الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان سنّة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ففي الاعتكاف الأنس بذكر الله، ومجالسة القرآن، والراحة بالصلاة، والمتعة بمناجاة الحبيب، واللذة بالدعاء والتضرع، ومثل المعتكف كرجل له حاجة إلى عظيم، فجلس على بابه، ويقول لا أبرح حتى تقضى حاجتي، وكذلك المعتكف يجلس في بيت الله ويقول: لا أبرح حتى يغفر لي، فالاعتكاف خلوة شرعية ورياضه روحية عجيبة في أسرارها ودروسها، إذ تؤصل في النفس مفهوم العبودية الحقة لله سبحانه وتعالى وتبين للمسلم قيمة الوقت وأنه أغلى من الذهب وتيسر له مجالسة الطيبين وأصحاب العلم وتساعده في الإقلاع عن الكثير من العادات الضارة، وتربي فيه القدرة على تأجيل الأمور والرغبات العاجلة الفانية من أجل المعالي والوصول إلى سامق المراتب، كما أنها فرصة جيدة للدعاة والمربين للتعلم والتربية.. ومع الأسف فهذه السنّة المؤكدة هجرها كثير من المسلمين وضيعها جلَّ المصلين لهذا جاء التحقيق التالي لنقف على ماهية سنّة الاعتكاف وأهميتها وقيمة الحفاظ عليها في هذه الأيام المباركة.
سنّة باقية
وفي البداية يقول الشيخ محمد العثمان إمام مسجد النور وأستاذ التربية الإسلامية في ثانوية الأندلس: وردت أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم تدل على الترغيب في الاعتكاف في رمضان وقد أشار الله تعالى إلى الاعتكاف في كتابه حيث قال: { وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } [البقرة: 187] والاعتكاف هو أن يلزم الإنسان مسجداً من المساجد لإقامة طاعة الله عزَّ وجلَّ فيشتغل بقراءة القرآن وذكر الله والصلاة وغير ذلك وليس الاعتكاف كما يفعله بعض الناس يبقى في المسجد ويأتي إليه أصحابه فيشغلونه دائماً بالكلام اللغو الذي لا فائدة منه وربما يكون كلاماً محرماً يشتمل على الغيبة فإن الأصل في الاعتكاف أن يكون الإنسان منقطعاً عن الناس في بيتٍ من بيوت الله لطاعة الله عزّ وجلّ لكن لا حرج أن يتحدث إلى بعض أصحابه أو إلى أحد من أهله حديثاً غير طويل ولا مشغل عما اعتكف من أجله وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف في رمضان طلباً لليلة القدر واعتكف أزواجه من بعده وهذا دليل على أن هذه السنة باقية لم تنسخ ومن أهم شروط الاعتكاف أن يبقى الإنسان في المسجد فلا يخرج منه إلا لحاجة لا بد منها وقد قسم أهل العلم خروج المعتكف إلى ثلاثة: قسم يجوز له بدون شرط وقسم يجوز له بشرط وقسم لا يجوز له لا بشرط ولا بغير شرط أما الذي يجوز له بدون شرط فهو أن يخرج الإنسان لما لا بد منه مثل أن يخرج لقضاء الحاجة حاجة البول أو الغائط إذا لم يكن في المسجد ما يقضي به حاجته أو أن يخرج للطعام أو الشراب إذا لم يكن له أحد يأتيه بهما وأما ما يجوز بشرط فمثل أن يشترط إن مات قريبه المريض فإنه يشيع جنازته أو يشترط أن يعود مريضاً أو نحو ذلك مما يخرج إليه وهو في طاعة الله عزَّ وجلَّ لأن هذه عبادة لا تنافي الاعتكاف وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لضباعة بنت الزبير وقد أرادت الحج وهي مريضة: "حجي واشترطي فإن لك على ربك ما استثنيتي" وأما القسم الثالث وهو الخروج الذي لا يجوز لا بشرط ولا بغير شرط فهو أن يخرج الإنسان لأمر ينافي الاعتكاف مثل أن يخرج للبيع والشراء أو يخرج للتمتع بأهله أو ما أشبه ذلك من الأمور المنافية للاعتكاف، فهذه لا يجوز الخروج لها بشرط ولا بغير شرط.
