الحلقة التاسعة والعشرون :
ابن مسكويه ومداواة النفوس:
كان أبو علي أحمد بن مسكويه (ت حوالي 420 هـ) ممن تخصص في دراسة الأخلاق بين فلاسفة الإسلام، وقد دعاه إلى ذلك، باعث شخصي ورغبة في نصح غيره، وكتابه ( تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق ) يشتمل على عناصر من الفكر الأخلاقي اليوناني وعلى عناصر إسلامية وهذا إلى جانب تجربته الذاتية ومشاهداته الخاصة لأحوال مختلف الناس في عصره0 تناول فيلسوفا كثيراً من الموضوعات ذات الصلة بما نحن فيه، فتكلم في رتب الفضائل ، أولها نوع من السعادة ينشأ عن ملابسة الشهوات، بقدر معتدل ، لكن يكون الإنسان إلى ما ينبغي من الترفع أقرب منه إلى ما لا ينبغي من القصد إلى الإفراط في الشهوات ، ثم يترفع بإرادته إلى (الأمر الأفضل من صلاح النفس والبدن )، فلا يأخذ من الشهوات إلا ما تدعو إليه الضرورة 0 ثم تزداد رتبة الإنسان بحسب الممارسة والهمة والعلم والمعرفة والمعاناة والتشوق إلى الكمال النفسي حتى يصل إلى ما يسميه فيلسوفا ( الفضيلة الإلهية المحضة ) التي يعلو بها الإنسان فوق الميول والرغبات والحاجات وأحوال الخوف والفزع ، فيكون عقلاً خالصاً 0 ولكن ابن مسكويه يتكلم أيضاً عن الإنسان الواقعي كما يعيش في هذه الدنيا فيقول : " كما أن للحس لذة عرضية على حدة، فكذلك للعقل لذة ذاتية على حدة 0 وللإنسان جانب جسماني يناسب به عالم الحيوان ، وجانب روحاني به يناسب الملائكة 0 فاللذة الحسية مؤقتة مملولة ، لكن الطبع يميل إليها قي أول الأمر لشدة قوتها، فإذا تمكنت منه سيطرت عليه واستحسن فيها كل قبيح. أما اللذة العقلية فهي دائمة ، لكن الطبع لا يميل إليها في أول الأمر ، فإذا راض الإنسان نفسه عليها انكشف له حسانها وبهاؤها وأحبها ، والإنسان بوجه عام إما أن يكون في مرتبة اللذة والسعادة الجسمانية ، لكنه يتشوف إلى اللذة الروحانية ولا يزال يطالعها ، وإما أن يكون في مرتبة اللذة والسعادة الروحانية ، لكنه ينظر إلى اللذات البدنية ويرى فيها مظهراً من مظاهر الحكمة الإلهية 0 والإنسان السعيد حقا تكون لذاته ذاتية لا عرضية ، وعقلية لا حسية وفعلية لا انفعالية ، وإلهية لا بهيمية 0 وأعظم أسباب السعادة على كل حال هي عند فيلسوفا الحكمة0 ومن الطريف عند ابن مسكويه تحليله ووصفه لنفسيات بعض الناس ، فهو مثلا يصور لنا نفسية الملوك وأنهم أفقر الناس لكثرة احتياجهم وأكثرهم قلقاً بسبب كثرة ما يملكونه أو يطمحون إليه ، ويصور لنا نفسية الإنسان ( الشرير ) وما يعانيه من القلق وقلة الاستقراء وخوفه من نفسه بحيث يهرع إلى أمثاله ، وأيضاً نفسية الإنسان الخير الفاضل في سعادته بذاته وبما يفعل وفي إيمانه بقيمة الخير وانسجامه مع نفسه ومع غير 0 وأهم ما في كتاب ابن مسكويه المقالة السادسة والسابعة ، فهو في الأولى يتكلم في ( مداواة النفوس ) فيذكر الأمراض التي تلحق النفس وكيفية علاجها بعد معرفة أسبابها 0
وهو يقول :
