ، وقتل منكم طائفة فقد أصاب أعداءكم قريب من ذلك من قتل وجراح، ثم قال تعالى : { وتلك الأيام نداولها بين الناس } أي نديل عليكم الأعداء تارة، وإن كانت لكـم العاقبة لما لنا في ذلك من الحكمة؛ ولهذا قال تعالى : { وليعلم الله الذين آمنوا} أي لنرى من يصبر على مناجزة الأعداء، { ويتخذ منكم شهداء } يعني يقتلون في سبيله، ويبذلون مهجهم في مرضاته، ثم قال تعالى : { وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين } ، أي يكفر عنهم ذنوبهم ، إن كانت لهم ذنوب، وإلا رفع لهم في درجاتهم بحسب ما أصيبوا به، أما الكافرون فإنهم إذا ظفروا وبغوا وبطروا فيكون ذلك سبب دمارهم وهلاكهم ومحقهم وفنائهم 0
    ومن كلام السعدي رحمه الله في تفسير هذه الآيات قوله : " يقول تعالى مشجعاً لعباده المؤمنين، ومقوياً لعزائمهم، ومنهضاً لهممهم ، { ولا تهنوا ولا تحزنوا} أي: ولا تهنوا أو تضعفوا في أبدانكم، ولا تحزنوا في قلوبكم عندما أصابتكم المصيبة، وابتليتم بهذه البلوى؛ فإن الحزن في القلوب، والوهن على الأبدان، زيادة مصيبة عليكم، وأعون لعدوكم عليكم، بل شجعوا قلوبكم، وصبروها، وادفعوا عنها الحزن، وتصلبوا على قتال عدوكم، وذكر تعالى أنه لا يليق بهم الوهن والحزن، وهم الأعلون في الإيمان، ورجاء نصر الله وثوابه، فالمؤمــن المبتغــي ما وعد الله من الثواب الدنيوي والأخروي لا ينبغي له ذلك 00 " 0
    وقال تعالى : { وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا } 0
    أي لا تضعفوا في طلب عدوكم، بل جدّوا فيهم، وقاتلوهم، واقعدوا لهم كل مرصد، فكما يصيبكم الجراح والقتل، كذلك يحصل لهم، وأنتم وإياهم سواء فيما يصيبكم وإياهم من الجراح والآلام، ولكن أنتم ترجون من الله المثوبة والنصر والتأييد كما وعدكـم إياه في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ، وهم لا يرجون شيئاً من ذلك، فأنتم أولى بالجهاد منهم، وأشد رغبة فيه، وفي إقامة كلمة الله وإعلانها، وهو سبحانه أعلم وأحكم فيما يقدره ويقضيه، وينفذه ويمضيه في أحكامه الكونية والشرعية، فإذا صبر الإنسان وصابر ورابط؛ فإن الله سبحانه ينصره 0
    فهذه النصائح والتوجيهات توجب للمؤمن المصدق زيادة القوة، وتضاعف النشاط ، والشجاعة التامة؛ لأن من يقاتل ويصبر على نيل عزّه الدنيوي، إن ناله، ليس كمن يقاتل ويصبر لنيل السعادة الدنيوية والأخروية، والفوز برضوان الله وجنته 0
    وفي قوله صلى الله عليه وسلم : ( واعلم أن النصر مع الصبر ) تنبيه على أن الناس في هذه الدار معرضون للمحن والمصائب وطروق المنغصات والمتاعب، لا سيما الصالحون منهم، فينبغي للمسلم أن يصبر ويحتسب، ويرضى بالقضاء والقدر، وينتظر وعد الله تعالى له بأن عليه صلوات من ربه ورحمة وبأنه المهتدى ، قال تعالى : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ (156) أُولَـئِكَ عَلَيْهِـــمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُون } ، فالنصر من الله تعالى للعبد على جميع أعداء دينه ودنياه إنما يوجد ( مع الصبر ) على طاعته، وعن معصيته، فهو سبب للنصر، ولهذا فإن الغالب على من انتصر لنفسه عدم النصر والظفر، وعلى من صبر ورضي بقضاء الله تعالى وحكمه تعجيلهما له كما هو المعهود من مزيد كرمه وإحسانه 0
    ولهذا يقول الله تعالى : { وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرين } ؛ لأنه سبب لنصرهم على أعدائهــم وأنفسهم وإعلاء لدرجاتهم ، وقال تعالى : { كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَــتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِين } 0