الاعتكاف أسرار ودروس
ويضيف الشيخ سعود الزيد إمام وخطيب مسجد ابن كثير قائلاً: قد بقيت من أيام رمضان بقيةٌ. بقية وأي بقية، إنها العشر الأخيرة. كان يحتفي بها النبي صلى الله عليه وسلم أيما احتفاء. في العشرين قبلها كان يخلطها بصلاة ونوم، فإذا دخلت العشر شمر وجد وشد المئزر. هجر فراشه، وأيقظ أهله، يطرق الباب على فاطمة وعلي رضي الله عنهما قائلاً: (ألا تقومان فتصليان) يطرق الباب وهو يتلو: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى } [طه: 132]، ويتجه إلى حجرات نسائه آمراً: "أيقظوا صواحب الحجر فرب كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة" "ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم إذا بقي من رمضان عشرة أيام يدع أحدا من أهله يطيق القيام إلا أقامه" ويؤكد الشيخ الزيد أن إحسان الظن ليس بالتمني، ولكن إحسان الظن بحسن العمل، والرجاء في رحمة مع العصيان ضرب من الحمق والخذلان، والخوف ليس بالبكاء ومسح الدموع ولكن الخوف بترك ما يخاف منه العقوبة. تقول عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: يا رسول الله: أرأيت إن علمت ليلة القدر ماذا أقول فيها ؟ قال قولي: (اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنى). عُجُّوا في عشركم بالدعاء. فقد قال ربكم عزَّ شأنه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186]
إن للدعاء شأناً عجيباً، وأثراً عظيماً في حسن العاقبة، وصلاح الحال والمآل والتوفيق في الأعمال والبركة في الأرزاق. والموفق الذي أدرك حظه من الدعاء ونال نصيبه من التضرع والالتجاء إلى الله في كل حالاته، والفزع إليه في جميع الحاجات، يدعو ويدعى له، ينال حظه من الدعاء لنفسه ولغيره، والداه الشغوفان، وأبناؤه البررة والناس من حوله يحيطونه بدعواتهم، أحبه مولاه فوضع له القبول، فحسن منه الخلق وزان منه العمل، وارتفعت له الألسن تدعو له، ملحوظ من الله بالعناية والتسديد، وبإصلاح الشأن مع التوفيق إن أهل الدعاء الموفقين حين يعُجُّون إلى ربهم بالدعاء، يعلمون أن جميع الأبواب قد توصد في وجوههم إلا بابا واحدا هو باب السماء. باب مفتوح لا يغلق أبداً، فتحه من لا يرد داعيا ولا يخيب راجيا. فهو مغيث المستغيثين، وناصر المستنصرين، ومجيب الداعين. ويجتمع في هذه الأيام أوقات فاضلة وأحوال شريفة العشر الأخيرة، وجوف الليل والأسحار من رمضان، ودبر الأذان والمكتوبات، أحوال السجود، وتلاوة القرآن، ومجامع المسلمين في مجالس الخير والذكر، كلها تجتمع في أيامكم هذه. فأين المتنافسون؟ ألحوا بالدعاء واسألوا ولا تعجزوا ولا تستبطؤوا الإجابة. فيعقوب عليه السلام فقد ولده الأول ثم فقد الثاني في مدد متطاولة، ما زاده ذلك بربه إلا تعلقا: {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [يوسف: 83] ونبي الله زكريا عليه السلام؛ كبر سنه واشتعل رأسه بالشيب ولم يزل عظيم الرجاء في ربه حتى قال محققاً: {قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} [مريم: 4] لا تستبطئ الإجابة فربك يحب تضرعك، ويحب صبرك، ويحب رضاك بأقداره، رضا بلا قنوط، يبتليك بالتأخير لتدفع وسواس الشيطان، وتصرف هاجس النفس الأمارة بالسوء، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : "يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول دعوت فلم يستجب لي" ويجمل الدعاء وتتوافر أسباب الخير ويعظم الرجاء حين يقترن بالاعتكاف، فقد اعتكف رسول الله حتى توفاه الله. عجيب هذا الاعتكاف في أسراره ودروسه؟ المعتكف ذكر الله أنيسة، والقرآن جليسه، والصلاة راحته، ومناجاة الحبيب متعته، والدعاء والتضرع لذته. إذ أوى الناس إلى بيوتهم وأهليهم، ورجعوا إلى أموالهم وأولادهم لازم هذا المعتكف بيت ربه وحبس من أجله نفسه، ويقف عند أعتابه يرجو رحمته ويخشى عذابه، لا يطلق لسانه في لغو ولا يفتح عينه لفحش ولا تتصنت أذنه لبذاءة. سلم من الغيبة والنميمة جانب التنابز بالألقاب، والقدح في الأعراض، ومسارقة الطبع من الأخلاق الرديئة، استغنى عن الناس وانقطع عن الأطماع، علم واستيقن أن رضا الناس غاية لا تدرك. وفي درس الاعتكاف انصرف المتعبد إلى التفكير في زاد الرحيل وأسباب السلامة، السلامة من فضول الكلام، وفضول النظر، وفضول المخالطة.
في مدرسة الاعتكاف يتبين للعابد أن الوقت أغلى من الذهب فلا يبذله في غير حق، ولا يشتري به ما ليس بحمد، يحفظه عن مجامع سيئة، بضاعتها أقوال لا خير في سماعها، ويتباعد به عن لقاء وجوه لا يسر لقاؤها. الأوقات الفاضلة تشغل بالدعاء والاعتكاف، وتستغل فيها فرص الخير وإن من أعظم ما يرجى فيها ويتحرى ليلة القدر: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} [القدر: 2] من قامها إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه. ليلة خير من ألف شهر، خفي تعيينها اختباراً وابتلاء، ليتبين العاملون وينكشف المقصرون، فمن حرص على شيء جد في طلبه، وهان عليه ما يلقى من عظيم تعبه. إنها ليلة تجري فيها أقلام القضاء بإسعاد السعداء وشقاء الأشقياء: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان: 4] {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} (1) {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} (2) {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ} (3) {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ} (4) {سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} (5) [القدر: 1 - 5] المغبون من انصرف عن طاعة الله، والمحروم من حرم رحمة الله، والمأسوف عليه من فاتت عليه فرص الشهر، وفرط في فضل العشر، وخاب رجاؤه في ليلة القدر، مغبون من لم يرفع يديه بدعوة، ولم تذرف عينه دمعة، ولم يخشع قلبه لله لحظة. ويحه ثم ويحه أدرك الشهر ولم يحظ بمغفرة، ولم ينل رحمة، يا بؤسه ولم تقل له عثرة؟ ساءت خليقته وأحاطت به خطيئته، قطع شهره في البطالة وكأنه لم يبق للصلاح عنده موضع، ولا لحب الخير في قلبه منزع. طال رقاده حين قام الناس، هذا والله غاية الإفلاس والإبلاس عصى رب العالمين، واتبع غير سبيل المؤمنين أمر بالصلاة فضيعها، ووجبت عليه الزكاة فانتقصها ومنعها دعته دواعي الخير فأعرض عنها، مسؤولياته قصر فيها، وقصر فيمن تحت يديه من بنين وبنات يفرط في مسئولياته وقد علم أن من سنة النبي أنه يوقظ أهله أما هذا فقد اشتغل بالملهيات وقطع أوقاته في الجلبة في الأسواق والتعرض للفتن.
