الحلقة الثامنة والعشرون :
علاج الأبدان والأنفس لأبي زيد البلخي:
كان أبو زيد البلخى معاصرا لبرازي ، لكن يبدو أنه لم يعرف كتابه " الطب الروحاني "، وهو في كتاب" مصالح الأبدان والأنفس " الذي مضى ذكره يقدم من جهة علاجا للأمراض النفسية، بحسب المفهوم الذي سبق بيانه، ويقدم من جهة أخرى شيئا مما يسمى الطب النفسي العضوي Psychosomaties
وهو يشير في أول كتابه إلى الكيان البدني ـ النفسي للإنسان وما يجب عليه من الاجتهاد في استدامة سلامة نفسه وبدنه ودفع عوارض الأذى والآفات عنهما ، " وأن يقتني كل علم يوصل به إلى صلاح أمرهما "، يقصد أن يحسن بالإنسان أن يكون له حظ من الثقافة الطبية 0
وهو في المقالة الأولى من الكتاب يتكلم في تدبير مصالح الأبدان ويقدم للقارئ نوعا من الطب الميسر0 فيتكلم بعد المقدمات في أمور كثيرة مثل : " تدبير المساكن والمياه والأهوية " وهذا ما نسميه اليوم: " البيئة "، وأمور الطعام والشراب، ويحارب الشراب، بمعنى الخمر، محاربة شديدة ويبين جنايته الكبيرة على الأنفس والأبدان، ويتحدث عما يسر النفس من الروائح الطيبة وعن أمور النوم والرياضة البدنية والعناية بالبدن " بالغمز والتدليك "
وهو يهتم بشيء من الثقافة في أمور " الجنس "، ويبين آثار الاعتدال في هذا الباب من " خفة البدن وانشراح النفس وطيب البشرة وذكاء قوى النفوس 0 ولا ينسى الاهتمام بأمر المتعة الجمالية مع الاعتدال ، ويشير إلى ما جرت به العادة من الحكماء والأطباء القدماء من مداواتهم كثيرين من المرضى بإسماعهم أصواتا لذيذة " كانت تقوي متنهم وتطيب أنفسهم وتخفف عليهم آلام العلل والأسقام 0وهذا السماع ، في نظر البلخى، " من أشرف اللذات الإنسانية قدرا وأعظمها خطرا وأولاها بأن لا يدع المستمتع باللذات الأخذ بالحظ منه على سبيل ما يحسن ويجمل 00 " 0 وهو أجل الملاذ المحسوسة وثمرة لعلم من أجل علوم الحكمة، " والسمع والبصر هما الحاستان الشريفتان، وليس شيء أعز على الإنسان منهما "، وبهما ينال الإنسان أفضل اللذات التي لا يلحقه منها السآمة أو الملل الذي يصيبه من اللذات الجسمانية الأخرى0
ولابد لنا فيما يعنينا هنا من التركيز على اهتمام البلخى بصحة الأنفس ، وهذا ما نجده في المقالة الثانية من كتابه ، في ثمانية أبواب، تناول فيها الصحة النفسية من شتى الجوانب ، فهو يبدأ بذكر ( الأعراض النفسانية ) مثل الغضب والغم والخوف والجزع، ويبين مبلغ حاجة الإنسان إلى علاجها ، لأنها ألزم للإنسان وأكثر الاعتراء له من الأعراض البدنية ، وذلك أن الأعراض البدنية قد يسلم منها الإنسان حتى لا تكاد تعرضت له في أكثر من أيام عمره ، فأما الأعراض النفسانية فإن الإنسان مدفوع في أكثر أوقاته إلى ما يتأذى به منها ، إذ ليس يخلو في أكثر أحواله من استشعار غم أو غضب أو حزن ، قل ذلك أو كثر ، بحسب ظروفه وقوة نفسه ومزاجه وحساسيته ، ومن أجل ذلك لا يستغنى أحد من الناس عن تقديم العناية بمصالح الأنفس والاجتهاد فيما ينفى عنه ما يعتريه منها فيؤديه إلى القلق وتنغص العيش ، وتكون تلك الأعراض نظيرة الأمراض الجسمانية التي تعرض له فتؤلمه وتسقمه وتؤديه إلى الحالة المكروهة 0
ويعتبر أن هذا الطبيب النفساني بما لأطباء الأبدان من جهود في معالجة الأبدان، لكنه يلاحظ أنهم لم يهتموا بمصالح النفس ، لأن القول في ذلك ليس هو من جنس صناعتهم، ولأن معالجات الأمراض النفسانية ليست من جنس ما يتعاطونه من الفصد وسقي الأدوية وما أشبهها 00 غير أنهم وإن لم يفعلوا ذلك ولم تجر العادة به منهم فإن إضافة تدبير مصالح الأنفس إلى تدبير مصالح الأبدان أمر صواب ، بل هو مما تمس الحاجة إليه ويعظم الانتفاع به لاشتباك أسباب الأبدان بأسباب الأنفس ، فإن الإنسان إنما قوامه بنفسه وبدنه ، وليس يتوهم له بقاء إلا باجتماعهما، لتظهر منه الأفعال الإنسانية، فهما مشتركان في الأحداث النائبة والآلام العارضة ، وببين البلخي كيف أن السقم والألم البدني يعطل في النفس قوى الفهم والمعرفة، وكيف أن الآلام النفسية تؤدي إلى الأمراض البدنية، ولذلك فإن كل إنسان، وخصوصا من تغلب عليه الأعراض النفسية، محتاج إلى أن يعلم كيفية تدبير النفس. فإذا وجد ذلك مضافا إلى المعرفة بمصالح البدن في كتاب واحد فإن قارئه يستطيع أن يداوي نفسه مما يعتريه من تلك الآلام ولا يحتاج إلى طلب ذلك، متفرقاً في كتب الحكماء وأهل الموعظة والتبصير، وتحقيق هذا الهدف هو الذي دعا البلخي إلى تأليف كتابه، شاعر بأنه يقدم شيئا لم يسبق إليه 0
