المال كاسبه محاسب ومنفقه محاسب ومبذره محاسب ومسرفه محاسب
يفتقد الإنسان المال فيطلبه جاداً مجالداً، ويكثر المال فيصير هماً لجامعه، كيف يكثره وينميه؟ وأين يحفظه ويستودعه، قلة المال تشغل الإنسان وكثرته كذلك..
المال له وضع فريد، فكاسبه يحاسب ومنفقه يحاسب ومبذره يحاسب ومسرفه يحاسب، ولنأخذ الربا مثلاً فإن اللعنة تضرب كل مشارك فيه: آخذه ومعطيه وحتى كاتبه. الحسن البصري ذلك الرباني الذي ولد في خلافة عمر الفاروق، وتوفي سنة 011هـ بالبصرة. في خطبه ووعظه يكثر الحديث عن المال، فيرى من يجمعه ليتمتع به، كما يوجد عبيد للمال يجمعونه ليسلموه للوارث، يحرمون نفوسهم أولاً، ويتمتع به غيرهم، إنهم (صناديق) تحفظ.
يذكر ابن كثير في موسوعته التاريخية (البداية والنهاية) أن (فرقد) قال: دخلنا على (الحسن) فقلنا: يا أبا سعيد ألا تعجب من (محمد بن الأهتم)؟ قال ما له؟ فقلنا: دخلنا عليه، وهو يجود بنفسه فقال: "انظروا إلى ذلك الصندوق- وأومأ إلى صندوق في طرف بيته- فيه ثمانون ألف دينار أو قال ثمانون ألف درهم، لم أدفع منها زكاة، ولم أصل منها رحماً، ولم يأكل منها محتاج ، فقلنا: يا أبا عبدالله، فلمن كنت تجمعها إذن؟ قال: لروعة الزمان، ومكاثرة الأقران، وجفوة السلطان. قال الحسن: انظروا من أين أتاه الشيطان، فخوفه روعة زمانه، ومكاثرة أقرانه، وجفوة سلطانه، ثم قال: أيها الوارث لا تخدعن كما خدع صويحبك بالأمس، لقد جاءك هذا المال دون أن تتعب لك فيه يمين ولم يعرق لك فيه جبين، لقد جاءك ممن كان له جموعاً منوعاً، من الباطل جمعه، ومن الحق فيه منعه.
ثم قال: إن يوم القيامة لذو حسرات، يجمع الرجل المال ثم يموت، فيدعه لغيره، فيرزق فيه الصلاح والإنفاق في وجوه البر، فيجد ماله، أي الجامع، في ميزان غيره.." اهـ.
إن الدنيا تتطلب المال، والجاه يتطلب المال، وقد يفلسف الفني كسبه المال فيقول - كما سمعت يوماً من رجل غني- أنه لو لم يكن مستحقاً للمال لما أعطاه الله المال، قلت لقد قال قارون يوماً: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ }[القصص: 78] . وليس كذلك، ففي الأثر: إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً يكون علقة ثم مضغة فإذا أكمل (021) يوماً أتاه الملك فكتب رزقه وأجله.. فالرزق مثل الأجل مكتوب مسبقاً قبل الولادة وقبل الكسب، ولا يرتبط بعقيدة الإنسان وإيمانه ولا بكفره وشركه، وقديماً قال شاعر:
لو كانت الأرزاق تؤتى على الحجا
هلكن إذن من جهلهن البهائم
لذا نرى في الحياة الإنسان الذكي اللوذعي الذي يتحرك ليل نهار، ورزقه قليل، ونرى بشراً قليل المعرفة والكفاية، عديم الحيلة يأتيه رزقه من حيث لا يحتسب.
والإنسان المسلم يكسب رزقه فيكون حلالاً كله، أو حراماً كله، وفي الأعم الأغلب يكون الرزق خليطاً من هذا وذاك، لكنه لا يحصل على أكثر مما كتب له. إذن فليتحر الحلال ويتجنب الحرام فالمحصلة لن تكون أكثر مما كتب.
وأختم بتعريف لوهب ابن منبه، حيث يعرف بالزهد وأهله، وأجود الناس وأبخلهم فيقول: أزهد الناس في الدنيا - وإن كان عليها حريصاً - من لم يرض منها إلا بالكسب الحلال الطيب، مع حفظ الأمانات، وأرغب الناس فيها، وإن كان عنها معرضاً- من لم يبال من أين اكتسب حلالاً أو حراماً، وأجود الناس من جاد بحقوق الله عزَّ وجلَّ، وإن كان رآه الناس بخيلاً، فيما سوى ذلك.
وأبخل الناس في الدنيا من بخل بحقوق الله عزَّ وجلَّ، وإن رآه الناس جواداً فيما سوى ذلك.."ا.هـ.
مفاهيم جديدة فالجود ينبغي أن يكون بما يرضي الله تعالى، والبخل من بخل بهذه الحقوق، ولو حسبه الناس كريماً.
وأخيراً وجدت الرجل الرباني (ميمون بن مهران) يتحدث عن مشاكل (المال) فيعد ثلاث آفات، ثم يرتبها قائلاً: في المال ثلاث آفات، من ينجو من واحدة لم ينج من اثنتين، وإن نجا من اثنتين كان قميناً ألا ينجو من الثالثة.
1- ينبغي أن يكون المال حلالاً طيباً، فإياكم الذي يسلم كسبه فلا يدخله إلا طيباً؟ فإن سلم من هذه.
2- فينبغي أن يؤدي الحقوق التي تلزمه في المال، فإن سلم من هذه.
3- فينبغي أن يكون في إنفاقه ليس بمسرف ولا مقتر... ا.هـ.
فهل هذا من الصعب المستحيل؟!