الأزمة المالية العالمية .. دلالات وعِبر وعِظات
بقلم: د. عبدالعزيز بن عبدالرحمن الدهش التويجري * مستشار بوزارة التربية والتعليم
في ضوء ما نسمعه من أخبار الأزمة المالية العالمية اليوم؛ لا يسعنا إلا أن نتذكر عظمة الله تعالى وسلطانه وجبروته وقوته، فهو جلَّ وعلا على كل شيء قدير، يملي للظالم، فإذا أخذه لم يفلته.
ولا أدل على ذلك من تمادي العالم في الربا الذي عدّه الله تعالى حرباً عليه: {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ }، ووصف من يتعامل به كمن مسه الشيطان: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ }. فكانت عقوبة الدنيا العاجلة لهذه الأمم التي بنت سلطانها وقوتها على الربا أن ينهار اقتصادهم أمامهم وهم لا يملكون لدفعه شيئاً، فتتهاوى بنوك عريقة وشركات عظيمة، بل ودول تعلن إفلاسها، بينما لا يملك أصحاب القرار وقف النزيف الذي كان سببه الأول تراكم الربا، حتى أصبحت كل الشركات والبنوك مدينة لبعضها بأرقام من النقود لا يوجد ما يوازيها من السلع، فإذا أرادوا علاج الأمر وقعوا في أشد منه، إما بطباعة عملات ورقية دون رصيد، مما يضعف قيمة العملات، أو بتحميل دافعي الضرائب لديهم مزيداً من الأعباء المالية، أو بتحمل مزيد من الربا بالاقتراض الربوي لتسديد العجز، أو بالسطو على الدول التابعة والضعيفة لابتزازها واستنزاف أموالها.
إنها سنّة الله في خلقه، فقد عودنا تعالى أنه لا يرتفع شيء في الأرض بغير حق إلا وضعه الله، ولا يزداد الطغيان إلا ويكون كالنبتة التي حان حصادها.
يقول الله تعالى عن قوم عاد: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ } [فصلت: 15]، واستمع إلى قوله تعالى عن فرعون وقومه لما قال: {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى(24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى } .
فإذا كان الله تعالى أهلك الأمم السابقة لعصيانها وتكبرها على أمره، فهل هذه الأمم المتجبرة اليوم في منأى عن بطش الله وجبروته وعقابه، أم أن اغترار الناس بقوة الغرب جعلهم يعتقدون أنهم لا يغلبون، وأن اقتصادهم لا ينهار.
إن مما لا نشك فيه، وهو من أسس عقيدتنا، أن الله تعالى أقدر عليهم من قدرتهم على سائر الخلق، وإنما أراهم الله تعالى اليوم بعض قوته، وهو قادر على إهلاكهم في غمضة عين: {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } .
لقد ثبت الآن بنظر العين - لمن لا يؤمن إلا بالمحسوس - ثبت صدق وعد الله عزَّ وجلّ لما قال: {يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ }، والمحق هنا محق معنوي بذهاب بركة المال، فلا يرى صاحبه له أثراً يذكر، فنحن الآن نرى مئات المليارات تضخ في المصارف لإنقاذها كما يقولون من الإفلاس فتذهب كصرخة في وادٍ أو نفخة في رماد، وهناك محق حسي بأن تسلط عليهم أسباب الزلازل والأعاصير والفيضانات والحروب التي تأكل أموالاً يفترض أن توجه للبناء والتنمية.
إن هذه الأزمة - وإن تجاوزها الغرب كله - لهي نذير بفشل النظام الرأسمالي القائم على الربا، كما فشل قبله النظام الاشتراكي، ولعلها من حكمة الله عزَّ وجلّ أن تظهر للعالم نظرية الاقتصاد الإسلامي، شريطة أن يصدق المسلمون في طرحه للعالم والتعامل به بعيداً عن شبهة الربا والتحايل عليه، فالاقتصاد الإسلامي في أصله يقوم على الإنتاج، ودعم تبادل السلع، لا على مجرد تبادل الأموال كأرقام دون سلع متداولة، ويقوم أيضاً على اعتقاد أن المال وديعة عند المسلم عليه أن يحسن جمعها من وجوهها المشروعة، كما يحسن استهلاكها في وجوهها المشروعة، وهو مسؤول عن سياسته في ماله، فيسأل في قبره عن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، ويسأل أيضاً لو قتر على نفسه وعياله أكثر مما يجب، كما يسأل لو أسرف وبذر المال أكثر مما يجب.
إن ما أصاب الناس اليوم هو أثر من آثار هذه المعصية، ولذلك فهي رسالة لكل مسلم أن يتقي الله في ماله، فينقيه مما حرم الله، وأن يكتفي بما أحل الله، وأن ينفق من ماله فيما أمر الله، سواء بالزكاة الواجبة التي تطهر المال وتنميه، أو بالصدقة المستحبة التي يبتغي بها المسلم رضوان الله.
إن لهذه المصائب التي نراها أسباباً حقيقية وأخرى ظاهرية، فأما الأسباب الحقيقية فهي المعاصي والبعد عن منهج الله، ولا يؤمن بهذا إلا من وقر الإيمان في قلبه، وصدق بقول الله عزَّ وجلّ: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ }، وأما الأسباب الظاهرية فهي ما يتداوله المحللون من أسباب مادية يقدرها تعالى ليقع قدره على من عصاه، فكم مرت من أحداث لم تورث مثل هذه المصائب، لكن إذا أراد الله تعالى أخذ قوم عصاة أمهلهم حتى يأمنوا ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر.
لقد أتاهم الله من حيث لم يحتسبوا، ونحن وإن كنا متضررين نسبياً بهذه الأزمة العالمية إلا أننا نفرح بانهيار جبروت الكفر، وتحطم اقتصاده، لأنه يعني سقوط النظرية الرأسمالية، كما يعني سقوط السياسة الليبرالية العلمانية التي تعلن إقصاء الدين عن شؤون الحياة، ولسنا أول من يفرح بهذه المصيبة عليهم، فقد قال بعض عقلائهم: "الحل أن نترك هؤلاء المرابين الجشعين يلقون مصيرهم".
ونسأل الله عزَّ وجلّ أن يجعل في جوف المحنة منحة للمسلمين بعودتهم إلى الله وارتباطهم به، وفك ارتباطهم بالغرب والشرق.
لقد بان عوار الغرب المفلس، واتضح أنه لا ثقة إلا بنصر الله، ولا فلاح إلا لمن اعتز بدينه، فالميزان التجاري لأمريكا يسير من ضعف إلى ضعف، فهي مدينة للاتحاد الأوروبي ولليابان، بل حتى للصين، وانخفضت قوة عملتها الشرائية أربعين في المئة، وضعف دورها كدولة منتجة إلى دولة مستهلكة، شركاتها مدينة، وبنوكها مدينة، بل شعبها مدين، فهم يعتمدون على الرهن العقاري وعلى القروض البنكية في كل شيء، هكذا تكون بداية النهاية لكل متكبر وظالم.