    يقول السعدي رحمه الله في تفسير قوله تعالى : { ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع 00} الآيات : " أخبر تعالى أنه لا بد أن يبتلي عباده بالمحن؛ ليتبين الصادق من الكاذب، والجازع من الصابر، وهذه سنته تعالى في عباده؛ لأن السراء لو استمرت لأهل الإيمان، ولم يحصل معها محنة، لحصل الاختلاط الذي هو فساد، وحكمة الله تقتضي تمييز أهل الخير من أهل الشر، هذه فائدة المحن 00، فهذه الأمور لا بد أن تقع، لأن العليم الخبير أخبر بها فوقعت كما أخبر، فإذا وقعت انقسم الناس قسمين : جازعين وصابرين، فالجازع حصلت له المصيبتان، فوات المحبوب، وهو وجود هذه المصيبة، وفوات ما هو أعظم منها، وهو الأجر بامتثال أمر الله بالصبر، ففاز بالخسارة والحرمان، ونقص ما معه من الإيمان، وفاته الصبر والرضا والشكران، وحصل له السخط الدال على شدة النقصان 0 وأما من وفقه الله للصبر عند وجود هذه المصائب، فحبس نفسه عن التسخط قولاً وفعلاً، واحتسب أجرها عند الله، وعلم أن ما يدركه من الأجر بصبره أعظم من المصيبة التي حصلت له، بل المصيبة تكون نعمة في حقه؛ لأنها صارت طريقاً لحصول ما هو خير له وأنفع منها؛ فقد امتثل أمر الله، وفاز بالثواب؛ فلهذا قال تعالى : { وبشر الصابرين 00} أي: بشّرهم بأنهم يوفون أجرهم بغير حساب، فالصابرون هم الذين فازوا بالبشارة العظيمة، والمنحة الجسيمة ، فكون العبد لله، وراجعاً إليه، من أقوى أسباب النصر00 ودلّت هذه الآية على أن من لم يصبر فله ضد ما لهم، فحصل له الذم من الله، والعقوبة والضلال والخسارة، فما أعظم الفرق بين الفريقين 00، فقد اشتملت هاتان الآيتان على توطين النفوس على المصائب قبل وقوعها؛ لتخف وتسهل إذا وقعت، وبيان ما تقابل به إذا وقعت، وهو الصبر، وبيان ما يعين على الصبر، وما للصابرين من الأجر، ويعلم حال غير الصابر بضد حال الصابر00 " 0
    ويقول صلى الله عليه وسلم : ( عجباً لأمر المؤمن ، إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له) 0
    وقال صلى الله عليه وسلم : ( إن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن صبر فله الصبر، ومن جزع فله الجزع )0 يدل هذا الحديث على أن صاحب البلاء يكون محبوباً عند الله تعالى إذا صبر على البلاء ورضي بقضاء الله سبحانه وتعالى 0 ومن الأدلة التي تؤكد أن النصر مع الصبر كثرة الآيات والأحاديث التي تأمر بالصبر عند لقاء العدو، منها: قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُون } ، وقوله : { فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ } ، وقوله تعالى في قصة طالوت : { فَلَمَّـا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِين }، وقولـه : { بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُــم مِّن فَوْرِهِــمْ هَـذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ } ، وقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون } 0
    وقوله صلى الله عليه وسلم : ( لا تمنّوا لقاء العدو، فإذا لقيتموهم فاصبروا ) 0
    والمسلم في هذه الحياة معرض لفتن كثيرة، ومعارك متنوعة، وابتلاءات في الأموال والأنفس، وأذى من المشركين والمخالفين، وأعظم أسباب الانتصار على كل هذا العقيدة السليمة، والعمل الصـــالح، والصبر والاحتساب، قال تعالى : { لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكـُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسـْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيرًا وَإِن تَصـْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُور } 0
