نقلت "الوطن" في عددها الصادر يوم الثلاثاء الماضي 10/6/2008 عن الشيخ إبراهيم الغيث الرئيس العام لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قوله "إن الهيئة تمنع الناس من ملذاتهم فلهذا أرباب الشهوات لا يريدون للهيئة أن يكون لها مقام ولا أن تمكن، فإنهم يفرحون بأي سلبية في نظرهم وأي عثرة من العثرات ليضخموها ويعظموها في أعين الناس". وأبدى خشيته من أنه "بهذه الطريقة الفجة والسيئة من الصحفيين والإعلاميين أن ينشأ جيل جديد من الشباب في بغضة شديدة لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر".
الإشارة إلى الخشية من مجيء شباب يكرهون "الأمر بالمعروف" تستحق - في نظري - حواراً هادئاً عاقلاً يبحث في الأسباب ويناقش الدوافع لأن الأمر بالمعروف أس أصيل في ثقافتنا وحضارتنا وهو أوسع من مفهوم الحض على العبادات ومظاهر السلوك رغم أهميتها، وأي تهديد لهذا المفهوم وتغييبه أو محاصرته أو التضييق عليه هو عمل غير راشد والدفاع عنه والتمسك به مسؤولية الجميع.
وقبل التعليق على كلام الشيخ أسجل أنها المرة الأولى التي أكتب فيها عن هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ورجالها رغم ارتباطي بالعمل الصحفي والكتابة في الشأن العام سنين عديدة. وكان السبب الجوهري في ذلك هو عدم الرغبة في إضافة شحنة أخرى لما يقال عن الهيئة ورجالها رغم تأكدي من حالات فردية أرى أن رجال الحسبة لم يحالفهم التوفيق في معالجتها وفق آداب الأمر بالمعروف.. وكنت ألزم نفسي بهذا الانصراف عن الكتابة في هذا الأمر لكن التحذير الذي تضمن احتمال أن يكثر في مجتمعنا من يكره الأمر بالمعروف هو الذي دفع بي إلى الكتابة خاصة أن الحديث عن الهيئة في وسائل الإعلام هذه الأيام ليس بالحدة التي تحول دون قراءة ما يكتب بنفس هادئ يتلمس الإيجابيات ولا تشغله حماسة الدفاع أو الهجوم عن الحوار الذي هدفه الحقيقة - التي أدرك أنها نسبته -.
أريد أن ألفت نظر الشيخ إبراهيم الغيث ورجاله إلى أنه ليس كل الشاكين من تجاوزات بعض أفراد الهيئة من الشباب أو الجيل الجديد الذي تصنع قناعاته وسائل الإعلام بل هناك الكثيرون غيرهم وأن غالبية الشعب السعودي تؤمن إيماناً يقينياً أن مبدأ الأمر بالمعروف أصل في هذا الدين يجب المحافظة عليه والقيام بأداء واجبه. وأنه ليس كل الذين يشتكون من أخطاء رجال الحسبة هم من الذين يتمنون انتهاء دورها بل هم من الحريصين على استمرارها وتحسين صورتها ونهوضها بواجباتها لأن ذلك - في نظرهم - مدعاة لحفظ المجتمع وصون قيمه ومبادئه من الأخطاء.. وأن كل العقلاء يتفقون على أن من يعمل معرض للخطأ لكن الخطأ في حرمات الناس وأعراضهم وسمعتهم بل وحياتهم أحياناً لا يستوي مع الخطأ في ما سواه.. و يتفق كل العقلاء أن أخطاء الأفراد لا تلغي سلامة المبدأ بل تظل المبادئ موضع اتفاق المؤمنين بها وينصرف النقد واللوم إلى الأخطاء ومرتكبيها. وهذا ما فعله ويفعله المنصفون الذين تعرضوا بالنقد لأخطاء بعض أفراد الهيئة بدافع الحب والرغبة في إزالة كل ما من شأنه الإساءة إلى هذا المرفق الذي "يرمز" إلى "المعروف" الذي هو اسم شامل يعبر عن معان إنسانية أخلاقية لا يرفضها حتى العقلاء من غير المؤمنين كما أن رفض "المنكر" ونبذه والوقوف في وجهه دعوة يشترك فيها أصحاب كل الفطر السليمة...
وإذا كنا نتفق على ما سبقت الإشارة إليه فإنني أسجل اختلافي مع من يقول إن من ينتقد أخطاء أفراد الحسبة لابد أن يكون من أصحاب الملذات والشهوات الذين لا يريدون للهيئة أن يكون لها مقام، فهذا تعميم غير عادل ولا أظنه يخدم هدف كسب ثقة أفراد المجتمع ويشيع بينهم حسن الظن. كما أختلف مع الأسلوب الذي يجعل المتحدث عن الهيئة أمام خيارين: إما السكوت عن الأخطاء بدافع "الحب" والإيمان أو رفض الهيئة بدافع "الكره" والرغبة في الملذات.. هذا الأسلوب أو المنهج لا يساعد الناس على إصلاح أخطاء التطبيق الملازمة لكل نشاط بشري ويزيد من الشرخ والهوة ويبقي التوتر قائماً حتى وإن بردت حرارته بعض الأحيان.. إن وصف كل النقد الموجه إلى أخطاء أفراد الهيئة بأنه "سطحي وسيء" لا يساعد على إزالة سوء الفهم بين وسائل الإعلام التي هي إحدى أدوات الضبط الاجتماعي، وبين نشاط الهيئة، وهذا فيه هدر للطاقات وإضعاف لوسائل إصلاح المجتمع، فالإعلام من مهامه الأساسية مساعدة المجتمع على تصحيح أخطائه من خلال "إعلامه" بالأخطاء التي يرتكبها بعض أفراده وتكوين رأي عام مناهض لها.
والسؤال الباعث على كتابة هذه السطور هو: كيف يمكننا أن نحمي مجتمعنا من تكوين جيل جديد يكره الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ وهي المسألة المحورية التي يدور حولها عمل رجال الحسبة. أعتقد أن الإشكال ليس الخوف من غياب أو "تغييب" مبدأ الأمر بالمعروف عن عقول وعواطف الجيل الجديد من الشباب، المسألة - في تصوري - هي كيف نعمل على إزالة صورة ارتباط رجال الحسبة بما يؤدي إلى نفور الجيل الجديد من مفهوم الأمر بالمعروف.المشكلة في ما يمكن أن يلحق المبدأ من تشويه بسبب سوء التطبيق. وأعتقد أنه مما يخدم الهدف المشترك:
العمل الجاد والمنظم والمدروس لتطوير أساليب العمل داخل الهيئة وإخضاع أعمالها الميدانية إلى مبدأ حسن الظن بالناس واستحضار وقبول مساحة الاختلاف في وجهات النظر وعدم التشدد في ما فيه فسحة الاختلاف مراعاة لاتساع البلاد وتعدد عاداتها وتقاليدها التي لا تخرج عن دائرة المباح من الشرع.
عدم دفاع قيادة الهيئة عن "الأخطاء الفردية" - التي لا يخلو منها العمل الميداني - والتوقف عن تبرير هذه الأخطاء والتماس الأعذار للواقعين فيها بحجة حماية هيبة الهيئة.. فهذا لا يؤدي إلى تقريب مشاعر الناس بل أخشى أن يقود إلى ربط الأخطاء الفردية بالمبدأ، وهنا يكون ما يخشاه كل الحريصين على إشاعة مبدأ الأمر بالمعروف - بمعناه العام - ويمهد إلى نشوء جيل جديد يكره رجال الحسبة وبالتالي يكره المبدأ. وتكون نتائج الأخطاء الفردية والدفاع عنها سببين أصيلين في تنشئة هذا الجيل، وساعتئذ يتحمل الذين ساهموا في خلق هذا الانطباع وزر هذه المشكلة التي يخسر بها المجتمع العلاقة المبدئية بين شبابه وبين مبدأ الأمر بالمعروف.
الإعلام الصادق المتفاعل مع قضايا ومبادئ مجتمعه يجب ألا يكون عامل توتير للعلاقات بين المجتمع وبين هيئاته ومؤسساته التي تقوم على مبادئه. وهذا ليس معناه غض الطرف أو السكوت عن أخطائها، لا، ليس هذا هو القصد بل القصد والهدف هو الإنصاف والعدل في التناول والدقة في النقل وتحري الصدق في وصف الأحداث والوقائع.
وفي النهاية إن المجتمع بات من الوعي والاطلاع بحيث يكشف التناول المتحامل ويميزه عن النقد الهادف إلى الإصلاح فلا ينبغي أن يوضع الجميع في كفة واحدة.
محمد المختار الفال