الزمن : أعقد المفاهيم
بقلم الكاتب : (نبيل حاجي نائف)
لقد تكلم الكثيرون عن الزمن , وقيل الكثير من التفسيرات له ولكن لا زال مفهوم الزمن فيه الكثير من
الالتباس لأن هناك الكثير من التفسيرات والتعريفات له , وهذه بعضها :
- الزمن هو أكثر أمور الحياة تعقيداً .
- الزمن تصّور ينشأ لدى الإنسان من ملاحظته للتغيّرات في الأشياء سواء كانت حركيّة أو كيفية
- ربما يكون مصطلح الزمن الأعصى على التعريف ، فالزمن أمر نحس به أو نقيسه أو نقوم بتخمينه ،
و هو يختلف باختلاف وجهة النظر التي ننظر بها بحيث يمكننا الحديث عن زمن نفسي أو زمن
فيزيائي أو زمن تخيلي .
لكن يمكننا حصر الزمن مبدئيا بالإحساس الجماعي للناس كافة على توالي الأحداث بشكل لا رجوع فيه ،
هذا التوالي الذي يتجلى أكثر ما يتجلى بتوالي الليل و النهار و تعاقب الأيام فرض على الناس تخيل
الزمن بشكل نهر جار باتجاه محدد لا عودة فيه .
- إن الزمن من الأمور التي شغلت تفكير الإنسان وحاول تفسيره لأنه شيء غير مادي ولا ملموس
ولكن الإنسان يشعر به ويستخدمه في تقدير أموره وفي تقييمها. والبحث أحيانا في بعض المفاهيم
البديهية يزيدها غموضا ومنها مفهوم الزمن.
- الكلام عن الزمن بشكل عام طالما مثَّل إشكالية للجميع ، خصوصاً لعلماء الفيزياء ...
فنحن حتى يومنا هذا ، لا نملك تعريفاً واضحاً وواقعياً للزمن ، مما يرجع بنا دائماً إلى نطاق الفلسفة ،
وأحياناً الخيال العلمي
- في قاموس (أوكسفورد) الإنجليزي ، نجد أن الزمن هو:
" التقدم المستمر وغير المحدَّد للوجود وللأحداث في الماضي والحاضر والمستقبل كمنظومة واحدة "
- لقد اعتبر الزمن على أنه أحد المطلقات , فالفترات الزمنية الفاصلة بين حدثين مختلفين ثابت بالنسبة لكافة
المراقبين ، و هذا أمر حافظ عليه نيوتن باعتباره الزمن شيئا مطلقا كونيا فتغيرات الزمن ثابتة في جميع
أنحاء الكون ، و هو يجري أبدا كما هو بالنسبة لجملة فيزيائية تتحرك بانتظام أو بتسارع ، تتحرك حركة
دائرية أو مستقيمة .
- وسعى الكثير من الفلاسفة القدماء لتفسير وتعريف الزمن ، وكان معظمهم يؤمن أن الزمن هو الجوهر
الذي حوله تقوم الحياة.
ويقال أن أول محاولة لفلسفة الزمن جاءت على لسان (بتاح حتب) الفرعوني . و في كتاب (العهد القديم) ،
نستطيع أن نستشف من كلام الملك (سليمان) أن الزمن هو "وسط لحدوث القدر الإلهي . وفي القرن
الخامس قبل الميلاد ، خرج علينا الفيلسوف (هيرقليطس) بقوله أن مرور الزمن وأن المستقبل كلاهما
يقع خارج نطاق التحكم الإنساني ، وأن كل شيء مصيره التغيير ، وأن كل ما هو سيكون سيكون .
و قال (أنطيفون) أن الزمن ليس حقيقياً ، بل هو مجرد مبدأ أو مقياس .
وقال الفيلسوف (بارمينيدس) أن الزمن عبارة عن وهم. (نيوتن) قال أن هناك زمن مطلق وزمن نسبى .
و (ليبنز) قال أن الزمان والمكان يكوِّنان منظومة فكرية نصف بها العلاقة بين الأحداث . (كانط) يرى
أن المكان والزمان هما صورتان أوليتان تخلعهما الحساسية على شتى المعطيات الحية التي ترد
إليها من الخارج ، دون أن يكون لهما أدنى وجود واقعي في العالم الخارجي، باعتبارهم موضوعين
قائمين بذاتهم , فالزمان ليس شيئاً موضوعياً واقعياً، كما أنه ليس جوهراً أو عرضاً أو رابطة ،
بل هو الشرط الذاتي الذي يجعل في وسع العقل البشري أن يحقق ضرباً من التآزر بين جميع
الموضوعات الحسية، وفقاً لقانون محدد . و (شوبنهاور) أكَّد أن الزمن هو حالة احتمالية التتابع
والتوالي . و (إيمرسون) اعتبر الزمان هو "الحاضر" حيث الماضي والمستقبل ما هم إلا إسقاطاتنا
الحالية لذكرياتنا وأمانينا.
وفي الديانات الإبراهيمية ، الزمن يتكون من قطعة مستقيمة ، تبدأ من لحظة (الخلق) وتنتهي بـ
(يوم القيامة) غالباً . أما في الأديان كالهندوسية والبوذية ، نجد أن الزمن دائري ، لا أول له ولا آخر.
- وأنه لا أحد في الكون يستطيع إعطاء تعريفا للزمن و لا تحديد ماهيته , والذي نستطيعه إلى يوم هو
إعطاء تعريف للمدة بين نقطتين من الزمن , ونحن هنا في محاولة فهم آلية الزمن الفيزيائي و ليس النفسي،
وفي الحديث عن الفيزياء ينبغي أن يكون لكل مصطلح دليله الموضوعي في الوجود.
ففي كون لا يتحرك أي جزء فيه، و لا حدث فيه، هل الزمن موجود فيه؟
إذا أجبنا بالنفي فجوابنا سيكون فلسفيا محضاً لأننا و بكل بساطة نعيش في كون متحرك.
- إن الزمن الموضوعي لدى غالبية المفكرين الآن هو زمن التفاعلات الفيزيائية والتي هي أساس
كافة تفاعلات المادية . وهذه الزمن في رأي علماء الفيزياء لا يسير بشكل موحد ومتساوي , فهو تابع
للحركات النسبية بين الأجسام المتحركة , وهذا لم يقبل به بعض المفكرين , مع أنه تم إثبات عدم جريان
الزمن بنسبة واحدة لدى كافة الأشياء .
فقد أرسلت ساعات دقيقة جداٌ في مركبات فضائية تسير بسرعات عالية , وقد وجد اختلاف ضئيل في
سير الزمن وهو بالمقدار الذي حددته قوانين أينشتاين في تقلص الأطوال والأزمان
- الإنسان يحاول دائما تحديد الزمن بربط حدثين، فهو لا يستطيع تحديد الزمن إلاّ بربط حدثين X و Y.
و لكن Y يجب ربطه بحدث آخر Z وهكذا إلى أن نصل إلى حدث دوري cyclique أوّلي منه ينطلق.
هل في الكون شيء يسمح بتحديد وحدات زمن مطلقة؟
واضاف الكاتب الزمن برأيي :
أن الشعور بالزمن بالنسبة لنا مرتبط بالوعي الذاتي , وبالذات بالذاكرة , فلولا وجود الذاكرة لما نشأ الشعور
بالزمن لدينا , لأن الأحاسيس أو الوعي سوف تحدث وتنتهي فوراٌ ولا يبقى شيء . والشعور بالزمن مرتبط
ومحدد بخصائص وقدرات الوعي الذاتي والذي يتم تخزينه في الذاكرة .
وآلية السببية التي يستعملها دماغنا هي الموسع الأساسي للزمن الذي ننشؤه , وعندما أصبح الإنسان
قادراٌ على رواية ما حصل ونشوء القصص زاد ذلك في توسع الشعور بالزمن , وظهر مفهوم التاريخ
الذي هو يتضمن الماضي والحاضر والمستقبل , و بنشوء الكتابة أصبح مفهوم الزمن كما نعرفه , وظهر
مفهوم التاريخ بشكل أوضح .
والشعور بالزمن أو الوعي بالزمن نشأ لدينا بالتدريج , وكان في أول الأمر ذاتي مرتبط بالفرد فقط ,
ثم توسع ليصبح جماعي , نتيجة اللغة والعلاقات الاجتماعية .