    وإذا عظمت المحنة كان الصبر للمؤمن الصالح سبباً لعلو الدرجة، وعظيم الأجر، كما سئل النبي صلى الله عليه وسلم أي الناس أشد بلاء ؟ قال : ( الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه؛ فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه، وإن كان في دينه رقة خفف عنه، وما يزال البلاء بالمؤمن حتى يمشي على الأرض وليس عليه خطيئة ) 0 وحينئذ يحتاج من الصبر إلى ما لا يحتـاج إليه غيـره، وذلك هو سـبب الإمامة في الدين كما قال تعالى : { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ } ، فلابد من الصبر على فعل الحسن المأمور، وترك السيئ المحظور، ويدخل في ذلك الصبر على الأذى، وعلى ما يُقال، والصبر على ما يصيبه من المكاره، والصبر عن البطر عند النعم، وغير ذلك من أنواع الصبر، ولا يمكن العبد أن يصبر إن لم يكن له ما يطمئن له، ويتنعم به، وهو اليقين، ..؛ فالحاجة إلى السماحة والصبر عامة لجميع بني آدم، لا تقوم مصلحة دينهم ولا دنياهم إلا بهما0 فالذي يستقيم على شرع الله ويحفظ حدوده ، ويصبر على العبادة ، وعلى ما يصيبه من الابتلاءات ، ويرضى بقضاء الله وقدره ، يتولاه الله ، ويوصل إليه مصالحه، وييسر له منافعه الدينية والدنيوية ، وينصره على عدوه ، ويدفع عنه كيد الفجار وتكالب الأشرار ، قال تعالى: { فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَوْلاَكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} ، ومن كان الله مولاه وناصره فلا خوف عليه، ومن كان الله عليه فلا عزّ له، ولا قائمة تقوم له 0
    فالصبر أمر واجب لا بد منه ؛ فإن الله تعالى أمر بالصبر ووعد عليه الأجر العظيم ، قــال تعالــى : { إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَاب} ، وقال سبحانه : { وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ } ، وقال تعالى : { وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِــكَ الَّذِينَ صَدَقــُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّــقُونَ } ، وقال تعالى : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ } 0
    ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( من يتصبّر يصبّره الله ، وما أعطى أحد عطاءً خيراً ولا أوسع من الصبر ) 0
    ولهذا قال عمر بن الخطاب: (( وجدنا خير عيشنا الصبر )) 0
    كما يجب أن يكون الـصبر عند الصدمة الأولى للمصيبة أو الحادثة ، قال صلى الله عليه وسلم : { إنما الصبر عند الصدقة الأولى } 0 قـال ابن حجر: (( والمعنى إذا وقـــع الثبات أول شــيء يهجـم على القلب من مقتضيات الـجـزع فذلك هو الصـبر الكامـل ، الذي يترتـب عليه الأجـــر )) ، ثم نقل قول الخطابي (ت388هـ) : (( المعنى أن الصبر الذي يحمد عليه صاحبه ما كان عند مفاجأة المصيبة، بخلاف ما بعد ذلك فإنه على الأيام يسلو )) 0
    فالصبر واجب في كل الأحوال، فيجب الصبر على العبادة وإقامة شرع الله تعالى، ويجب الصبر وحبس النفس عن المحرمات والمنهيات، ويجب الصبر عند وقوع المصائب والابتلاءات، وفي ميادين القتال ومنازلة الكفار0
