الحلقة السابعة والعشرون :
تابع علماء المسلمين والعلاج النفسي :
يعقوب بن إسحاق الكندي (ت حوالي 252 هـ) الذي يسمى ( فيلسوف العرب وأحد أبناء ملوكها ) ، في مداواة الحزن ، وهي بعنوان : ( رسالة في الحيلة لدفع الأحزان ) ، التي عرفها واستفاد منها من جاء بعده مثل ابن مسكويه في كتابه ( تهذيب الأخلاق ) ونشرها لأول مرة ومعها ترجمة إيطالية R. Walzer, H, Ritter في الكراسة الأولى من نشرات أكاديمية لينشى الملكية في روما عام 938 1 (Reale Accademila Nationale dei Lincei ، ثم تم تلخص محتواها في مقدمة النشرة الأولى لرسائل الكندي الفلسفية (القاهرة 1950)، ثم نشرها بعد ذلك كل، من الدكتور عبد الرحمن بدوي في مجموعة " رسائل فلسفية " والدكتور ماجد فخري في مجموعة كتب ونصوص بعنوان ( الفكر الأخلاقي العربي )0
يعرف الكندي فيلسوف العرب الحزن بأنه : ألم نفساني يعرض لفقد المحبوبات أو فوت المطلوبات 0 ويقول إنه لا يسلم منه أحد في هذه الحياة التي لا ثبات لما فيها من خيرات، ولا سبيل فيها إلى وصول الإنسان لكل ما يريد 0 والحزن ينشأ من أن الإنسان يعتمد في سعادته على أنواع المقتنيات المادية التي لا يمكن تحصينها من عوادي التغير والتي هي بطبيعتها مقبلة مدبرة ومبذولة لكل متغلب 0 وذلك بدلا من أن يوجه إرادته إلى الممتلكات العقلية التي هي ملك لصاحبها حقيقي باق ولا يستطيع أن يغلبه عليها غالب أو يغصبه إياها غاصب، والحكيم في نظر فيلسوفنا هو الذي يكون بالنسبة لأنواع القنية المادية كالملك الجليل المتعزز بنفسه الذي لا يتلقى مقبلا ولا يشيع ظاعناً 0
ولما كان الإنسان في حقيقته هو النفس الباقية لا الجسد الداثر ، ولما كانت النفس أيضا هي السائس والبدن هو المسوس والآلة فإن الواجب على الإنسان أن يتعهد نفسه وأن يتحمل في سبيل ذلك من المعاناة أكثر مما يحتمل من الألم لإصلاح أمور بدنه ، وهو يستطيع ذلك إذا أخذ نفسه بقوة العزم وألزمها في أخلاقها الأمر الأكبر ، وضبطها بالإرادة عن المطالب والانفعالات التي ينشأ عنها الحزن ، ثم يذكر فيلسوف العرب كثيراً من أنواع الحيلة والتبصر والحكايات التي تعين على احتمال الأحزان ، ويدعو القارئ إلى أن لا يستسلم للحزن وأن يدفعه عن نفسه بأن يتذكر كم سلا هو نفسه وسلا غيره عن الأحزان ، وأن يقبل الحياة بحسب طبيعتها وأن لا يطمع في أن يستأثر بالأشياء أو يحسد غيره على ما عنده وأن خيرات الدنيا ( عارية من الله جل ثناؤه يستردها متى شاء وعلى يد من يشاء ) ، بحيث تكون الحزن على ما يفوت من الخيرات خروجا عن أقل الشكر لله وهكذا من وسائل التسلية للمحزون إلى حد إقناعه بأن الحزن شيء طبيعي ملازم للحياة ، بحيث لا يكون هناك معنى للتفكير فيه ، وكل المعول في ذلك على تنبيه الإنسان إلى حقيقة روحه ، وأنها جوهر شريف حصين باقي ، وتربية الشعور بالشخصية الإنسانية حتى تؤمن بقوتها واستغنائها عن الكثير مما يطلبه الإنسان ويقتنيه فيجلب بذلك لنفسه القلق ويعاني متاعب الطلب وآلام الفقد 0