ويؤكد الشيخ عبد المجيد الحسن معلم التربية الإسلامية على أن مواسم الخير، وفرص الفلاح، وطرق النجاح لهذه الأمة كثيرة جداً لمن كانت له همة وعنده عزيمة، فما من شهر من الشهور، بله ولا يوم من الأيام يخلو من تلك الفرص، أو يعدم تلك المواسم، لا سيما شهر الصبر رمضان الذي أنزل فيه القرآن، وتفتح فيه الجنان، وتغلق فيه النيران، وتوصد فيه المردة اللئام، وتعتق فيه الأبدان من النيران. من تلكم المواسم العظيمة، والفرص النادرة، الاعتكاف خاصة في العشر الأواخر من رمضان، الذي كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يحافظ عليه، ولم يدعه حتى ارتحل إلى الرفيق الأعلى، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: "إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله تعالى، ثم اعتكف أزواجه من بعده" وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف في كل رمضان عشرة أيام، فلما كان العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين يوماً" هذه السنّة المؤكدة هجرها كثير من المسلمين، وضيعها جلّ المصلين، ولله در محمد بن شهاب الزهري حيث قال: "عجباً للمسلمين، تركوا الاعتكاف، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يتركه منذ دخل المدينة حتى قبضه الله"، مع حاجتهم الماسة إليها، وتيسر الأسباب لدى كثير منهم عليها، لأنها هي الخلوة الشرعية، والرياضة الروحية لهذه الأمة المرحومة. قال عطاء رحمه الله: "مثل المعتكف كرجل له حاجة إلى عظيم، فجلس على بابه، ويقول لا أبرح حتى تقضى حاجتي، وكذلك المعتكف يجلس في بيت الله ويقول: لا أبرح حتى يغفر لي" فالزموا سنّة نبيكم التي فيها رضوان ربكم، وإياكم إياكم أن تضيعوها، أو تفرطوا فيها، أو تسوفوا في المبادرة إليها، خاصة وأنتم على أعتاب عشرته الكريمة، هلمُّوا إلى سوق من أسواق الآخرة، وإياكم أن تستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير، إياكم أن تستعيضوا عنها بأسواق الدنيا، أو بغرض من أغراضها الفانية، أو بحاجة من حاجاتكم الآنية، هلمَّ إلى موائد الكريم المنان، ودعوكم من موائد الطعام. وهديه صلى الله عليه وسلم في الاعتكاف كان أكمل هدي، وأيسره، فكان إذا أراد أن يعتكف وُضع له سريره وفراشه في مسجده صلى الله عليه وسلم، وبالتحديد وراء أسطوانة التوبة كما جاء في الحديث عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه كان إذا اعتكف طرح له فراشه، أو يوضع له سريره وراء أسطوانة التوبة" رواه ابن ماجه.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يضرب له خباء مثل هيئة الخيمة، فيمكث فيه غير أوقات الصلاة حتى تتم الخلوة له بصورة واقعية، وكان ذلك في المسجد، ويضرب ذلك الخباء على فراشه أو سريره، وذلك كما في حديث عائشة رضي الله عنها قالت: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف في العشر الأواخر من رمضان، فكنت أضرب له خباء، فيصلي الصبح، ثم يدخله.. الحديث رواه البخاري وكان دائم المكث في المسجد لا يخرج منه إلا لحاجة الإنسان، من بول أو غائط، وذلك لحديث عائشة رضي الله عنها حين قالت: " وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة إذا كان معتكفاً" رواه البخاري وكان صلى الله عليه وسلم يؤتي إليه بطعامه وشرابه في معتكفه كما أراد ذلك سالم بقوله: "أما طعامه وشرابه فكان يؤتى به إليه في معتكفه" وكان صلى الله عليه وسلم يحافظ على نظافته، إذْ كان يخرج رأسه إلى حجرة عائشة رضي الله عنها لكي ترجّل له شعر رأسه، ففي الحديث عن عروة عنها رضي الله عنها (أنها كانت ترجّل النبي صلى الله عليه وسلم وهي حائض، وهو معتكف في المسجد، وهي في حجرتها، يناولها رأسه) رواه البخاري قال ابن حجر: (وفي الحديث جواز التنظيف والتطيب والغسل والحلق والتزين إلحاقاً بالترجل، والجمهور على أنه لا يكره فيه إلا ما يكره في المسجد).