    أما بالنسبة إلى الرضا بالقضاء ، فيختلف حكمه باختلاف الأمور السابقة؛ فإن الرضا بالواجبات الشرعية واجب من حيث إنه قدر الله وقضاؤه، ومن حيث المقضي إذ الرضا بالواجبات الشرعية والعمل بهما واجب، أما بالنسبة للمعاصي والمحرمات فمن حيث القضاء الذي هو فعل الله فيجب الرضا و أن الله تعالى حكيم ولولا حكمته اقتضت وجودها ما وقعت، وأما من حيث المقضي وهو معصية الله والوقوع في المحرمات فيجب عدم الرضا بها والسعي لإزالتها، أما المصائب والابتلاءات فيجب الرضا بها من حيث إنها قضاء الله وفعله، أما الرضا من حيث وقوعها على العبد فإنه مستحب عند جمهور أهل العلم 0
    وأما الفرق بين الصبر والرضا؛ فإن الصبر كف النفس و حبسها عن التسخط مع وجود الألم، والرضا يوجب انشراح الصدر وسعته، وإن وجد الإحساس بأصل الألم، لكن الرضا يخفف الإحساس بالألم 0
    يقول ابن القيم : " وأما حديث (الرضا بالقضاء) فيقال : أولاً ـ بأي كتاب : أم بأي سنة ، أم بأي معقول علمتم وجوب الرضا بكل ما يقضيه ويقدره ؟ بل بجواز ذلك، فضلاً عن وجوبه ؟ هذا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وأدلة العقول ليس في شيء منها الأمر بذلك، ولا إباحته، بل من المقضي ما يرضى به، ومنه ما يسخطه ويمقته، فلا نرضى بكل قضاء ويقال : ثانياً : هاهنا أمران ( قضاء ) وهـو فعل قائم بذات الرب تعالى ؛ و ( مقضي ) وهو المفعول المنفصل عنه، فالقضاء خير كله، وعدل وحكمة، فيرضى به كله، والمقضي قسمان، منه ما يرضى به، ومنه ما لا يرضى به 00، ويقال : ثالثاً : القضاء له وجهان: أحدهما: تعلقه بالرب تعالى، ونسبته إليه، فمن هذا الوجه يرضى به كله، الوجه الثاني: تعلقه بالعبد، ونسبته إليه، فمن هذا الوجه ينقسم إلى ما يرضى به، وإلى ما لا يرضى به " 0
    وفي موضع آخر ذكر ابن القيم أن الناس تنازعــوا في الرضا بالقضاء (( هل هو واجب أو مستحب ؟ على قولين، وهما وجهان لأصحاب أحمد، فمنهم من أوجبه واحتج على وجوبه بأنه من لوازم الرضا بالله رباً، وذلك واجب 00، ومنهم من قال هو مسـتحب غير واجب؛ فإن الإيجاب يستلزم دليلاً شرعياً، ولا دليل يدل على الوجوب، وهذا القول أرجح؛ فإن الرضا من مقامات الإحسان، التي هي من أعلى المندوبات )) ، ولعل مراده هنا الرضا بالمصـائـب من حيث وقوعها على العبـد، بدليل قوله بعد ذلك : (( الحكم والقضاء نوعان : ديني وكوني، فالديني يجب الرضا به، وهو من لوازم الإسلام، والكوني منه ما يجب الرضا به كالنعم ، التي يجب شكرهــا، ومن تمام شكرهـا: الرضا بها، ومنه ما لا يجوز الرضا به كالمعايب والذنوب التي يسخطها الله، وإن كانت بقضائه وقدره، ومنه ما يستحب الرضا به كالمصائب، وفي وجوبه قولان ، هذا كله في الرضاء بالقضاء الذي هو المقضي، وأما القضاء الذي هو وصفه سبحانه وفعله، كعلمه وكتابته وتقديره ومشيئته فالرضا به من تمام الرضا بالله رباً وإلهاً ومالكاً ومدبراً )) 0

  6. #6
    Status
    غير متصل

    الصورة الرمزية ضيف الله مهدي
    شخصية مهمة
    تاريخ التسجيل
    10 2006
    المشاركات
    1,832

    مشاركة: أقدم لكم إستشارة نفسية مجانا

    الحادي عشر :
    في قوله صلى الله عليه وسلم : ( واعلم أن الفرج مع الكرب ) 0
    كلما اشتدت الأمور واكتربت وضاقت؛ فإن الفرج بإذن الله تعالى قريب؛ يدل على ذلك قوله تعالى : { أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّــوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَــاء الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ } 0(( فكلما اشتدت الأمور فانتظر الفرج من الله سبحانه )) 0
