ثامنا :
في قوله صلى الله عليه وسلم رفعت الأقلام وجفت الصحف )أي تركت الكتابة في الصحف، لفراغ الأمر وانبرامه منذ أمد بعيد، فقد تقدم كتابة المقادير كلها، فما كتبه الله فقد انتهى ورُفع، والصحف جفت من المداد، ولم يبق مراجعة 0 فما أخطئك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك 0 وهذا يدل على أن ما في علم الله تعالى ، أو ما أثبته سبحانه في أم الكتاب ثابت لا يتبدل ولا يتغير ولا ينسخ ، وما وقع وما سيقع كله بعلمه تعالى وتقديره ، وهذه الجملة من الحديث تأكيد لما سبق من الإيمان بالقدر، والتوكل على الله وحده، وأن لا يتخذ إلهاً سواه، فإذا تيقن المؤمن هذا فما فائدة سؤال غير الله والاســتعانة به ، ولهذا قال : ( رفعت الأقلام وجفت الصحف ) : أي لا يكون خلاف ما ذكرت لك بنسخ ولا تبديل 0
ويشهد لهذا قوله تعالى : { مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِير} 0
وقوله صلى الله عليه وسلم ( إن أول ما خلق الله القلم ، فقال له : اكتب ، قال : يا رب ، وما أكتب ؟ قال : اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة ) 0
وقوله صلى الله عليه وسلم : ( كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة ) 0
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( فرغ الله إلى كل عبد من خمس : من أجله ، ورزقه ، وأثره ، ومضجعه ، وشقي أو سعيد ) 0
وعن جابر رضي الله عنه أن رجلاً قال : يا رسول الله فيم العمل اليوم ؟ أفيما جفّت به الأقلام وجرت به المقادير، أم فيما يستقبل ؟ قال : ( لا، بل فيما جفت به الأقـــــلام وجرت به المقاديـــر) قال: ففيـــــم العمــــل ؟ قال: ( اعملــــوا فكل ميسر ) 0
وعن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( خلق الله كل نفس، وكتب حياتها، ورزقها، ومصائبها ) 0
وفي قوله: ( رفعت الأقلام ) جاءت ( الأقلام ) في هذا الحديث وفي غيره، مجموعة، فدل ذلك على أن للمقادير أقلاماً، وقد ذكر العلماء أقساماً للأقلام ، وهي :
القلم الأول ـ العام الشامل لجميع المخلوقات، وهو القلم الذي خلقه الله وكتب به في اللوح المحفوظ مقادير الخلائق ، وهذا أول الأقلام وأفضلها وأجلها، كما دل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : ( أول ما خلق الله تعالى القلم ، فقال له : اكتب ، قال : يا رب ، وما أكتب ؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة ) 0
القلم الثاني ـ قلم الوحي : وهو الذي يكتب به وحي الله إلى أنبيائه ورسله ، وقد رفع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به إلى مستوى يسمع فيه صريف الأقلام ، فهذه الأقلام هي التي تكتب ما يوجبه الله تبارك وتعالى من الأمور التي يدبر بها أمر العالم العلوي والسُّفلي 0
القلم الثالث ـ حين خلق آدم عليه الصلاة والسلام ، وهو قلم عام أيضاً، لكن لبني آدم 0
القلم الرابع ـ حين يُرسل الملك إلى الجنين في بطن أمه ، فينفخ فيه الروح ، ويأمر بأربع كلمات : يكتب رزقه ، وأجله ، وعمله ، وشقي أو سعيد، كما قال صلى الله عليه وسلم إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك ، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويأمر بأربع كلمات: يكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أم سعيد ) 0
القلم الخامس ـ الموضوع على العبد، الذي بأيدي الكرام الكاتبين ، الذين يكتبون ما يفعله بنو آدم، كما قال تعالى : { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ }0
وقوله صلى الله عليه وسلم : ( رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، والمجنون حتى يعقل، وعن الصبي حتى يحتلم ) 0
وقد اختلف العلماء هل القلم أول المخلوقات أم العرش ؟
ـ فقيل بأن العرش قبل القلم لقوله صلى الله عليه وسلم : ( كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء)، فهذا صريح أن التقدير وقع بعد خلق العرش، والتقدير وقع عند أول خلق القلم 0
ـ وقيل بأن القلم أول المخلوقات بدليل قوله صلى الله عليه وسلم : ( أول ما خلق الله تعالى القلم فقال له: اكتب، قال: يا رب وما أكتب ؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة ) 0
ولعل القول الأول أصح للحديث الصريح الصحيح السابق الذي يدل على أن العرش مخلـوق قبل تقدير الله مقادير الخلق، أما قوله صلى الله عليه وسلم : ( أول ما خلق الله القلم فقال له اكتب ) فإن معناه: عند أول خلقه قال له اكتب، ويدل عليه لفظ : ( أول ما خلق اللـه القـلم قال له اكتب )، بنصب (أولَ) و (القلمَ)، وحملت رواية الرفع ( أولُ) و( القلمُ) على أن القلم أول المخلوقات من هذا العالم، فيتفق الحديثان؛ إذ حديث القول الأول يدل على أن العرش سابق على التقدير، وحديث القول الثاني يدل على أن التقدير مقارن لخلق القلم 0
وقد رجح القول الأول ابن تيمية، وذكر أنه مذهب (( كثير في السلف والخلف )) 0
هذا وقد رجح بعض أهل العلم أن القلم أول مخلوق، واستدل برواية: (إن أول شيء خلقه الله تعالى القلم، وأمره أن يكتب كل شيء يكون ) 0 قال الألباني رحمه الله : " وفيه رد على من يقول بأن العرش هو أول مخلوق، ولا نص في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم 00 فالأخذ بهذا الحديث ـ وفي معناه أحاديث أخرى ـ أولى ؛ لأنه نص في المسألة، ولا اجتهاد في مورد النص ، كما هو معلوم ، وتأويله بأن القلم مخلوق بعد العرش باطل ؛ لأنه يصح مثل هذا التأويل لو كان هناك نص قاطع على أن العرش أول المخلوقات كلها ، ومنها القلـــم ، أما ومثل هذا النص مفقـود، فلا يجــوز هذا التأويل " 0
والإيمان باللوح والقلم هو من الإيمان بالقضاء والقدر، ولهذا يذكرهما هل العلم ضمن الإيمان بالمرتبة الثانية من مراتب الإيمان بالقدر، وهي مرتبة الإيمان بكتابة المقادير، ويدخل في هذه المرتبة خمسة من التقادير هي :
الأول ـ التقدير الأزلي : وهو كتابة المقادير قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، عندما خلق الله القلم ، قال تعالى : { مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِير } ، وقال الرسول عليه الصلاة والسلام : ( كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألـف سـنة ، قـال : وكان عرشـه على المـاء ) ، وقال صلى الله عليه وسلم: ( أول ما خلق الله القلم، فقال له: أكتب، فقال: يا رب وماذا أكتب ؟ فقال: أكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة ) 0
الثاني ـ التقدير العمري ، حين أخذ الميثاق ، قال تعالى : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِين } ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم عليه السلام بنعمان ـ يعني عرفه ـ فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها، فنشرها بين يديه، ثم كلمهـم قبلاً، قال تعالى : { أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا } إلى قولـه تعالى : { المبطلون } 0
الثالث ـ التقدير العمري أيضاً، عند تخليق النطفة في الرحم، قـــال تعالى : { هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلاَ تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذا أنتم أجنة في بطون أمهاتكم فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى } ، وقوله صلى الله عليه وسلم: ( إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة ، ثم يكون علقة مثل ذلك ، ثم يكون مضغة مثل ذلك ، ثم يرسل إليه الملك ، فينفخ فيه الروح ، ويؤمر بأربـــع كلمـــات ، يكتب رزقــه ، وأجله ، وعمله ، وشقي أو سعيد 00) الحديث 0
الرابع ـ التقدير الحولي ، في ليلة القدر، قال تعالى : { فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا } 0
الخامس ـ التقدير اليومي ، قال تعالى : { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ }0
وكل هذه التقادير كالتفصيل في القدر السابق ، وهو الأزلي الذي أمر الله تعالى القلم عند خلقه أن يكتبه في اللوح المحفوظ ، وبذلك فسر ابن عمـــر وابن عـــباس رضي الله عنهم قولـــه تعالــى : { إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } ، وكل ذلك صادر عن علم الله الذي هو صفته تبارك وتعالى 0