تؤكد عدد من دوائر البحث أنَّ معدل التضخم في السعودية سجَّل أعلى المستويات خلال 25 عاماً، إذ وصل إلى 7% خلال يناير الماضي. فوتيرة الارتفاع في الأسعار الاستهلاكية وصلت في أغلبها إلى ضعف ما وصلت إليه خلال العام الماضي.
وفي هذا الشأن قال الدكتور رجاء المرزوقي الخبير الاقتصادي والأستاذ بالمعهد الدبلوماسي بالرياض: إنَّ التضخم في السعودية بوجه خاص ودول الخليج بشكل عام أصبح مثار قلق كبير مضيفاً: قد نرى معدلات تضخم عالية خلال السنوات القليلة القادمة من شأنها أن تقوِّض رفاه المجتمع وخفض الدخل الحقيقي للمواطنين.
إنَّ غلاء الأسعار له أسباب كثيرة ومتعددة، ومن ذلك - حسب رأي الشيخ الدكتور عبدالله بن محمد الطيار -: الذنوب والمعاصي، بُعْد الناس عن دينهم وهديه وقيمه، حب المال والجشع والتهافت على جمعه، استغلال بعض التجار والمحتكرين للسلع التي يحتاج إليها الناس.
وأضيف إلى ما سبق: غياب الثقافة الاستهلاكية الرشيدة، وشيوع العقلية الاستهلاكية غير المنضبطة، وافتقاد ميزانية الأسرة، والإثارة الإعلامية، وضعف دور المؤسسات المعنية بالأسعار.
وهنا أشير لعدد من الحقائق المؤلمة في الموضوع:
أولاً: إنَّ حب المال والحرص على كسبه بأي طريق، حتى ولو كان عن طريق الحرام، أمر مشاهد للجميع، وخاصة مع انتشار المعاملات الربوية، واختلاط الحلال بالحرام.
ثانياً: قيام التجار والباعة الرئيسيين بتخزين السلع وإخفائها من أجل التربص بارتفاع أثمانها، للتربح بأقصى قدر ممكن، فيه إضرار بالناس وخاصة الفقراء وأصحاب الحاجات.
هنا يمكن القول: إنَّ غلاء الأسعار يحتاج إلى معالجة قوية من جهة ولي الأمر، لكي يحفظ على الناس ضروراتهم الأساسية. وهذا يستدعي إمعان النظر في وضع مشكلة غلاء الأسعار والتعرف على أسبابها وكيفية معالجتها بالطرق المشروعة. ذلك أنَّ الإسلام في نظامه المالي يقر الملكية الفردية ما دامت وسائلها شرعية، وحرية التصرف في الأموال ما دام التصرف مباحاً وفق هدي الشريعة.
الرؤية الشرعية للتسعير والاحتكار:
إنَّ القول بالتسعير فيه سد للذرائع، ومن المعلوم الثابت أنَّ سد الذرائع من الأدلة المعتبرة في الفقه الإسلامي وأصل من أصوله المعتمدة. ومعلوم - كما يقول الشيخ الطيار - أنَّ سد الذرائع هو المنع من بعض المباحات لإفضائها إلى مفسدة.
وغير خافٍ أنَّ ترك الحرية للناس في البيع والشراء دون تسعير، هو أمر مباح في الأصل، لكنه قد يؤدي - في بعض الحالات والأزمنة إلى الاستغلال والجشع والتحكم في ضروريات الناس وأقواتهم، ومن ثم يقتضي الوضع سد هذا الباب بتقييد التعامل بأسعار محددة.
وهكذا فإنَّ القول بالتسعير عند تجاوز التجار ثمن المثل في البيع يحقق مصلحة الأمة ورخاء الأسعار.
وهنا نشير لأبرز الحالات التي يمكن فيها التسعير من جهة ولي الأمر.
1- حاجة الناس إلى السلعة: يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: (ما احتاج إلى بيعه وشرائه عموم الناس، فإنه يجب ألا يباع إلا بثمن المثل، إذا كانت الحاجة إلى بيعه وشرائه عامة).
2- حالة الاحتكار. يقول ابن تيمية - رحمه الله -: (ومثل ذلك - أي من حيث كونه يمنع - الاحتكار لما يحتاج إليه الناس، لما روى مسلم رحمه الله في صحيحه: "لا يحتكر إلا خاطىء".
3- حالة الحصر: ويبيِّن ذلك شيخ الإسلام بقوله: (وأبلغ من هذا، أن يكون الناس قد التزموا ألاّ يبيع الطعام أو غيره إلا أناس معروفون، لا تباع تلك السلع إلاّ لهم ثم يبيعونها هم، فلو باع غيرهم ذلك منع، فهنا يجب التسعير عليهم، بحيث لا يبيعون إلا بقيمة المثل، لا يشترون أموال الناس إلا بقيمة المثل، فالتسعير في مثل هذا واجب بلا نزاع).
4- حالة التواطو: ويوّضح ابن تيمية ذلك بقوله رحمه الله: (وقد منع غير واحد من الفقهاء القسّام الذين يقتسمون العقار وغيره بالأجرة أن يشتركوا، فإنهم إذا اشتركوا والناس محتاجون إليهم أغلوا عليهم الأجر، فمنع البائعين الذين تواطؤوا على ألاّ يبيعوا إلا بثمن قدروه أولى).
إنَّ القاعدة العامة في التسعير تؤكد: أنه كلما استولى على التجار الجشع وتمكّن من نفوسهم الطمع وسيطرت عليهم الأنانية وعمدوا إلى الاحتكار والاستغلال، تعيَّن على ولي الأمر التدخل بتحديد الأسعار.
الخلاصة:
وخلاصة الأمر فإنه لا يجوز لولي الأمر أن يتدخل في التسعير إلا إذا اقتضت المصلحة العامة منه أن يتدخل فيكون تدخله في التسعير إنما هو للضرورة، والضرورة تقدَّر بقدرها، يقول ابن قيم الجوزية - رحمه الله-: (وجماع الأمر أنَّ مصلحة الناس إذا لم تتم إلا بالتسعير، مسعرَّ عليهم تسعير عدل، لا وكس فيه ولا شطط، وإذا اندفعت حاجاتهم وقامت مصلحتهم بدونه لم يفعل).