    يقول السعدي في تفسير هذه الآية : (( أي : هل يجيب المضطرب، الذي أقلقته الكروب، وتعسر عليه المطلوب، واضطر للخلاص مما هو فيه إلا الله وحده ؟، ومن يكشف الســوء، أي : البلاء، والشر، و النقمة إلا الله وحده؟، ومن يجعلكم خلفاء الأرض ، يمكنكم منها ، ويمد لكم بالرزق ، ويوصل إليكم نعمه ، وتكونون خلفاء من قبلكم ، كما أنه سيميتكم ويأتي بقوم بعدكم ، أإله مع الله ، يفعل هذه الأفعال ؟ 0
    لا أحد يفعل مع الله شيئاً من ذلك ، حتى بإقراركم أيها المشركون ؛ ولهذا كانوا إذا مسهم الضر، دعوا الله مخلصين له الدين، لعلمهم أنه وحده المقتدر على دفعه و إزالته ، { قليلاَ ما تذكرون } أي : قليل تذكركم وتدبركم للأمور التي إذا تذكرتموها ادكرتم، ورجعتم إلى الهدى، ولكن الغفلة والإعراض شامل لكم، فلذلك ما ارعويتم ولا اهتديتم)0
    والكرب إذا اشتد و أيس العبد من جميع المخلوقين، وتعلق قلبه بالله وحده، وهذا هو حقيقة التوكل على الله، وهو من أعظم ما تطلب به الحوائج، ومن توكل على ربه كفاه 0{ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُه } 0
    فالفرج يحصل سريعاً مع الكرب، فلا دوام للكرب، وحينئذ فيحسن لمن نزل به كرب أن يكون صابراً محتسباً، راجياً سرعة الفرج مما نزل به، حسن الظن بمولاه، في جميع أموره، فالله تبارك وتعالى أرحم به من كل راحم، حتى أمه وأبيه؛ إذ هو سبحانه أرحم الراحمين 0
    ويشهد لهذا المعنى قوله تعالى : { وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ } ، وقوله تعالى : { اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاء كَيْفَ يَشَاء وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِـــلاَلِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَــاء مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِــرُونَ (48) وَإِن كَانُـوا مِن قَبْــلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِــم مِّن قَبْلِــهِ لَمُبْلِسِينَ } ، فهؤلاء القوم الذين أصابهم هذا المطر كانوا قانطين من نزوله إليهم قبل ذلك، فلما جاءهم جاءهم على كرب وشدة وفاقة فوقع منهم موقعاً عظيماً، فكان فرجاً وتيسيراً0
    وقد قصّ الله تعالى في كتابه قصصاً كثيرة تتضمن وقوع الفرج بعد الكرب والشدة، كقصة نجاة نوح عليه الصلاة والسلام، ومن معه، في الفلك من الكرب العظيم، مع إغراق سائر أهل الأرض، وقصة نجاة إبراهيم عليه الصلاة والسلام من النار التي ألقاه المشركون فيها، وأنه سبحانه جعلها عليه برداً وسلاماً، وقصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام مع ولده الذي أمر بذبحه، ثم فداه الله بذبح عظيم، وقصة موسى عليه الصلاة والسلام مع أمه لما ألقته في اليم حتى التقطه آل فرعون، وقصته مع فرعون لما نجى الله موسى في البحر وأغرق عدوه، وقصص أيوب ويونس ويعقوب ويوسف عليهم الصلاة والسلام، وقصص محمد e في نصره على أعدائه ونجاته منهم في عدة مواطن، مثل قصته في الغار، ويوم بدر، ويوم أحد، ويوم حنين، وكذا قصة عائشة في حديث الإفك، والبراءة منه، وقصة الثلاثة الذين خلفوا، وغير ذلك من قصص القرآن الكريم وأخباره 0
    وفي السنّة أخبار كثيرة من تفريج الكرب عند اشتدادها، كقصة الثلاثة الذين دخلوا الغار فانطبقت عليهم الصخرة، فدعوا الله بأعمالهم الصالحة ففرج عنهم ، وقصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام وسارة مع الجبار الذي طلبها من إبراهيم عليه الصلاة والسلام فرد الله كيد الظالم ، وعندما اشتكى رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو قائم يخطب يوم الجمعة، احتباس المطر وجهد الناس، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه فاستسقى لهم، فنشأ السحاب ومطروا إلى الجمعة الأخرى، حتى قاموا إليه e وطلبوا منه أن يستصحي لهم، ففعل فأقلعت السماء ، إلى غير ذلك من القصص و الأخبار الثابتة 0