أولا ــ إن النفس وإن كانت ( قوة إلهية غير جسمانية ) إلا أنها مرتبطة بمزاج خاص ، هو البدن ، رباطا طبيعيا من صنع الله 0 وكل من النفس والبدن يتغير بتغير الآخر 0 فيصح بصحته ويمرض بمرضها ، ويذكر من الشواهد على ذلك فساد أحوال الفكر إذا طرأ فساد ما على (الدماغ ) وتغير أحوال البدن وإصابته بالمرض بسبب الغضب والحزن والخوف 0 وطب النفوس كطب الأبدان قسمان هما :
1ـ حفظ الصحة 0 2ـ واستردادها إذا فقدت 0وأساسها الاعتدال 0
ويبتدئ طبيبنا بالكلام في ( اللذة التي تطبقها الشريعة ) وهي التي يقررها العقل 0 وعلى من يريد المحافظة على صحة نفسه أن يلتزم وظيفته من الجزء النظري والجزء العملي في طبيعته ، فلا يقصر في حياة الفكر ، لأن النفس إذا تعطلت عن الفكر تبلدت وتبلهت ، ولا يقصر أيضا في الناحية العملية ، بمعنى ملابسة اللذات، لأنها من أسباب السعادة الخارجية 0 لكن فيلسوفا يوصي طالب الصحة البدنية والنفسية بأن يكون متحليا بصفة القناعة وطلب الكفاية ، كما رأينا ذلك عند ( إبرازي )0وأن لا يشتغل بفضول العيش ، فإن ذلك بلا نهاية ، ومن طلبه وقع في عناء لا نهاية له ، ولا ينبغي للإنسان العاقل أن يقصد لذة البدن بل صحته ، وسيلتذ لا محالة، فإن من طلب بالعلاج اللذة لا الصحة لم تحصل له الصحة ولم تبق له اللذة 0
ويتناول فيلسوفا في المقالة السابعة ( رد الصحة على النفس ) فيذكر أمراضها ، وهي مضادات الفضائل ومن نوع الأمراض التي ذكرها من قبل ( إبرازي والبلخي )0 ويبني علاجه على معرفة الأسباب كما فعل من قبله 0
لكن يحسن ذكر مثال أو مثالين وهما : يعالج ابن مسكويه العجب والافتخار، بعد تعريف ذلك بأنه ظن كاذب بالنفس في استحقاق مرتبة لا تستحقها، وذلك بأن يعرف المرء عيوب نفسه، وأن الفضل مقسوم بين البشر، وليس يكمل أحدهم إلا بفضائل غيره، ومن كانت فضيلته عند غيره لا يصح أن يعجب بنفسه 0
أما الافتخار بالخيرات الخارجية ، أي الماديات والمظاهر، فهو لا يصح، لأنها عرضة للزوال والتغير والآفات 0 وهنا يذكر ابن مسكويه ما أشارت إليه آيات من القرآن الكريم فيها قصة الرجلين اللذين كان لأحدهما جنتان، كل منهما آتت أكلها، ففاخر صاحبه بما يملك واغتر بنفسه وبما ملك، فجاءت كارثة أهلكت ما عنده، والآية التي تشبه الحياة الدنيا بنبات يظهر ويزدهر ثم يذوي ويصبح هشيما تذروه الرياح 0 أما من يفتخر بأبويه مثلا فهو يفتخر بما ليس له، ويذكر ابن مسكويه هنا قول الرسول عليه الصلاة والسلام : ( لا تأتوني بآبائكم وائتوني بأعمالكم )0 على أن البعض يمتدح الغضب وما فيه من حمية أو شدة الشكيمة 0 هنا يفرق فيلسوفا بين ذلك وبين الشجاعة، فيقول : " إن الشجاع العزيز النفس هو الذي يقهر بحلمه غضبه ويتمكن من التمييز والنظر فيما يدهم، ولا يستفزه ما يرد عليه من المحركات لغضبه، حتى يتروى وينظر كيف ينتقم ممن وعلى أي قدر "0 ويتناول ابن مسكويه علاج الخوف الناشئ عن توقع مكروه، فيقول إنه ربما لا يقع أو ربما كان المتوقع أمرا يسيرا، ثم إن الإنسان ربما كان هو نفسه السبب فيما يتوقعه من معاناة بسوء اختياره، فعليه أن يتجنب ما يخاف عواقبه وألا يقدم على ما لا يأمن نتائجه المضرة 0 ومهما كان ، الأمر فإن الإنسان لا يصح أن يفرط لا الخوف وسوء الظن بالمستقبل ، لأنه إنما يحسن العيش وتطيب الحياة بالظن الجميل والأمل القوي وترك الفكر في كل ما يمكن أن لا يقع من المكاره فكم كـان هناك من أمور ارتاع لها الفؤاد ولم تقع ! 