ويشبه الفيلسوف العربي بني آدم في اجتيازهم هذه الحياة الخادعة الفانية إلى العالم الحق بقوم في سفينة تحملهم إلى غاية ينشدونها ، فترسو بهم حيناً على شاطئ حافل بالأشياء الجميلة ، فمنهم من خرج ولم يأبه لما رأى من مغريات ورجع إلى مكانه ، ومنهم من استهوته الرياض الزاهرة والطيور التي تغني والأحجار الكريمة فبقى حينا ومتع نفسه بلون ورائحة ونغم ، ولم ينسى غايته ، فعاد إلى مكانه ، ومنهم الذين أكبوا على اجتناء الأزهار والثمار ونحو ها ، وعادوا مثقلين بما حملوا، ولم يجدوا لما حملوه مكاناً فسيحاً، وأخذوا يتعهدونه مع القلق والخوف عليه ، وهو يفنى من أيديهم فيحز نون عليه ، حتى ثقلت عليهم مهمة المحافظة عليه ، فقذفوا به في البحر ، وآخرون تولجوا في المروج الكثيفة ، يجمعون ويتمتعون ، بين روعة ونكبة وافتراس سبع أو تلطيخ وحل ، غافلين عن غايتهم ، فلما نادى قائد المركب للمسير كانوا قد توغلوا في الغياض وغرقوا في المتاع ، فلم يبلغهم نداؤه فتركوا للمهالك والتهمتهم لهوات المعاطب 0
ويخلص ، الكندي من هذا إلى أنه يقبح بالعاقل أن يكون من مخدوعي حصى الأرض ، وأصداف الماء وأزهار الشجر ، كما يحسن به ، إن أراد أن يأسى على شيء ، فليأس على عدم بلوغه مكانا حسناً في العالم الحق الدائم الذي ليس فيه إلا الخيرات الحقيقية التي لا تنالها الآفات ، ويعيش فيه الإنسان فوق الآلام والأحزان 0 ولا ينسى فيلسوفنا أن يعنى بدفع ما يلحق النفوس من غم بسبب الموت الذي لابد من مواجهته في يوم من الأيام ، وهو هنا يعمل 0 إلى المنطق ، فيقول لقارئه إن الموت ليس شراً ، لأنه ( تمام الطبيعة الإنسانية ) ، وهو جزء من مفهوم الإنسان في هذه الدنيا ، لأنه هو ( الحي الناطق المائت ) ، فلا بأس أن يكون الإنسان ما هو في حقيقته ، ومن يرفض الموت فكأنه يرفض الحياة 0
ويريد فيلسوفنا أن يطمئن قارئه بأن يشرح له كيف جاء وإلى أين سيصير بعد الموت ، ويرشح له باب الأمل ، فيقول له إن الإنسان يتنقل لأطوار الخلقة من طور خلايا غذائية في أعضاء البدن إلى نطفة في مستقرها تصير جنيناً ثم يخرج إلى هذا العالم , وهو في كل مرحلة ينتقل إلى ما هو أرحب وأوسع ، ولو طلب منه أن يعود إلى ما قبلها لحزن كل الحزن ، ولو عرض عليه أن يعود إلى بطن أمه ، وكان يملك كل ما في الأرض ، لافتدى به نفسه 0 فليعلم الإنسان إذن أنه إنما يجزع من مفارقة هذه الحياة لشدة تعلقه بما فيها من ماديات حسية ، هي في الواقع مصدر آلامه ، ولجهـله بما هو فيه من ضيق هذه الدنيا وبما سينفتح له بعد الموت من آفاق فسيحة وملك عريض دائم وخلاص من كل الآلام وخيرات لا تنالها الآفات ، وهو لو أقام أب ذلك العالم الجميل ونعم حيناً بلذاته الخالية من