ويضيف الشيخ عبدالمجيد الحسن: من الجوانب التربوية للاعتكاف تطبيق مفهوم العبادة بصورتها الكلية، فالاعتكاف يؤصل في نفس المعتكف مفهوم العبودية الحقة لله عزّ وجلّ، ويدربه على هذا الأمر العظيم الذي من أجله خلق الإنسان، إذ يقول الحق تبارك وتعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]. حيث إن المعتكف قد وهب نفسه كلها ووقته كله متعبداً لله عزّ وجلّ ويكون شغله الشاغل هو مرضاة الله عزَّ وجلَّ، فهو يشغل بدنه وحواسه ووقته - من أجل هذا الأمر - بالصلاة من فرض ونفل وبالدعاء، وبالذكر، وبقراءة القرآن الكريم، وغير ذلك من أنواع الطاعات. وبهذه الدُّرْبة في مثل أيام العشر الأخيرة من شهر رمضان المبارك يتربى المعتكف على تحقيق مفهوم العبودية لله عزّ وجلّ في حياته العامة والخاصة، ويضع موضع التنفيذ قول الحق تبارك وتعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (162) {لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ } (163) [الأنعام ]، قال القرطبي (محياي) أي: ما أعمله في حياتي، (ومماتي) أي: ما أوصي به بعد وفاتي، (لله رب العالمين) أي: أفرده بالتقرب بها إليه).
وليلة القدر: هي المقصد الرئيسي من اعتكافه صلى الله عليه وسلم، إذ بدأ اعتكافه أول مرة الشهر كله وكذلك اعتكف العشر الأواسط تحرياً لهذه الليلة المباركة، فلما علم أنها تكون في العشر الأخيرة من شهر رمضان اقتصر اعتكافه على هذه العشر المباركة.
وعن تعوّد المكث في المسجد يشير الشيخ الحسن إلى أن المعتكف قد الزم نفسه البقاء في المسجد مدة معينة. وقد لا تقبل النفس الإنسانية مثل هذا القيد في بداية أمر الاعتكاف، ولكن عدم القبول هذا سرعان ما يتبدد عادة بما تلقاه النفس المسلمة من راحة وطمأنينة في بقائها في بيت الله. ومعرفة المعتكف بأهمية بقائه في المسجد أثناء اعتكافه تتجلى في الأمور التالية: أن الرجل الذي يمكث في المسجد قد أحب المسجد من قلبه، وعرف قدر بيوت الله عزّ وجلّ، وهذا الحب له قيمة عند الله عزَّ وجلَّ؛ إذ يجعله من الفئات التي يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله. أن الذي يمكث في المسجد ينتظر الصلاة له أجر صلاة، وأن الملائكة تستغفر له، ففي الحديث الذي أورده أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه ما لم يحدث: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، لا يزال أحدكم في مصلاه ما دامت الصلاة تحبسه، لا يمنعه أن ينقلب إلى أهله إلا الصلاة" البخاري.. البعد عن الترف المادي والزهد فيه، في الاعتكاف يتخفف المعتكف عن الكثير من هذه الأمور، ويصبح كأنه إنسان غريب في هذه الدنيا، وطوبى للغرباء، فهو من أجل مرضاة الله عزَّ وجلَّ ارتضى أن يقبع في ناحية من المسجد ليس لديه في الغالب إلا وسادة يضع عليها رأسه وغطاء يتغطى به، قد ترك فراشه الوثير وعادته الخاصة من أجل ذلك الرضا. أما طعامه فهو مختلف في وضعه، إن لم يكن في نوعه، إن كان طعامه يأتيه من منزله، فهو عادة لا يأتيه بالكثرة ولا يتناوله بالوضع الذي كان يتناوله في منزله على طاولة وكرسي مع أهله وولده، بل يأكل كما يأكل الغريب، ويأكل كما يأكل العبد الفقير إلى ربه، وإن خرج إلى السوق من أجل الطعام فهو يعمل جاهداً على التعامل مع ما هو متوفر ولا يشترط نوعاً معيناً، لأنه مطلوب منه العودة إلى معتكفه، وعدم الإطالة في مثل هذه الأمور، وبهذا يعرف أن الحياة يمكن إدارتها بالقليل الذي يرضى عنه الله، وكذلك يمكن إدارتها بالكثير الذي لا يُرضي الله عزَّ وجلَّ، والفرق بينهما كبير. الإقلاع عن كثير من العادات الضارة: في ظل غياب مفهوم التربية الإسلامية في كثير من المجتمعات الإسلامية، وفي كثير من بيوت المجتمعات الإسلامية. نشأت وتفشّت لدى أفراد هذه المجتمعات كثير من العادات التي تتعارض مع تعاليم الدين الحنيف، وعمّت هذه العادات المنكرة حتى أصبحت نوعاً من المعروف الذي لا يرى فيه ضرر على الدين والنفس، ومن تلك العادات: التدخين، وسماع الموسيقى، ومشاهدة ما يبث في القنوات الفضائية من مشاهد وأحاديث تضادّ عقيدة المسلم وتُنافي حياءه وعفّته، وغير ذلك من عادات لها ضررها على الدين والنفس. وتأتي فترة الاعتكاف لتكشف للفرد المسلم زيف تلك العادات، ووهن ذلك الاعتقاد الذي سكن في نفوس كثير من المسلمين بعدم القدرة على التخلص من مثل تلك العادات، لأنها قد استحكمت في النفوس. ويتعرف الإنسان المسلم في فترة الاعتكاف، وقد خلا إلى خالقه، على مفهوم العبادة بصورتها الشاملة، وأنه يجب أن يكون متعبداً لله عزَّ وجلَّ على مدار الساعة في حياته العامة والخاصة فهو عندما يتخذ مرضاة الله عزَّ وجلَّ ومحبّته ميزانا يزن به كل عمل يقوم به، يجد أن تلك العادات التي أشرنا إليها آنفاً وكثير غيرها لا تتفق مع هذه المحبة لله عزَّ وجلَّ بل تعمل في اتجاه معاكس لها، ويجد بذلك أن مثل تلك العادات تخرجه عن دائرة العبودية الصادقة لله، وإذا كان الأمر كذلك فيجب عليه أن يتخلص منها في أسرع وقت ممكن. فالاعتكاف فرصة سنوية يستطيع فيها المعتكف أن يتخلص من هذه البلايا عن طريق التوبة والالتجاء إلى الله عزَّ وجلَّ أولاً، وعن طريق فطام النفس عن تلك المعاصي في فترة الاعتكاف، وعدم تحقيق رغبة النفس منها، وتعويدها على ذلك. هذه الطاعات المستمرة لله عزَّ وجلَّ تحتاج إلى صبر مستمر من قِبَل المعتكف، وفي هذا تربية للإرادة، وكبْح لجماح النفس التي عادةً ما ترغب في التفلّت من هذه الطاعة إلى أمور أخرى تهواها. وهناك الصبر على ما نقص مما ألِفته النفس من أنواع الطعام المختلفة التي كان يطعمها في منزله، فتلك الأنواع لا تتوفر في المسجد، فيصبر على هذا القليل من أجل مرضاة الله عزَّ وجلَّ. وهناك الصبر على نوع الفراش الذي ينام عليه، فلن يوضع له سرير في المسجد، أو فراش وثير كالذي ينام عليه في منزله، فهو ينام على فراش متواضع جداً إن لم يكن فرش المسجد. وهناك الصبر على ما يجد في المسجد من مزاحمة الآخرين له، ومن عدم توفر الهدوء الذي كان يألفه في منزله إذا أراد النوم وهناك الصبر عن شهوة الزوجة، إذ يحرم عليه مباشرتها عند دخوله إلى منزله للحاجة حتى التقبيل والعناق، وهي حلاله، وفي هذا الأمر تتجلى قيمة الصبر وقيمة القوة في الإرادة وضبط النفس، ومن خلال هذه المواقف وغيرها نجد أنه يمكن تربية الإنسان على القدرة على تأجيل كثير من الأمور والرغبات العاجلة من أجل أمور أهم منها، فهو يؤجل كل هذه الحاجات النفسية والمادية العاجلة من أجل الفوز برضى الله تبارك وتعالى.
بناء القلوب
وينبه الشيخ تركي السحيم معلم في المعهد العلمي إلى أن الله شرع لعباده الكثير من العبادات والطاعات والقربات التي يستطيعون بأدائها وممارستها أن يرتقوا بأرواحهم ويسموا بأنفسهم، ومن أجـــلّ هذه الطاعات والقربات تلك السنّة التي يتفرغ فيها المرء للجد والاجتهاد في العبادة، منصرفًا بها عن علائق الدنيا وضجيجها الصاخب، ليخلو فيها بربه فيُناجيه ويناديه ويدعوه ويرجوه؛ فترق روحه ويصفو قلبه وتسمو نفسه، إنها السنّة التي داوم عليها النبي صلى الله عليه وسلم، إنها سُنّة الاعتكاف؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف كل رمضان 10 أيام؛ فلما كان العام الذي قُبِضَ فيه اعتكف 20 يومًا" رواه البخاري. وإن كان الاعتكاف فرصة للمسلم يتفرغ فيها للعبادة وللارتقاء بإيمانه؛ فهو فرصة كبرى للدعاة والمربين للارتقاء بالمستوى الإيماني والتعبدي -وغيرهما- لدى من يدعونهم.
ونحاول هنا طرح بعض الأفكار التي تساعد على نجاح الاعتكاف والاستفادة منه في الارتقاء بالمستوى الروحي والتعبدي للمعتكفين. فمن الضروري -ليكون الاعتكاف ناجحًا- أن يضع المعتكف تصوراً شاملاً لما يرجو أن يكون عليه الاعتكاف، مثل: وضع برنامج واضح ومحدد له، وتحديد مكان الاعتكاف بالمسجد، وتجهيز هذا المكان ليكون صالحًا لإقامته، كذلك من الأفكار التي يمكن أن تُعطي للاعتكاف فائدة تربوية كبيرة دعوة أحد العلماء أو الدعاة المشهود لهم بالعلم والصلاح وحسن الخلق للاعتكاف مع المعتكفين، فمعايشة المعتكفين لمثل هذا العالم أو الداعية القدوة سيكون لها أثر كبير في الارتقاء بهم في الجوانب الروحية والعبادية والسلوكية وغير ذلك؛ فمخالطة الصالحين ومعايشتهم لها عميق الأثر في نفوس من حولهم وإن لم ينطقوا بكلمة واحدة، ولذا قال أحد السلف الصالح رضوان الله عليهم: "حال رجل في ألف رجل أبلغ من مقال ألف رجل في رجل"، وقيل أيضًا: "مجالسة العارف الزاهد تدعو من الشك إلى اليقين، ومن الرياء إلى الإخلاص، ومن الغفلة إلى الذكر، ومن الرغبة في الدنيا إلى الرغبة في الآخرة، ومن الكبر إلى التواضع، ومن سوء الطوية إلى النصيحة"، فلنحرص على وجود هذا العالم أو الداعية النموذج بين المعتكفين لينهلوا من علمه وصلاحه. ومن الضروري أن يكون هناك تشجيع وتحفيز للمعتكفين على الإكثار من الخيرات، كالإكثار من النوافل، ومن تلاوة القرآن، والمداومة على ذكر الله، والابتعاد عن فضول الكلام...