    والعبد معرض للمصائب والفتن، فقد تشتد عليه الأمور، وتضيق عليه الدنيا، ويتمكن منه الهم والحزن؛ فإذا صبر واحتسب، ولم ييأس من نصر الله وفرجه، والتجأ إلى مولاه بالدعاء والتضرع، في جميع أحواله، جاءه النصر والتأييد والفرج 0
    يروى عن الشافعي (ت 204هـ) قوله :
    صبراً جميلاً ما أقرب الفرجا
    من راقــب الله في الأمور نجـا
    من صدق الله لم ينـــــله أذى
    ومن رجـاه يكون حيث رجـا

  7. #7
    Status
    غير متصل

    الصورة الرمزية ضيف الله مهدي
    شخصية مهمة
    تاريخ التسجيل
    10 2006
    المشاركات
    1,832

    مشاركة: أقدم لكم إستشارة نفسية مجانا

    الثاني عشر والأخير :
    في قوله صلى الله عليه وسلم وإن مع العسر يسراً )
    أي أن كل عسر بعده يسر، بل إن العسر محفوف بيسرين ، يُسر سابق ويســر لاحـــق ، قال تعالى : { فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا }
    يقول السعدي رحمه الله : " وقوله : { فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا } : بشارة عظيمة أنه كلما وجد عسر وصعوبة؛ فإن اليسر يقاربه ويصاحبه 00 وتعريف ( العسر ) في الآيتين يدل على أنه واحد، وتنكير (اليسر ) يدل على تكراره، فلن يغلب عسر يسرين 0
    وفي تعريفه بالألف واللام، الدال على الاستغراق والعموم دلالة على أن كل عــســر، وإن بلــغ من الصعوبـة ما بلغ ، فإنه في آخــره اليــــسر ملازم له " 0
    ويـــدل على ذلك أيضـاً قوله تعالى : { سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا } ، ففي هذه الآية بشارة للمعسرين بأن الله تعالى سيزيل عنهم الشدة، ويرفع عنهم المشقة 0
    والكرب والعسر والشدة أمور تصقل العبد وتصفيه من الشوائب؛ إذ تزيد من تعلقه بربه والالتجاء إليه بإخلاص وحسن إتباع ، فتطهره من ذنوبه إذا صبر واحتسب، وأخلص وتابع، والعسر لا يدوم بالعبد بل معه اليسر والفرج 0
    وقد استدل ابن كثير رحمه الله على هذه المسألة، بحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، جاء في إحدى رواياته، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : أصاب رجلاً حاجةٌ، فخرج إلى البرية، فقالت امرأته: اللهم ارزقنا ما نعتجن ، وما نختبز، فجاء الرجل والجفنة ملأى عجيناً، وفي التنور حبوب الشواء، والرحى تطحن، فقال: من أين هذا ؟ قالت: من رزق الله، فكنس ما حول الرحى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لو تركها لدارت أو طحنت إلى يوم القيامة ) 0
    و يدل على أن العسر إذا اشتد بالعبد؛ فإن بعده اليسر بإذن الله تعالى، قوله سبحانه : { حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا }0 وقوله :{ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيب } 0 فهنا يذكر الله تعالى أن نصره ينزل على رسله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين عند ضيق الحال وانتظار الفرج من الله، في أحرج الأوقات، وكما تكون الشدة ينزل من النصر مثلها 0
