رمى بنفسه على مقعد سيارته الوثير، نظر إلى نفسه في المرآة. قام بتعديل وضع عقاله القابع فوق شماغه السوبر دي لوكس، ربط حزام الأمان وانطلق في شوارع المدينة. الطريق معبّد بشكل جيد. لا تشققات. لا مطبات أو حفر.. لا يوجد أثر للوحات المعتادة.. احترس أمامك تحويلة والعبارات المشابهة التي أدمن قراءتها منذ زمن طويل. الجو جميل مع رياح خفيفة تتمايل معها الاشجار المزروعة على الرصيف بشكل متناسق وسط زخات من المطر. استغرب لأنه لم ير مياه الامطار تتجمع في الطريق، أين وايتات البلدية ومواطير الشفط؟ السيارات تسير في الطريق في خطوط متوازية ودون أي ضوضاء ودون حوادث تصادم.
شعر بالسعادة وهو في حالة ذهول قطعه عليه رنين هاتفه الجوال. كان أبنه الكبير والذي تخرج لتوه من الجامعة وهو يزف إليه خبر تعيينه على وظيفة مرموقة وقبول أخيه في الجامعة نسبته 70% «معقولة!!» قالها الأب بينما الابن ما زال مسترسلاً في اخبار والده أن اخته فريال هي أيضاً صدر قرار لتعيينها معلمة في نفس المدينة ولم يتبق على مباشرتها العمل سوى أن تحدد المدرسة التي ترغب العمل بها. كاد الأب أن يطير من الفرحة.
لمح لوحة مكتوب عليها إدارة الهاتف. تذكر أنه لم يسدد ما عليه منذ أربعة أشهر، انحرف يميناً إلى مبنى الهاتف.. أوقف سيارته في المواقف المخصصة للمراجعين والمغطاة بمظلات من الالمنيوم. دلف إلى داخل المبنى.. نسمات من الهواء البارد الصادر من أجهزة التكييف المركزي تداعب وجهه.. مجموعة من المراجعين تقف في طوابير منتظمة. حالة من السكون تخيم على المبنى. أتى دوره لاستلام فاتورته خلال دقائق قليلة. حدق فيها. أعادها للموظف للتأكد من صحة المبلغ المطلوب منه تسديده. ابتسم الموظف وهو يعيد له فاتورته ويؤكد له صحة المبلغ لأن الشركة قامت بتخفيض تعرفة الدقيقة إلى 13 هللة «يارب عقبال الكهرباء»، قالها وهو يخرج متجهاً إلى المواقف.
خطرت له فكرة زيارة والدته في قريتهم الصغيرة وهو يسير على أحد الطرق الفرعية فاتجه إلى الطريق السريع ذي المسارات الأربعة. توقف عند محطة الوقود لتعبئة خزان سيارته وترجل لشراء بعض المياه الغازية لزوم السفر من السوبر ماركت الملحق بالمحطة. اتجه إلى الصحف اليومية. أخذ مجموعة منها .. تصفح العناوين الرئيسية. «السلطة الفلسطينية تقيم دولتها على كامل الضفة الغربية والقدس عاصمة ابدية لها». «سوريا تستعيد هضبة الجولان وتفاوض تركيا على استعادة اللواء السليب». «فريق الوحدة يحقق بطولة الدوري». «شركة الهاتف تعلن عن وجود أربعين ألف وظيفة». دفع الحساب لجميع أغراضه وخرج إلى سيارته ناول عامل المحطة من محفظته خمسين ريالاً وهو يدير المحرك.
انطلق في الطريق السريع باتجاه قريته وادار مؤشر الراديو فأتاه صوت فيروز مغرداً (يا داره دوري فينا). ولكن الصوت انقطع فجأة وتحول إلى صوت غاضب: «يا عويّض.. يا عويّض.. قِمْ جِبْ لنا وايت ماء ولا تنسى تمر الكهرب تراهم قطعوه»، فتح عينيه فوجد زوجته تقف عابسة أمامه.. لم يرد عليها.. اتجه إلى النافذة وقفز .
مسعد الحارثي / جدة