إلخ، ومن الممكن أن يتم ذلك من خلال وضع مشروع عبادي محدد لكل يوم، فمثلاً مشروع اليوم الأول: تلاوة عدد كبير من أجزاء القرآن مع التدبر، واليوم الثاني: ذكر الله بعدد كبير ومتنوع من الأذكار، واليوم الثالث: مراجعة عدد كبير من آيات القرآن التي كان يحفظها، واليوم الرابع: صلاة عدد كبير من ركعات النوافل من باب التطوع المطلق، وهكذا كل يوم مشروع يحفز المعتكفين على الانشغال بطاعة من الطاعات. تعد صلاة التهجد من أبرز العلامات التي يتميز بها الاعتكاف، لما لها من عظيم الأثر في النفوس ولما يلمسه المرء من شعور صادق بقربه من الله تعالى، مصداقًا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أقرب ما يكون الربُّ من العبد في جوف الليل الآخر" رواه الترمذي بسند حسن صحيح، ففي ظلها تصفو القلوب، وتخشع النفوس، وتتسامى العقول والخواطر، وتعرج الأرواح إلى بارئها فتنعم بجواره وتأوي إلى رحمته.
ومن الأدوار التي يمكننا القيام بها لتعميق استفادة المعتكفين بهذه المعاني الروحية من صلاة التهجد أن نوفر لهم ظروفًا تساعدهم على ذلك مثل: الحرص على إيجاد قارئ مجيد لحفظ القرآن، حسن الصوت، ونقصد بحسن الصوت أن يشعر من يصلي خلفه بروعة القرآن ويعيش في ظلال معانيه، ويحسن أن يكون وقتها في الثلث الأخير من الليل وليس في منتصف الليل؛ وذلك لنفوز بالرحمات التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم في الثلث الأخير من الليل حين قال: "إذا مضى شطر الليل أو ثلثاه ينزل الله تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا، فيقول: هل من سائل يُعطَى! هل من داع يُستجاب له! هل من مستغفر يُغفر له! حتى ينفجر الصبح" رواه مسلم، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى يستطيع المعتكفون أن يأخذوا قسطًا من النوم فيقومون للتهجد بنفس يقظة واعية لما تسمعه من آيات القرآن ولما تتلفظ به من الذكر والدعاء.
ومن الأفكار التي يمكن أن يُستثمر بها الاعتكاف استثمارًا جيدًا أن تتم مدارسة ومناقشة أحد الكتب التي تتناول الرقائق أو الأخلاق والسلوك أو غير ذلك مما يحتاج إليه معظم المعتكفين، ومن الممكن أن تكون هذه الفقرة بعد صلاة التراويح وقبل النوم. وتتم مدارسة ومناقشة هذا الكتاب بأن يقوم أحد القائمين على الاعتكاف أو أحد المعتكفين من ذوي العلم بعرض أحد موضوعات هذه الكتاب بصورة إجمالية بعيدًا عن التطويل الممل أو الاختصار المخل، ثم يفتح بعد ذلك النقاش حول هذا الموضوع والدروس المستفادة منه والواجبات العملية التي نستخلصها منه. فالاعتكاف يعد فرصة جيدة لتعلم من لا يجيد تلاوة القرآن لأحكام التلاوة، ولذا فمن الممكن أن يحتوي برنامج الاعتكاف على حلقة تجويد تهتم بتعليم أحكام تلاوة القرآن وتدريب المعتكفين على تطبيق هذه الأحكام عند التلاوة، وتبدأ بشرح الأحكام من القائم عليها، ثم يقوم بتدريب المشاركين فيها على تطبيق هذه الأحكام من خلال الاستماع إلى تلاوتهم وتصحيح أخطائهم مع التركيز على الحكم الذي شُرح لهم، ومن الممكن أن تعقد هذه الحلقة بعد الفجر أو بعد العصر