    يقول السعدي رحمه الله عند تفسير الآية السابقة من سورة البقرة : " يخبر تبارك وتعالى أنه لا بد أن يمتحن عباده بالسراء والضراء والمشقة، كما فعل بمن قبلهم، فهي سنته الجارية، التي لا تتغير ولا تتبدل، أن من قام بدينه وشرعه لا بد أن يبتليه؛ فإن صبر على أمر الله، ولم يبال بالمكاره الواقعة في سبيله، فهو الصادق الذي قد نال من السعادة كمالها، ومن السيادة آلتها، ومن جعل فتنة الناس كعذاب الله؛ بأن صدته المكاره عما هو بصدده، وثنته المحن عن مقصده، فهو الكاذب في دعوى الإيمان؛ فإنه ليس الإيمان بالتحلي والتمني، ومجرد الدعاوى، حتى تصدقه الأعمال أو تكذبه، فقد جرى على الأمم الأقدمين ما ذكر الله عنهم { مستهم البأساء والضراء } أي الفقر والأمراض في أبدانهم، { وزلزلوا } بأنواع المخاوف من التهديد بالقتل والنفي ، وأخذ الأموال ، وقتل الأحبة، وأنواع المضار، حتى وصلت بهم الحال، وآل بهم الزلزال إلى أن استبطؤوا نصر الله مع يقينهم به، ولكن لشدة الأمر وضيقه { يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله } ، فلما كان الفرج عند الشدة، وكلما ضاق الأمر اتسع، قال تعالى : { ألا إن نصر الله قريب } فهكذا كل من قام بالحق فإنه يمتحن، فكلما اشتدت عليه وصعبت ـ إذا صابر وثابر على ما هو عليه ـ انقلبت المحنة في حقه منحة ، والمشاق راحات، وأعقبه ذلك الانتصار على الأعداء، وشفاء ما في قلبه من الداء " 0
    وأخبر تعالى عن يعقوب عليه الصلاة والسلام أنه لم ييأس من لقاء يوسف عليه الصلاة والسلام وأخيه ، وقال : { عَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا } ، وقال لبنيــه : { يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُـــفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِــن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَـــوْمُ الْكَافِرُون }0
    فمن فوائد هذه القصة (( أن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً؛ فإنه لما طال الحزن على يعقوب، واشتد به إلى أنهى ما يكون، ثم حصل الاضطرار لآل يعقوب، ومسهم الضر، أذن الله حينئذ بالفرج، وحصل التلاقي في أشد الأوقات إليه حاجة واضطراراً، فتم بذلك الأجر، وحصل السرور، وعلم من ذلك أن الله يبتلي أولياءه بالشدة والرخاء والعسر واليســـر، ليمتحن صبرهـــم وشكرهم، ويزداد بذلك إيمانهم ويقينهم وعرفانهم )) 0
    وقد ذكر بعض أهل العلم أموراً عدّوها من حكم اقتران الفرج باشتداد الكرب، واقتران اليسر بالعسر، فمن ذلك :
    1ـ أن الكرب إذا اشتد وعظم وتناهى وجد الإياس من كشفه من جهة المخلوقين، ووقع التعلق بالله وحده ، فحينئذ يستجيب الله له ويكشف عنه ما به، فإن التوكل هو قطع الاستشراف باليأس من المخلوقين ، والاعتماد على الله وحده لا شريك له، والتوكل على الله من أعظم الأسباب التي تطلب بها الحوائج؛ فإن الله يكفي من توكل عليه، كما قال تعالى : { وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } 0
    2ـ أن العبد إذا وقع في عسر، واشتد عليه الكرب؛ فإنه يحتاج إلى مجاهدة نفسه، والشيطان، لأن الشيطان قد يأتيه فيقنطه، فيحتاج العبد إلى مجاهدته ودفعه، فيكون ثواب ذلك دفع البلاء عنه، وتيسير أمره، وتفريج كربته، ولهذا جاء في الحديث: ( يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، فيقول: قد دعوت فلم يستجب لي، فيدَعُ الدعاء ) 0
    3ـ أن العبد إذا استبطأ الفرج، ولا سيما بعد الدعاء والتضرع، رجع باللائمة إلى نفسه، وبحث عن تقصيره، فأصلح خطأه، وعالج نقصه 0

    الحديث والشرح من دراســــة عقـــــدية

    للدكتور / محمد بن عبد العزيز بن أحمد العلي
    أستاذ مساعد بقسم العقيدة والمذاهب المعاصرة - بكلية أصول الدين-الرياض
    جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •