أولا :
في قوله صلى الله عليه وسلم : ( يا غلام : إني أعلمك كلمات)
مما يؤخذ من هذا الجزء في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الأمور التالية:
1ـ وجوب تعليم الناس العقيدة الصحيحة، وتربيتهم عليها، وعل العلم النافع، ويكون ذلك بأسلوب مختصر، وكلم جامع واضح، فلو تأملت هذا الحديث لوجدته جامعاً لمسائل عقدية كثيرة بأسلوب موجز.
2ـ الحرص على تربية الناشئة على العلم النافع، ويبدأ بتربيتهم على العقيدة الصافية الخالصة؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم وجه هذه الكلمات النافعات إلى ابن عباس وهو صغير؛ إذ قال له : (يا غلام: إني أعلمك كلمات)؛ ليتربى الشاب المسلم على معرفة الله وتوحيده، وحفظ حدوده، يلجأ إلى الله في الرخاء والشدة، ويسأله ويســتعين به، ويتوكل عليه سبحانه ، فيصبح شجاعاً مقداماً؛ لأنه يعلم أنه لا يملك أحد من البشر له نفعاً ولا ضراً إلا بإذن الله تعالى، ولأن الله معه ينصره ويؤيده وييسر له أموره، ما دام متمسكاً بشرع الله إخلاصاً وإتباعاً.
فعلى الجميع الحرص على غرس الإيمان في نفوس الأبناء، وتربيتهم على فهم أصول الإيمان، والعمل بأحكام الإسلام، وتعويدهم على المراقبة والمحاسبة منذ الصغر، قبل أن تصلهم الفلسفات الإلحادية والشبهات البدعية والشهوات المغرضة، وغير ذلك مما تشنه تلك الحملات المسعورة من حرب ضروس ضد شباب الأمة ذكوراً وإناثاً، مرة باسم التثقيف، وباسم التسلية والترفيه مرات أخرى.
3ـ استحباب تشويق المتعلم، وتهيئته بلطف العبارة، وتنبيهه إلى أهمية ما يلقى إليه، وإشعاره بسهولة حفظه ووعيه ليسهل عليه تلقيه واستيعابه، وبالتالي حفظه ووعيه، وبخاصة المسائل العقدية التي يحتاج إلى دقة في حفظها ونقلها، ويؤخذ هذا من فعل الرسول صلى الله عليه وسلم عندما قال لابن عباس مقدماً له هذه المسائل: (يا غلام: إني أعلمك كلمات).
4ـ ومما يؤخذ من هذا الحديث حرص الرسول عليه الصلاة والسلام على توجيه الأمة، وتنشئة الجيل المسلم على العقيدة الصحيحة والشرع القويم، وقد قال الله تعالى في وصفه صلى الله عليه وسلم : { لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } ، أي يعز عليه الشيء الذي يعنت أمته، ويشق عليها، حريص على هدايتكم، ووصول النفع الدنيوي والأخروي إليكم ، ولهذا ورد عن أبي ذر رضي الله عنه أنه قال: تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يقلب جناحيه في الهواء إلا وهو يذكرنا منه علماً، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (ما بقي شيء يقرب من الجنة ويباعد من النار إلا وقد بُيِّن لكم) .
ثانيا :
في قوله صلى الله عليه وسلم : (احفظ الله)
ومما يؤخذ في هذا الجزء ما يلي:
1ـ إثبات صفة الحفظ لله تعالى ، أخذاً من قوله صلى الله عليه وسلم : (احفظ الله يحفظك)، فهنا أثبت أن الله تعالى متصف بأنه يحفظ عباده الذين يحفظون حدوده، فدل على إثبات صفة الحفظ لله تعالى ، وأنها تتعلـــق بإرادته ومشيئــــته، وهذه الصفة ثابتة لله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم ، لقـوله تعالى : { فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِين }، وقوله ســبحانه: { إِنَّ رَبِّي عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظ } .
وقد ذكر العلماء أن من أسماء الله تعالى (الحافظ) و(الحفيظ)؛ أخذاً من الآيتين السابقتين، ومن المعلوم أن باب الصفات أوسع من باب الأسماء؛ وذلك لأن كل اسم متضمن لصفة، وأسماء الله تعالى إن دلت على وصف فقد تضمنت ثلاثة أمور:
أحدها: ثبوت ذلك الاسم لله جلّ جلاله .
الثاني: ثبوت الصفة التي تضمنها لله سبحانه وتعالى .
الثالث: ثبوت حكمها ومقتضاها .
مثال ذلك (الحافظ) يتضمن إثبات (الحافظ) اسماً لله تعالى، وإثبات الحفظ صفة له، وإثبات حكم ذلك ومقتضاه، وهو أنه سبحانه يحفظ عباده، الذين يحفظونه.
ومن الأدلة أيضاً على تسمية الله بالحفيظ قوله تعالى : { وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَولِيَاء اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ } ، وقوله : { وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظ } .
يقول صالح البليهي (ت 1410هـ): (( الحفيظ من أسماء الله الحسنى، واشتقاقه من الحفظ، والحفظ لغة هو الحراسة والصيانة والحياطة، والله جل وعلا سمى نفسه حفيظاً 00 فالله تقدّس اسمه هو الحافظ والحفيظ ، هو تعالى على كل شيء حفيظ ، أي شاهد وحافظ ، يحفظ على عباده أقوالهم وأفعالهم، فيجازي كلاً بعمله، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر 00 ، والله تعالى من فضله ولطفه ورحمته وإحسانه يحفظ عباده المؤمنين، وهو خير الحافظين، يحفظهم من كل شر، ومن كل محنة وبلاء، يحفظهم تعالى { وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظ } يحفظهم بشرط أن يحافظوا على ما أوجب الله عليهم في شريعة الإسلام، وبشرط أن يحفظوا جوارحهم عن كل ما حرم الله 00 ، ودعاء الله بأسمائه مشروع، وكيفيته يا غفور اغفر لي ، يا رحمن ارحمني ، يا رزاق ارزقني ، يا معافي عافني ، ونحو ذلك، فالله تعالى هو الحافظ والحفيظ 00 اللهم يا حافظ ويا حفيظ احفظنا وأنت خير الحافظين .
2ـ وجوب حفظ العقيدة، والحرص على سلامتها مما قد يشوبها، وأن ذلك أعظم أسباب حفظ الله للعبد، كما يجب حفظ الشريعة، وذلك بالعمل بها، والدعوة إليها، والدفاع عنها.
فإذا كان قوله صلى الله عليه وسلم : (احفظ الله) يعني حفظ حدوده، وحقوقه ، وأوامره ونواهيه، فإن أعظم حقوقه توحيده في ألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته، وإتباع كتاب الله تعالى وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام ، المصدرين لتلقي العقيدة، والحذر من الانزلاق مع الهوى، أو تقديم العقل على النص الشرعي مما أوقع كثيراً من الفرق والنحل في الشرك والبدع والمخالفات 0
وحفظ العقيدة يكون بتعلمها والإيمان بها والعمل بمقتضاها،وتعليمها والدعوة إليها 0
فقوله: (احفظ الله) أمر بحفظ توحيده، وأوامره ونواهيه، وحقوقه وحدوده، كما أنه أمر بحفظ الجوارح كالسمع والبصر واللسان والبطن والفرج 0
ولهذا يقـــــول الله تعـــالى : { وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيـــــظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ } يقال للمتقين على وجـــه التهنئة: (هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أواب حفيظ ) أي هذه الجنة وما فيها ، هي التي وعد الله لكل أواب ، أي رجاع إلى الله ، في جميع الأوقات ، بتوحيده وذكره ، وحبه ، والاستعانة به ، (حفيظ) أي محافظ على ما أمر الله به، من توحيده وشرعه ، على وجه الإخلاص، والإكمال له على أتم الوجوه، حفيظ لحدوده 0
وخصت بعض الأعمـــال بالتنصــــيص على حفظها اعتـــناء بشـــــــأنها، ومن ذلك قوله تعالى:
{ حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى } . وقوله تعالى : { قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ } ، وقوله : { وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا } ، وقوله : { وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُون } ، وقوله : { وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ } ، إلى غير ذلك من الآيات .
