قالت وهي تمعن النظر لي:
- هل بالإمكان أن افتح حقيبتك؟
- بالتأكيد .. هذا حقك.
- هل أنت من قام بإعدادها ؟
- مجملا نعم ، فقد ساعدتني والدتي في ذلك.
شرعت في فتح الحقيبة وإخراج ما بداخلها، أردت مساعدتها ولكنها قالت رجاءً لا تلمس أي شيء، أخرجت كل ملابسي وبعض أشيائي، وعندما وصلت إلى مجموعة من الكتب كنت وضعتها لكي أقرأها في وقت الفراغ.
شدني ماقامت به ، فقد استخدمت كلتا يديها المغطاتين بالقفازات حيث وضعت يدها اليمنى أسفل الكتب واليد الأخرى أعلاها ثم قامت بحملها بكل حرص وعناية كأم تحمل طفلها الأول لأول مرة، حتى وضعتها على الطاولة، واعترى وجهها تعبير يجمع بين الرهبة والحرص ...
لم أقاوم فضولي كثيرًا فخرج مني تساؤل :
- لماذا حملتي هذه الكتب بهذا الطريقة!
نظرت لي باستغراب وكأني أسأل عن شيء بديهي وهي تقول :
- أليس هذا القرآن الكريم ؟؟
عندها فقط .. نسيت كل تلك النظرات والتهكمات، وزال كل تأثير أحدثته تلك الابتسامات الصفراء والزرقاء، وحل مكانها نوع عجيب من الثقة المطلقة بشأن من هو أنا، وماذا أمثل بالنسبة لهم، وعظم ما أؤمن به، والفرق الشاسع الهائل بيننا، وكم يجهلون من نحن وما هي مبادئنا وأخلاقنا، و كم نحن مقصرون في إبلاغ رسالتنا، وعقدت العزم على أن لا أرضى هوانًا وأن افتخر وأظهر عزتنا مادمت بين ظهرانيهم.
رفعت بصري وأنا أرى دهشتها على التأثير الجديد الذي انطبع علي وابتسمت عندما رأيت ارتباكها، وقلت:
- لأ، هذا ليس هو القرآن، فمصحفي دائمًا معي .. أتريدين أن ترينه؟
بلهفة قالت:
- نعم، لو سمحت.
التفت إلى معطفي المعلق على الكرسي ، وأخرجت مصحفي بكل عناية، وبكل هدوء أخذت اقلب صفحاته أمامها وأنا أتكلم بثقة عنه، وقلت لها :
- ألم تري المصحف من قبل؟ أليس لديك واحد؟
قالت والدهشة تملئ عينيها :
- هل أستطيع أن أحصل عليه؟ فغالبًا لا يسمح لنا المسلمون بلمسه، و هذه هي أول مرة أرى ما هو مكتوب فيه، أوه .. كم هو جميل !!
ابتسمت وقلت:
- بالطبع بإمكانك أن تحصلي على نسخة مترجمة له أو ما نطلق نحن عليه تفسير القرآن، وللحصول عليها بإمكانك زيارة أقرب مركز إسلامي وسوف يكون الإخوة هناك سعداء بإهدائك نسخة مجانية.
قالت وعيناها تبرقان بفرح طفولي :
- مجانًا !! .. بالتأكيد سوف أزورهم وأحصل على واحد.
تمنيت من أعماق قلبي أن تذهب لكي تعرف من نحن أكثر، ودعوت الله بأن يهديها ، واستمرت هي بالتفتيش وإن كان حماسها بأن تجد شيئًا ممنوعًا قد فتر قليلاً، إلى أن وصلت إلى كيس أسود اللون، ثقيل الوزن، حملته بحرص وقالت وعيناها تشع خوفًا :
- ما هذا الكيس ؟
تبسمت وأنا أذكر إلحاح وحلف والدتي بأن أضعه معي في حقيبتي، وقلت لها بابتسامة هادئة:
- إنه تمر و قهوة .
قالت بشك واضح:
- ولماذا أتيت بهما معك؟ فكل الأطعمة متوفرة لدينا، بالإضافة إلى أن دولتنا تحظر اصطحاب الأطعمة وأنت على علم بذلك. أليس كذلك؟
ابتسمت وأنا أقول:
- بالطبع أعرف ذلك .. ولكن هذا التمر هو من منتجات مزرعتنا، لذلك أصرت أمي على أن اصطحبه معي، بالإضافة إلى أنها قالت لي (سوف تذهب إلى هؤلاء الأجانب ولن تجد ما يصلح للأكل هناك، وستموت جوعًا يابني).
عندها فقط ... انفجرت ضاحكة، وارتجت الصالة بضحكتها، والتفت جميع من في القاعة إلينا، بل إن الضابط المناوب خرج من غرفته وهو ينظر إلينا نظرة استغراب وتأنيب للضابطة، فمهما يكن فما زلت مشتبهًا به.
قالت لي وهي تغالب ضحكاتها:
- يبدو أنك أوقعتني في مشكلة مع رئيسي، والسبب في ذلك هو أمك وتدليلها لك.
قلت وأنا أغالب ضحكاتي أنا الآخر:
- يحق لها ذلك، فأنا أصغر أخوتي.
تبسمت وهي تعيد ترتيب الحقيبة بعد أن ألقت نظرة على جميع محتويتها، وقالت:
- أحرص على والدتك.
ابتسمت، وأقفلتُ حقيبتي ووضعتها بجانبي، وسألتني عن أوراقي فأعطيتها جميع الأوراق اللازمة، فقالت :
- لحظات، وسأعود إليك.
عادت لي بعد مدة وقالت وهي تعيد لي أوراقي:
- لقد انتهينا، بإمكانك أن تذهب الآن.
شكرتها وأرشدتني إلى بوابة الخروج،
وعندما خطوت أولى خطواتي خارج أرض المطار، لفحني هواء بارد منعش لذيذ، استنشقت الهواء العليل متبسمًا، وأخذت أتأمل قرص الشمس يختبئ خلف تلالٍ خضراء، والسحب ترسم أجمل اللوحات في السماء الزرقاء، أدركت حينها بأني وصلت،
فبعد أكثر من ساعتين من الانتظار والتفتيش،
وبعد أكثر من 20 ساعة قضيتها معلقًا بين الأرض والسماء،
وبعد تخطيط دام لأكثر من سنتين،
ها أنا هنا ...
أنجزت خطوتي الأولى ..
والبقية تأتي ..