عندما يبكي الحَجاج
بقلم: أ.د. نعمان السامرائي
من المعروف عن (الحَجاج) قسوته وجرأته، وعندما مات وجد في سجونه مئة ألف معتقل، ولكن فتاة دون العاشرة تنشده شعراً فتهزه هزاً عنيفاً تجعله يبكي ويتحول إلى إنسان آخر.
كتب ابن كثير في موسوعته (البداية والنهاية) خبراً ينقله عن الصحابي الجليل عبدالله بن عباس رضي الله عنه يقول: كتب عبدالملك بن مروان إلى واليه على العراق (الحَجاج) يأمره أن يبعث إليه (برأس) مسلم بن عبدالبكري، لما بلغه عنه من أخبار، أحضره الحجاج فقال: أيها الأمير أنت الشاهد، وأمير المؤمنين الغائب، وقد قال تعالى: { َيا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ } [الحجرات: 6]، وما بلغه عني باطل، وإني أعول أربع عشرة امرأة، مالهن كاسب غيري، وهن بالباب، فأمر الحجاج بإحضارهن، فجعلت هذه تقول أنا خالته، وهذه أنا عمته، وهذه أنا أخته، وهذه أنا زوجته، وهذه أنا ابنته، ثم تقدمت إليه (جارية) فوق الثماني ودون العشرة سنة، فقال لها الحجاج: من أنت؟ فقالت: أنا ابنته، ثم قالت: أصلح الله الأمير، وجثت على ركبتيها وأنشدت قائلة:
أحجاج لم تشهد مقام بناته
وعماته يندبنه الليل أجمعا
أحجاج كم تقتل به إن قتلته
ثماناً وعشرا واثنتين وأربعا
أحجاج من هذا يقوم مقامه
علينا فهلا إن تزدنا تضعفا
أحجاج إما أن تجود بنعمة
علينا وإما أن تقتلنا معا
فبكى الحجاج وقال: والله لا أعنت عليكن، ولا أزيدكن تضعفاً.. ثم كتب إلى عبدالملك بما قاله الرجل، وما قالته ابنته، فكتب الحجاج كان أول من حكم وفق نظام الطوارئ، وقد نقل أبوبكر بن عاصم أنه سمع الحجاج وهو على المنبر يقول: اتقوا الله ما استطعتم، ثم يقول: والله لو أمرت الناس أن يخرجوا من باب المسجد، فخرجوا من باب آخر لحلّت لي دماؤهم وأموالهم، والله لو (ربيعة) (بمضر) لكان لي ذلك من الله حلالاً(1).
مع أن الدماء والأموال لا تستباح بهذه السهولة، لكنه منطق الطغاة، ومن هذا المنطق ما نقله ابن كثير أيضاً: أن الحجاج كان مع أبيه في المسجد، فاجتاز بهما (سليم بن عنز) القاضي، فنهض إليه والد الحجاج وسلم عليه وقال له: إني ذاهب إلى أمير المؤمنين، فهل من حاجة لك عنده؟؟ قال سليم: نعم تسأله أن يعزلني عن القضاء، فقال سليم: سبحان الله والله لا أعلم قاضياً اليوم خيراً منك، ثم رجع إلى ابنه الحجاج، فقال الحجاج: يا أبت أتقوم إلى رجل من (تجيب) وأنت ثقفي؟ فقال الأب: يا بني والله إني لأحسب أن الناس يرحمون بهذا وأمثاله، فرد الحجاج: والله ما على أمير المؤمنين أضر من هذا وأمثاله، فقال الأب: ولِمَ يا بني؟ قال: لأن هذا وأمثاله يجتمع الناس إليهم فيحدثونهم عن سيرة أبي بكر وعمر، فيحقر الناس سيرة أمير المؤمنين، ولا يرونها شيئاً عند سيرتهما، فيخلعونه ويخرجون عليه ويكرهونه، ولا يرون طاعته، والله لو خلص من الأمر شيء لأضربن (عنق) هذا وأمثاله، قال أبو الحجاج: يا بني والله إني لأظن أن الله عزَّ وجلّ خلقك شقياً..(2)هـ
إنه منطق الطغاة الذين يستحلون الدماء ولا يبالون!!!