وقوله صلى الله عليه وسلم : (من حفظ ما بين لحييه ورجليه دخل الجنة) ، وفي رواية: (من وقاه الله شر ما بين لحييه، وشر ما بين رجليه دخل الجنة ) ، وقوله صلى الله عليه وسلم : ( ولن يحافظ على الوضوء إلا مؤمن) 0
إذن من فعل الواجبات وترك المحرمات فقد حفظ حدود الله تعالى ، ومن ثم فقد حفظ الله، وأعظم ما أوجبه الله على عباده، توحيده، وعبادته سبحانه إخلاصاً له ، ومتابعة لما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم ، فهي الغاية التي من أجلها خلق الله الخلق ، قال تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُون } 0
فمن آمن بذلك وعمل به فهو من الحافظين لحدود الله تعالى ، الذين أثنى الله عليهم ســـبحانه بقولــه : { وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ } ، وقولـــه سبحانـــه : { هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ } 0
ومن الأدلة على حفظ الجوارح ما جاء في حديث ابن مسعود المرفوع: (الاستحياء من الله حق الحياء: أن يحفظ الرأس وما وعى ، ويحفظ البطن وما حوى ) 0
وحفظ الرأس وما وعى: يدخل فيه حفظ اللسان من الكذب والغيبة، والنميمة، وشهادة الزور، والقول الحرام، وحفظ السمع عن الأصوات المحرمة، وحفظ البصر عن النظر إلى ما حرم الله تعالى النظر إليه، ونحو ذلك 0
وحفظ البطن وما حوى: يدخل فيه حفظ القلب عن الاعتقاد الباطل ، والإصرار على المحرم، وحفظ البطن من إدخال ما حرم الله من المأكولات والمشروبات الممنوعة شرعاً 0
قال تعالى : { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً } ؛ أي ولا تتبع ما ليس لك به علم، بل تثبّت في كل ما تقوله وتفعله، فلا تظن ذلك يذهب لا لك ولا عليك، فحقيق بالعبد الذي يعرف أنه مسؤول عما قاله وفعله، وعما استعمل به جوارحه التي خلقها الله لعبادته أن يُعدّ للسؤال جواباً، وللجواب صواباً، وذلك لا يكون إلا باستعمالها بعبودية الله تعالى ، وإخلاص الدين له ، وكفها عما يكرهه الله جل وعلا 0
(( وكما هو معروف الجزاء من جنس العمل فمن حفظ الله حفظه الله، وحفظ الله لا يحصل إلا بفعل الواجبات وترك المحرمات، فمن فعل جميع ما أوجب الله عليه، وترك جميع ما حرم الله عليه حفظه الله بما يحفظ به عباده الصالحين، ومن المعروف أن هذه الحياة في غالب الأزمان تموج بالشرور والفتن، والحروب الطاحنة، ولكن من حفظ الله حفظه الله )) 0
ومما يلزم التنبيه عليه أن (( الله عزوجل ليس بحاجة إلى أحد حتى يحفظه ، ولكن المراد حفظ دينه وشرعه، كما قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُم } ، وليس المعنى تنصرون ذات الله؛ لأن الله تعالى غني عن كل أحد، ولهذا قال في آية أخـــرى : { ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لاَنتَصَرَ مِنْهُم } 0
وهذا الفهم الخاطئ قد يفهمه الجهلة أو يثيره الأعداء، فإن اليهود عندما سمعوا قول الله تعالى: { مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَة } ، قالوا : يا محمد : افتقر ربك فسأل عباده القرض ، ما بنا إلى الله من حاجة، وإنه إلينا لفقير، وإنا عنه لأغنياء، ولو كان عنا غنياً ما استقرض منا ـ كما نُقل ذلك عنهم ـ فأنزل الله تعالى قوله: { لَقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا } 0