جلست ترتشف قهوتها والأبخرة الساخنة تنبعث من فنجانها لتختلط مع
دمعها المنهمر على وجنتيها ،، عيناها منهكتين ومسائها اسود كالثوب
الذي كانت ترتديه اوقات بؤسها ، مررت أناملها في خصلات شعرها المتهالك الأطراف
والمنسدل على وجهها لتلقي به إلى الخلف بتثاقل وتمنت وقتها لو
استطاعت أن تلقي معه كل ما تعانيه من حسرات ..
وأيقظ سكونها صوتاً ضعيفاً يناديها ..
الصوت: ( رغد ) أين أنت يا ( رغد )؟؟
التفتت إلى ذلك الصوت وقعت عيناها على ذلك الوجه المتألم الذي كانت
صاحبته تستلقي على سريرها الأبيض في إحدى المشافي التي تعالج
ذلك المرض الخبيث (السرطان ) ، ذلك الوحش الذي عانق أحشاء والدتها
المسكينة .
رفعت ( رغد ) جسدها عن ذلك الكرسي الذي كانت تجلس عليه طوال الليل والنهار إلى جانب الحنونة التي سهرت الليالي الطوال ترعاها .. وأصبحت بلحظة بين يدي والدتها وهي تمسح آثار دموعها كي لا تراها أمها ...
(رغد ) : مابك يا أمي هل تريدين شيء حبيبتي ؟
ولسان حالها يقول يا أماه ليتني أنا مكانك ليتني من تحمل عنك المرض ...
الأم : حبيبتي هل تبكين ؟ بقلب الأم أشعر بكِ يا ابنتي لا تبكي إنه قدري إنه ابتلاء من رب العالمين ..
أطرقت (رغد ) برأسها وهي لا تحتمل رؤية الدمعة في أحداق الحضن الذي رباها وهي تغيب محاولة ابتلاعها ومختنقة بعبراتها.. وأخفت الابنة وجع الآهات المنبعثة من صدرها المتعجبة من تلك الرائعة التي رغم مرضها تحاول أن تخفف عن ابنتها المعاناة وتخفي مرارة ما تشعر به...
وقالت لها (رغد): ستكونين بخير يا غالية لا تقلقي أنا لن ابكي...
قالتها وهي تشك بذلك كيف لا تبكي وهي تشاهد شمعة حياتها تنطفيء أمامها..
وهي تموت عجزاً عن أن تساعد ذلك الجسد المتألم على الشفاء وتفكر ..
كيف أفعل ما لا يقدر عليه إلا الله ... فأدمعت عيناها....
ورفعت يداها إلى المولى عز وجل ودعت رباه أشفي أمي اشفيها
بيدك الشفاء ولا يقدر عليه غيرك يارحمن.
احتملت أصابع اللوم التي كانت تخترق صدرها كل يوم فجميع أفراد العائلة يمرون بحاله نفسيه سيئة ولا يحسنون التصرف، ويكتفون بأن يوبخونها...
لماذا لم تسألي الطبيب عن حالة أمك بشكل واضح ؟
لماذا لم تتصلي بنا حين بدأت العلاج الكيميائي ؟
آه آه لماذا ...ولماذا ..؟؟
سهام كانت توجه إلى فكرها المحموم وليست أسئلة ، وكانت تحتضن تلك
السهام وتكتفي بتهدئتهم وتشرح لهم الوضع وحين يرحلون
تبكي.....وتبكي.
وتقضي مسائها بدموعها وتنام متلحفه بالجراح..وتستيقظ ليلاً على أنين والدتها المتألمة وتطلب من الممرضة
المناوبة أن تعطي والدتها مهديء للألم كي تستطيع النوم بهدوء، وتجلس
إلى جانبها حتى تغيب في نومها، ثم تعاود رغد الاستلقاء على ذلك الكرسي العقيم .
وفي الصباح تستقبل الأطباء بملامح القلق والتساؤل عن حالة أمها وكيف
ستكون لتطمئن ، لكن لا شيء سوى ذلك السم الكيميائي الذي يؤذيها
وبضعف جسدها ببطيء قاتل...
حان وقت الغداء لم تأكل والدتها أبداً
ورفضت تناول أي شيء رغم محاولات رغد المستميتة ، إلا أنها اكتفت
بوضع قطع من الثلج في جوفها المحترق ليخفف عنها حالة الغثيان
الفظيعة التي تسببها تلك المادة الكيميائية التي تتسرب إلى دمها الغالي ...
ونامت الحنونة بفعل الدواء ... وقررت رغد أن تخرج من تلك الغرفة
الكئيبة وتتمشى في أروقة العذاب
هناك مرت ببعض الغرف رأت الكثير
من ضحايا ذلك الوحش منهم الكبار ومنهم الأطفال وكم ابتلعت الدموع
في خاطرها وهي تشاهد ما شاهدته من صنوف الوجع ..
فكرت أن تتناول شيء من الطعام كي تستطيع أن تسند جسدها
وتقاوم لتهتم بوالدتها على الشكل المطلوب، توجهت إلى الكفتيريا الخاصة
بالمشفى وكان المكان يعج بالأطباء والموظفين..
أخذت بعض الطعام
وجلست على إحدى الموائد محاولة قدر الإمكان تجنب الزحام.
وفجأة وهي تتناول بعض من قطع الفاكهة بالكاد تصل إلى شفاهها،
رفعت عينيها المجهدتين ورأته.. رأت وجهاً تكسوه ملامح الطيبة والبراءة
طفلاً في جسد رجل ،، كان مقعد على كرسيه الكهربائي ورغم الإعاقة
كانت ابتسامته كالربيع تختال بين أرجاء المكان ..
وبجرأة غير معهودة منها بادلته الابتسامة وشعرت بينها وبين نفسها أنها هي المعاقة ...
شيء ما دفعها ودون تردد إلى تناول الورقة والقلم التي طالما تحتفظ بهما دائما في حقيبتها لتكتب من حين
لآخر ما يختلج في وجدانها..
وكتبت الآتي:
إلى أجمل ابتسامة رأيتها في هذا المكان المظلم المؤلم الموحش
المليء بآهات الأجساد التي ابتلاها الله بالمرض.
مني أنا المعاقة فكرياً وعاطفياً..إليك أيها السليم أبعث بإعجابي
بشجاعتك وقوتك واعترف لك هنا أن الكثير منا نحن الذين نمشي على
أقدامنا لا نملك تلك القوة التي تتميز بها وتقاوم بها إعاقتك ، فاسمح لي
أن أهنيك على ما منحك الله إياه من قدرة .
وبنفس الجرأة التي بادلته بها الإبتسامة تركت طعامها...
نهضت من كرسيها ودست تلك الورقة بين طيات كتيب يحمل أدعية اليوم والليلة والرقية الشرعية ...
دون وعي اقتربت منه وألقت عليه التحية وقد رد عليها السلام، وعيناه رغم الذهول تبتسمان وتحملان بريق لا يوصف ثم مدت يدها إليه بالكتيب فما كان منه إلا أن طلب منها وضع ما تحمله في حجره.
وقتها تفاجأت بما رأته وأخفت (رغد )عيناها المندهشة اللاتي بدأ بريق الدموع يعبث بهما وضعت الكتيب حيث أراد وتركته خلفها وخرجت من كل المكان....
ترى ماذا رأت (رغد) ؟؟
ما الذي أطلق حمم بركانها النازف في أحشائها ؟؟
كانت (رغد) تسرع في خطواتها خارجة من الكفتيريا تحاول أن تمسح من
ذاكرتها ما رأته والدموع تتدحرج على جبال الهم، تلك الوجنات المهترئة
من البكاء رغم صباها وجمالها..
لكن عبثاً لم تستطيع أن تمحو منظر أصابع يديه وهي ملتفة بشكل
لولبي حول بعضها البعض مدعمة بالأربطة بالكاد يحركها وبصعوبة تتغير
معها ملامح وجهه وهو يحاول أن يخفي معاناته كي يمسك بعصا التحكم
التي يسير بها كرسيه ورغم الصعوبة تغلب الإصرار .
وأما جسده... فقد كان الجزء الأسفل منه أصغر بكثير من أعلاه لكن
( رغــد ) لم تشعر بالشفقة تجاهه خاصة وانه رغم كل شيء يبتسم ،
الحقيقة إنها شعرت بالشفقة على نفسها وضعفها.. وعدم مواجهتها
للمصاعب بنفس القوة والتميز الذي كان يحمله هذا الإنسان ..
وهو على كرسيه ..
عادت إلى غرفة والدتها كانت قد استيقظت خاصة وان موعد الزيارة اقترب .
ألقت (رغد ) جسدها الفارع على اقرب كرسي وكانت مجهدة من ما رأت، لكن رغم هذا فقد استحوذ هذا الإنسان على اهتمامها وتفكيرها ..
وبعد رحيل الجميع نامت مثل كل ليلة على ذلك الكرسي الأقرب للأريكة وفي اليوم التالي ذهبت إلى الكفتيريا في نفس الوقت لكنها لم تتوقع أبدا أن تجده هناك .. يتلفت بين الوجوه .
تساءلت في قرارة نفسها هل يبحث عني ؟
لكنها سرعان ما طردت تلك الفكرة من ذهنها ولسان حالها يقول ما هذا السخف أيعقل ولما يبحث عني ؟؟
وقررت الخروج من الكفتيريا وهي تسير عائدة إلى حيث كانت سمعت صوتاً يناديها : يا آنسه لو سمحتي ..
التفتت فوجدته هناك خلفها يحاول جاهدا اللحاق بخطواتها الهاربة ..
وكأنه كان يسأل أقدامها بعد هذا الانتظار ترحلين ببساطة ؟
بادرها بالسلام وردت عليه واخبرها انه كان ينتظرها ...
تساقطت حبات العرق من جبين الوقت والدقائق تتحرك بصمت
واندهشت ( رغد ) ... !!!
وقالت : تنتظرني أنا ؟؟؟ ولماذا ؟
فقال : كي أسألك عن تلك الورقة وما جاء فيها من حروف ..
قالت : آه ، الورقة الحقيقة كانت محاولة مني لأخبرك انك أفضل بكثير من بعض البشر ممن يمشون على أقدامهم وهم في الحقيقة معاقين فكرياً وعاطفياًَ ونفسياً ...
كانوا يتبادلون الحديث في احد الممرات وكان الجميع يلقون عليه التحية بحرارة وابتسامة ..
وترددت الأصداء ( هلا فيصل ، السلام فيصل ، أخبارك فيصل ، حتى الأجانب هاي فيصل ، هالو فيصل ..
الكل يعرفك ( فيصل ) ... هكذا خرجت الحروف متسارعه من بين شفتاها ...
فابتسم لها بعمق وقال : أوه نسيت أن أخبرك باسمي أنا ( فيصل ) وضحك وضحكت معه دون شعور ...
قالت : سبق وان عرفت اسمك فكم كررته الألسن حتى التصقت حروفه في جدران الممر الذي يجمعنا هنا ...
استأذنته بالرحيل لكنه طلب منها أن تبقى معه لوهلة أخرى واخبرها انه يعمل في قسم بعيد وانه قطع مسافة طويلة فقط ليتحدث معها..
فبادرته آسفة أن عليها الرحيل من أجل والدتها المريضة والتي تنتظرها على سرير المرض..
طلب منها أن تأخذ رقم هاتفه وتتصل به ، فلم تستطيع أن تصفعه برفضها...
أخرجت ورقة وسجلت عليها رقمه، فبادرها بروحه المرحة ستنتظرين كثيراً لو كنت أنا من سأكتب.. ونظر إلى يديه بأسى وكل ما استطاعت ( رغد ) أن تراه هو بقايا دخان آثار غليان خرج من صدره مع أنفاسه...
عادت إلى والدتها الممدة على فراش الألم وكانت وقتها تسلم من صلاة العصر ...
قالت لها تقبل الله يا ( أم عبدالعزيز ) ...
عسى دعيت لي يا غالية ؟ توجهت بتلك الحروف (رغد)
أومأت أمها مجهدة الأنفاس بإشارة معناها نعم ...
وغابت في نوم عميق ..
جلست ( رغد ) تقرا كتاب الله وتدعي لوالدتها بالشفاء...
وجاء وقت الزيارة وحضر الجميع وبدأت السهام المعتادة وباتت في ظلام
الوجع ككل ليلة بعد أن حاولت بقدر المستطاع أن تطمئن الجميع ..
ورحلوا وبدأ العذاب كالمعتاد ...
استمر العلاج الكيميائي واستمر وخز الإبر في جسد الحنونة يغربل من بين ثقوبه آهات ( رغد ) التي طالما تمنت أن تكون هي مكان الغالية لكن اللهم لا اعتراض استغفر الله العظيم ...
تعوذت من الشيطان ...
وأخذت تتحدث مع والدتها لتمضي الأربع ساعات القاتلة وهي تتجرع ذاك السم ...
أمر الطبيب أن تخرج (أم عبد العزيز) من المستشفى وان تتابع العلاج الكيميائي على مدى سنه ..