الكدر، ثم أريد منه أن يعود إلى هذه الدنيا، لكان جزعه أضعاف جزعه لو أريد إرجاعه إلى ضيق بطن الأم وظلامه ، فحري بالعاقل أن لا يعطي ، هذه الحياة من قيمة أكثر مما تستحق ، ولتكن عنده هي المرحلة الأخيرة الشاقة قبل بلوغ الغاية العظيمة ، وليصبر على المصائب التي تصيب الخيرات المادية ، لأنها تقلل أحزانه وتخلصه من القلق عليها ، وليعلم أن المصائب تقلل من وقع المصائب ، حتى تصير عند الحكيم كالنعم ، وأن التقلل من المقتنيات فيه إخضاع للشهوات التي هي ينبوع الرذائل والآلام والتي تسترق الملوك ، فمن سيطر عليها استطاع امتلاك ناصية عدوه المقيم معه في حصنه ، وليعلم أن النفس الشهوانية نفس سقيمة وسقامها أعظم من سقام البدن 0 على هذا النحو يجتهد الكندي في علاج الحزن ، وهو في ثنايا كلامه ينحو نحو سقراط ، وأفلاطون ، ويرسم سيرة فلسفية تحرر الروح من المادة وتسري في كلامه روح إسلامية إيمانية بالمصير الإنساني ، وهو يختم رسالته بأن يطلب من قارئه أن يجعل ما قدمه له من وصايا ( مثالا ثابتا ) في نفسه ، لينجو بها من الحزن ويبلغ بهـــــا أفضل وطــــن مــــن دار القــرار ومحل ا لأ برار 0
ومن الواضح أن فيلسوف العرب يريد من قارئه أن يكون فيلسوفاً مثله ، وهذا ليس بالأمر السهل ، لأنه يحتاج إلى الحكمة الكبيرة وقوة الشخصية واعتزازها بنفسها 0
النظامي العروضي السمرقندي :
عمد بعض الإسلام إلى التأثير في البدن من طريق استثارة انفعالات النفسي وتذكر بعض الحكايات في ذلك 0 نجدها في كتاب " جهاز مقالة " (أربع مقالات) للنظامي العروضي السمرقندي (القاهرة 1949 ص 79- .8) 0 فمن ذ لك أن إبرازي أراد علاج الأمير منصور بن نوح السامي من مرض في مفاصل ساقيه أزمن حتى أقعده عن المشي، فجرب كل الأدوية بلا فائدة فعمد، كما يقول، إلى "العلاج النفسي "، وذلك أنه ـ بحسب القصة التي نوجزها هنا ـ أجلس الأمير في وسط حمام نهر جيحون وصب عليه ماء فاترا، سقاه شرابا وانتظر إلى أن يؤثر الشراب في المفاصل ، وكان قد أغلق باب الحمام واستفرد بالأمير، وأخذ يشتمه ويهدده بأنه سيزهق روحه ، فغضب الأمير غاية الغضب ونهض على ركبتيه ، وهو في مكانه فأخرج إبرازي سكينا وأوسعه إهانة ، فنهض الأمير غضباً أو فرقاً " 0 وكان غرض إبرازي ، كما يقول، هو إثارة الغضب عند الأمير لكي تقوى الحرارة الغريزية وتحلل الأخلاط التي في المفاصل 0
وهناك حكاية أخرى أراد فيها الطبيب أن يلجأ إلى "التدبير النفساني "، وذلك بالنسبة لجارية أصابها ريح منعها، بعد أن انحنت لتقديم الطعام، من أن تنصب، فأراد أن يثير انفعال النفس بأن أمر بكشف موضع الحياء منها، فلما حاول زميلاتها ذلك " نهضت فيها حرارة قوية أتت على الريح الحادثة تحليلا فارتجعت مستقيمة سليمة " 0
نعم لقد كانوا بارعين وهناك من القصص الكثيرة ما يثبت أن هناك تفوقا لهم في العلاج النفسي 0