على طاولة صغيرة ينفرد العالم في جريدة في زاوية يسجنها صخب الحاضرين من حولها ، وكان هو وأنا والثالث و لم يكن يوما موجودا رغم حضوره . يبدأ كل شيء تمتمة وهمسا يفضحه التوتر . بين أيدينا عناوين تجعل العقل يتحفز ويستهلك من المنبهات ما يزيد مكاسب ذلك المقهى ..
سيد سعيد بوجودنا
ومصطفى يأمر الجميع بخدمتنا دون كلل
كم جميل ان تصبح موضع اهتمام العاملين في المقهى ، فتشعر بأن هذا المكان يخصك أكثر من غيرك . وغيرك يحس بذلك أيضا ، كالوطن كل فرد فيه يملك منه ما يجعله الأحق به ، المقهى سيغلق أبوابه فجرا لنعود له في عصر جديد .
_هل سيأتي يوم تزول أمريكاعن الوجود ..؟
_ كأنك تقول هل سيزول الوجود ذاته ..!
_ أنت ليبرالي ولا أستغرب منك هذه الكلمة ..
_ وأنت رجعي بالفطرة
_ يكفي أنك تستهلك من الجمر ما يكفي فقراء العالم
_ لا أعتقد انهم يدخنون الأرجيلة .. وابتسم . فذلك سيجعله يطلق كل غاراته الكلامية نحوي ، ليس له صديق غيري يفجر فيه كل غضبه ، وأحبه كثيرا حين يلقبني بالليبرالي . تصنيفاتنا التي جعلتنا مختلفين جدا كشجرة البرتقال حين تنمو في داخلها شجرة أخرى ليست منها تتشاركان نفس الجذور وتشربان نفس الماء ولكنهما مختلفتين ..
_ وأنت ما رأيك ..؟
الثالث يبتسم وينتظر أحدنا ليطلق عليه تصنيفا يخلق له خانة في حوارنا هذا ، ولكنه إنسان غير قابل للتصنيف أنا محق في نظره وذلك محق أيضا ،عالمه الصغير بين الجامعة والمنزل وهذا المقهى وعالمنا الكبير منثور في عناوين الأخبار وصفحات الجرائد . الدقائق تمضي من خلاله هادئة يمتص كل ساعاتنا العجلة وأحاديثنا الثائرة ، يغلفها بنوع من اللامبالاة يقتل فيها أرواحنا التي بعثناها فيها ..
_ الجو في الخارج بارد ألا تعتقدون ؟
_ دعك من هذا ..الناس يقتلون ويحرقون وأنت تفكر بالطقس
_ آسف ... ولكنني أخاف البرد
_ ألا تخاف أن تضيع الأمة
_ بلى ولكن ليس كخوفي من البرد
_ يا برودك
الشتاء يمر بكل العالم ويقتل والجوع له ضحاياه ، ونظل نتحدث عن الحلول وكأن في أيدينا سحر لم يعلم عنه الحكام ، أوأن الدول تفتقر لعقول كعقولنا . وأراء كأرآئنا .
_ عزيزي لماذا تغضب ليس في يدك أن تفعل شيء
_ بالطبع فأنت تعتبر ما يحصل أمرا مسلما به ويفرحك أن الليبرالية منتصرة
_ وماذا سيفيد كرهي لها
_ موقفك ومبدأك
_ وهل ساعد موقفك ومبدأك في تغيير أي شيء
_ لا ولكن الحكومة .. ! وفي هذه اللحظة يقع الصمت على الجميع وترتفع هذه الكلمة وكأنها تقول انظروا إلينا . تلك الكلمة هي مفتاح السر لانتباه الشعوب ، فقط قل : حكومة وانظر كيف سيصمت الجميع من حولك . ولكي تستمر في حوارك دون جذب الانتباه كان من الأفضل لو قال : هم أن أولئك .
_ مصطفى تعال هنا بسرعة
_ آسف سنضطر للإغلاق مبكرا هذا اليوم
_ حسنا نراك في الغد
_ لا أعتقد انني ساكون موجود
_ إذن لن تحجز لنا الطاولة
_ للأسف
_ حسنا نراك بعد الغد
نخرج والأعين تلاحقنا ، والمكان أصبح فيه جزء لا يخصنا ففي الغد لن تكون تلك الطاولة لنا ، ولا نعلم هل سيستمر هذا الوضع إلى ما بعد الغد .. سنخرج للوطن الكبير نبحث في شوارعه عن وطن أصغر نجتمع فيه ...
مع حبي
القبس