إن أساس نشوء الإحساس بالزمن لدينا , هو نتيجة رصد الحركات والتغيرات التي نحس بها
وصياغتها في سلسلة متتالية مترابطة , وهذا يتم بمقارنتها بالتغيرات الفزيولوجية العصبية الحسية الجارية
لدي الإنسان , وهذا يكون بشكل حسي واع .
وتنشأ الأحاسيس الواعية , لأنها تتكرر خلال زمن قصير أو طويل ولا تكون لحظية تجري لمرة واحدة
وتنتهي فوراً , وأيضاً نتيجة تكرار حدوثها , وهي تنتشر في أغلب بنيات الدماغ .
فالذي ينتج الوعي الذاتي هو تكرار جريان التيارات العصبية في بنيات الدماغ , بين التشكيل الشبكي
والمهاد واللحاء والدماغ الحوفي وأحياناً المخيخ , فتكرر جريان هذه التيارات هو الذي يخلق " زمن الوعي "
, وبالتالي الزمن البشري الذاتي .
فإذا لم يحدث هذا التكرار, فلا يمكن أن يحدث الوعي , لأنه سوف يحدث في زمن قصير جداً ولمرة واحدة
وينتهي بعدها . فتكرار وجوده خلال زمن هو الذي يسمح بحدوث الجدل الفكري الذاتي بين الأفكار
(الأحاسيس الواعية) والتي تجري معاً في نفس الوقت , ونشوء " زمن الوعي أو الديمومة" .
ويمكننا إرجاع الزمن البشري الحسي إلى أساس فيزيائي , وهو مصدر الحركة الأساسي في الكون ,
وهو حركة كمات بلانك التي تسير بسرعة الضوء .
فأقصر طول لحركة في لوجود هو مسافة بلانك هو 10 ^ - 26 سم .
وفترة الزمن البشري الذي ينشأ عن قطع هذه المسافة متناهية الصغر , وهي 1/3*10^-36 ثانية .
وهو زمن بلانك . فيمكن إرجاع إحساس الإنسان بالزمن , إلى زمن بلانك , وذلك بإرجاع سرعة
أو زمن حركات كافة التفاعلات الفزيولوجية والعصبية والحسية إلى هذا الزمن .
أما من ناحية الأزمان في الوجود , فالوجود لأي شيء مرتبط بحدوث تبادل التأثير له . فكل بنية
أو شيء لا يوجد بالنسبة إلى بنية أخرى إلا إذا أثرت بها . وسرعة زمن هذا الوجود مرتبط بسرعة
هذه التأثيرات . وهذا يعني أن هناك كمية لا متناهية من الموجودات ولكل منها زمنه .
المعرفة للماضي والحاضر والمستقبل هي التي تنشئ الزمن , أو تفتح الزمن .
إن فتح الزمن يعني رصد تفاعلات مجموعة بنيات تتفاعل مع بعضها من قبل بنية معينة , وبالتالي
تشكيل المعارف عنها وتشكيل تاريخها . ورصد هذه البنيات يتضمن التفاعل معها .
ونتيجة الرصد يظهر تاريخ هذه البنيات ( خلال فترة زمنية معينة ) بالنسبة للبنية الراصدة ,
وهو الفترة الزمنية التي تفتحها البنية الراصدة .
ويتم ذلك بربط هذه التفاعلات بسلسة أو مجموعة سلاسل محددة من الأحداث , تمثل زمن الذي تم فتحه .
وهذا يجعل إمكانية رصد وفتح أي فترة زمنية لأي تفاعلات لبنيات معينة , لا متناهي التعدد , وذلك
حسب البنية الراصدة ( وهي البنية المرجع) والتي يتم فتح الزمن من قبلها . وهذا يعني أن هناك أزمان
لا نهائية يمكن فتحها , الآن بنيات الوجود المتفاعلة مع بعضها لا متناهية . وهذا معناه أيضاً أن فتح الزمن
يكون دوماً بالنسبة لبنية معينة .
ويمكن أن يتشابه الرصد بين عدد من البنيات الراصدة وهذا ما هو حاصل بالنسبة لنا , وبذلك تتشابه الأزمان
المفتوحة وتتوحد في زمن عام يعتمدونه . وكلما كانت البنية الراصدة ترصد تفاعلات أكثر وبدقة عالية كان
فتح الزمن أكثر واقعية ودقة . وبما أن الإعلام هو نشر معارف لذلك هو بمثابة فتح للأزمان .
منقول لروعة فلسفته