0ويتكلم ابن مسكويه في دفع الخوف من الموت، وهو يقتبس من آراء الكندي ويزيد عليها، ولابد لنا من الاكتفاء بهذه الإشارة التي نختم بها الكلام عن فيلسوفا 0
ويحسن أن نشير هنا إلى أن ابن سينا أيضا ألف رسالة في ( دفع الغم من الموت ) ، يمكن ضمها إلى ما كتب قبلها للمقارنة بين آراء الشيخ الرئيس ، وهي فلسفية إلى حد كبير، وبين آراء من سبقه الممزوجة بالدين 0
ابن سينا والعوارض النفسية والنبض :
تناول ابن سينا في كتاب (القانون ) أحكام نبض ما يعرض للنفس ، وذكر النبض بحسب ذلك: نبض الغضب عظيم شاهق سريع متواتر، ونبض اللذية أقل سرعة وتواترا، أما السرور فنبضه قد يعظم مع لين ويكون إلى إبطاء وتفاوت ، ونبض الغم صغير ضعيف متفاوت باليء، ونبض الفزع سريع مرتعد مختلف غير منتظم 0 لكن الشيخ الرئيس لا يذكر في هذا الموضوع من (القانون ) كيف درس هذه الأنواع 0
الطاقة النفسية :
على أساس العلاقة بين النفس وبدنها يتحدث ابن سينا في كتاب ( الإشارات ) النمط العاشر الخاص بما يسميه (أسرار الآيات ) ــ يقصد الأمور غير العادية ــ عن أفعال تصدر عن الذين يسميهم ( العارفين ) ، وهم من الصوفية الروحانيين ، مثل: إمساكهم عن الطعام مدة غير معتادة، والتمكن من الأعمال التي تحتاج إلى قوة غيرعادية ، والاختبار عن الغيب 0
فالإمساك عن الطعام والاستغناء عنه ناشئ عن أن النفس تتجه أو تنجذب نحو مهماتها، وتكون نفس العارف قد راضت قوى البدن، فتنجذب هذه وراءها وتتوقف أفعالها الطبيعية بسبب السكون البدني لانشغال النفس بما هي فيه، كما يحدث مثل ذلك عند الخوف، وهو عارض نفساني ، أو عند المرض ، لكن مع فرق بالنسبة للعارف ، لأنه لا يكون مريضا بدنيا ولا خائفا 0 أما قدرة العارف على فعل يحتاج لقوة كبيرة فهو ناشئ عن انطلاق طاقته بسبب ابتهاج نفسيه بالله واعتزازه به أو بنوع من ( الحمية الإلهية ) التي تجعله قادرا على ما لا يقدر عليه غيره ، ولهذا أيضا شبيه في أحوال الغضب أو المنافسة ، حيث يفعل الإنسان ما لا يستطيع فعله في الأحوال العادية 0 وأما إخبار العارف بغيب فهو ليس عجيبا، لأن الإنسان في الأحلام قد يرى شيئا يقع بعد ذلك ، وإذا كان هذا أمرا يحدث في النوم فلا مانع من أن يقع في حال اليقظة ، ولكن الفرق واضح بين العارف الذي راض نفسه على تجاوز حدود البدن وبين غيره 0 والمهم أن الشيخ الرئيس إذ يتكلم في هذه الأمور، يقول إن لها نظيراً في ( مذاهب الطبيعة )، وهو يذكر أمورا أخرى كثيرة تبين ما للنفس من قوى نكتفي بالإشارة إليها 0 ويمكن الرجوع إليها في كتاب ( الإشارات )0


