إن الفلسفة في بداياتها الأولى صيغت شعرا وكانت بمثابة انفعال إنساني بالطبيعة في كونيتها .
فأشعار بارمنيدس وهيراقليط التي احتفظ ببعض منها أرسطو شكلت رؤية جديدة في الشعر حيث
استغل الشعر لا من أجل السرد الملحمي ورواية الأخبار المتعلقة بالآلهة التي تتحكم في أقدار
البشر ، وإنما من أجل تكوين نمط جديد من التفكير يقطع مع التفسير الأسطوري للطبيعة .
ونحن نعرف ما قدمه طاليس وهيراقليط وبارمنيدس وأنكسمانس للتفكير الإنساني الذي قاد إلى
ميلاد الفلسفة كفكر منطقي عقلاني .
وحتى مع أفلاطون الذي اعتبر أول فيلسوف رسمي في تاريخ الفلسفة استمر حضور الشعر
حيث أفرد أفلاطون مكانة كبيرة للشعراء في جمهوريته ولم يطرد منها إلا الشعر الذي لا يساهم
في بناء القيم التي تنادي بها المدينة الفاضلة .
كما يخبرنا تاريخ الفلسفة أن كثيرا من الفلاسفة اضطروا إلى صياغة بعض أفكارهم شعرا لإعطائها
زخما آخر حتى تحقق فعل الإقناع لدى المتلقي.
نتذكر هنا قصيدة ابن سينا في النفس:
نزلت إليك من المحل الأرفع ورقاء ذات تعزز وتمنعِ
نتذكر كذلك أشعار المفكر الفارسي عمر الخيام التي لخصت صوفيته وموقفه الأبيقوري الباحث
عن اللذة الحيوية الآنية التي لا تعترف بالانتظار لأن الآتي ما هو إلا الموت :
هبوا املأوا كأس المنى قبل أن تملأ كأسَ العمر كفُّ القدر
هذه الأمثلة تصور جانبا خفيا من حياة كل فيلسوف وهو جانب الإعجاب بالشاعر .
فالفيلسوف شخص منعزل ، صامت ، متأمل ، بارد ، متواري في صومعته الفكرية .
أما الشاعر فهو شخص متحمس ، مندفع ، متكلم لأن وجوده الفني مرتبط بالتلفظ والتكلم
أي بإلقاء الشعر وحرارة التواصل مع الآخر ومع الأشياء الجزئية ومع مشاهد الطبيعة .
كثيرا ما ننسى عندما نتذكر المتنبي وسيف الدولة شخصا ظل مغيبا جدا وهو الفيلسوف الفـارابي.
لقد كان المتنبي ، كما يريد التقليد النقدي ، مالئ الدنيا وشاغل الناس ، ينام ملء جفونه عن شوارد
الكلمات والمعاني ويترك الآخرين في البلاط الحمداني أو بين كل النقاد المسلمين آنذاك يتصارعون
ويتخاصمون من أجل فك شفرة قوله . أما الفارابي فلا تذكر كتب التاريخ أنه كان ذا حضور أو تأثير في
بلاط سيف الدولة . كل ما تذكره هو تلك الحكاية الأسطورية عن دخوله على سيف الدولة حين بدأ
يتكلم كلاما عجيبا و حين أخرج في النهاية من جيبه زقا عزف عليه فنام كل من في البلاط وتركهم
نياما وخرج .
لقد ظل الفارابي متواريا يعيش على أعطية لسيف الدولة وينصرف لشؤونه الفلسفية دون تدخل
في الشؤون اليومية للسياسة والبلاط وقضايا الناس .
وفي الوقت الذي كان فيه المتنبي يسعى لمجده الشخصي ويبيع قوافيه من أجل من يدفع أكثر
ومن أجل الظفر بحكم ولاية من الولايات ، كان الفارابي ، على خطى أفلاطون ، يضع الخطوط
العريضة لمدينته المثالية الفاضلة . ربما هناك من سيعترض بأن هذا شأن المتنبي الشخصي
ولا علاقة له بالمتنبي الشاعر المنتج للقيم ،
ولكن حتى على مستوى الشعر نجد أن المتنبي حلم بسلطة عادية قائمة على العنف والغلبة
والحرب عكس الفارابي الذي حلم بنظام مثالي قائم على المثل والقيم الإنسانية النبيلة.
ألم يقل المتنبي :
مدحت قوما ولو عشنا نظمت لهم قصائدا من إناث الخيل والحصُن
تحت العجاج قوافيها مضمرة إذا تُنوشِدْن لم يدخلن في أذن ؟!
فإذا كان الفيلسوف يصنع لغة شمولية كلية قائمة على العبارة العمومية المجردة ،
أو ما يسمى بالمفاهيم ، فالشاعر يفجر الكلمة ليجعل الصورة تسيل ماء ينقذ التصور
من جفافه الاستدلالي المنطقي .
إن الشاعر شخص مشاغب ، يحمل طفلا في أعماقه ، يريد ملامسة الأشياء واحتضان الجزئيات
والتفاصيل كما يتمثلها بواسطة وجدانه وحدوسه الأولية ، وهو ينزل ليمشي فوق طمي الحياة ،
دون افتراضات مسبقة أو توجسات أو احترازات . أما الفيلسوف فهو يترفع فوق طمي الحياة التي
ينظر إليها مثل أفلاطون كعالم حسي زائف يشبه كهفا مظلما ، ليسكن عالما بريئا من المادة
ومخالطة الحسيات ، وهو العالم الذي يسميه أفلاطون بالعالم المثالي .
الشاعر لا يتخوف من مسائل الخطأ والوهم والشك والتناقض لأن تلك المفارقات تمثل مادته
الأولى التي يمتح منها ، بل وتمثل شرط وجوده الشعري . كيف سيكون المتنبي دون تناقضاته
التي قادته إلى تضخيم ذاته و الاستجداء بشعره ، وإلى مدح هذا وهجو ذاك ؟!
إن دور الفلسفة هو نسف البداهات التي ينطلق منها الشاعر ويشيد عليها قوله الشعري .
يجد الشاعر بنية لغوية جاهزة ، حساسية جاهزة ، مصفوفة جاهزة ، يتماهى معها ، ويجد
نفسه فيها ، أي أنه يتمثل جمالية عامة وذائقة سائدة في إطلاقيتها . هذا العبور من الشاعر
نحو الفلسفة يمنحه وعيا فكريا يجعله يعتنق ممارسته الفنية في عموميتها ويتباعد عنها ويقيم
معها مسافة تمكنه من إدراك ثوابتها وحدود أدواتها وطرائقها وآفاقها .
فمعظم الشعراء في تاريخ الأدب العربي الذين كان لهم اقتراب من الفلسفة ومن الاشتغال
الفلسفي تمكنوا بطريقة أو بأخرى من الوعي بخصوصية ممارستهم الفردية أولا ومن الوعي
بخصوصية المسار التاريخي لحركية الشعر وعلاقتها بروح عصرهم مما جعلهم يطورون أدواتهم
وطرق بناء الصورة الشعرية .
تمت
اتمني ان ينال اعجابكم
مون لايت