يتحدث طبيبنا بعد ذلك عن طريقة حفظ الصحة للنفس، وأساس صحة النفس هو: أن تكون قواها ساكنة ، فلا يهيج بالإنسان شيء من الأعراض النفسانية كالغضب أو الجزع أو الفزع، وذلك كما أن صحة البدن في أن توجد أخلاطه ساكنة ولا يهيج منها شيء 0 وأيضا إذا كانت سلامته تتحقق بأن يصان من الآفات الخارجة كالحر والبرد والآفات الداخلة، وهي هياج الأخلاط، فكذلك صحة النفس تكون بصيانتها عن المؤثرات الخارجة التي يسمعها الإنسان أو يبصرها فتقلقه وتضجره وتحرك فيه أعراض الخوف أو الغضب وعن المؤثرات الداخلة ، مثل التفكير فيما يؤدي إلى تلك الأعراض التي تشغل قلبه وتشتت فكره 0 ويذكر البلخي للخلاص من ذلك طريقين:
أولا:
على الإنسان أن يشعر قلبه وقت سلامة نفسه وسكون قواها ما أسست عليه وجبلت عليه أحوال الدنيا في أن أحدا لا يصل فيها إلى تحصيل إرادته ونيل شهواته على سبيل ما يتمناه ويهواه من غير أن يشوب كلا من ذلك شائبة تنغص وتكدر ، فلا يطلب من دنياه ما ليس في أصل بنيتها ، ويتغافل عن كثير من الأمور التي ترد عليه بخلاف مراده ، ويعود نفسه على أن لا يضجر لكل صغير من الأمور وعلى احتمال ذلك ليستطيع احتمال ما هو أعظم ويكون كمن يمرن نفسه على احتمال الأذى اليسير من حر أو برد أو ألم ، حتى يصير ذلك عنده طبيعة تعينه على تحمل ما هو أكبر ، فإن هذه هي السبيل في رياضة الأبدان وهي السبيل في رياضة الأنفس0
ثانيا:
وعلى الإنسان أن يعرف بنية نفسه ومبلغ ما عندها من الاحتمال للأمور الملمة الواردة عليه، فإن لكل إنسان مقدارا من قوة القلب أو ضعفه وسعة الصدر أو ضيقه 0 فبعض النفوس من القوة بحيث يحتمل الخطوب العظيمة ولا يضعف ، وبعضها من الضعف والانخزال بحيث تنحل قوته أمام ما يصيبه، وتضيق عليه مذاهب التصرف حتى يؤدي به ذلك إلى علة في البدن 0
فإذا عرف الإنسان طبيعته ومنتهى قوتها ومبلغ استقلالها بالأمور بنى على حسب ذلك تدبيره في مطالبه ومقاصده، ملكا كان أو سوقة 0والإنسان إذا دبر أموره بحسب ما يطيق فإنه يصل إلى سلامة النفس وراحة القلب ، وإن فاته الكثير من الآمال والرغائب التي يركب البعض لأجلها المخاطر ويغرر بنفسه وينتهي إلى ضيق الصدر وقلق النفوس والضرر في البدن 0
ومتى عمل الإنسان بوصية هذا الطبيب ، استكمل بذلك السعادة الدنيوية، لأن كمال هذه السعادة إنما هو في صحة البدن ،والنفس وراحتهما واندفاع الآفات والمكاره عنهما مدة الحياة في هذه الدنيا، ومتى خالف هذه الطريقة في مطالبة ومقاصده تنغصت عليه حياته وتكدرت عيشته واجتلب إلى نفسه الأمراض النفسانية، كما يجتلب الأمراض البدنية إليه من لا يصون نفسه من الآفات الخارجة ويتناول من أغذية المطاعم والمشارب وغيرها من حاجة الأبدان أكثر مما تحتمله قوته وتستقل به طبيعته 0
أما عن إعادة الصحة إلى النفس فإن ذلك يكون بتسكين هياجها، وهي بطبيعتها شديدة الحساسية كثيرة الانفعالات و. التغير فيها، وذلك بسبب ( لطف جوهرها )0 والإنسان لا يستطيع أبدا أن يحفظ على نفسه سكونها 0 بحيث لا يهيجها هائج من الأعراض النفسانية لأنها من دنياه في دار هموم وأحزان ومحل نوائب ونكبات، ولا يزال يرد عليها من حوادث الأمور ونوازل الخطوب ما يقع بخلاف محبته وضد إرادته، وذلك كما أنه لا يخلو من أعراض مؤذية قي بدنه، وإن كان ربما الإنسان زماناً طويلا لا يعرض له فيه مرض في أعضائه، أما النفس فلا يكاد يمضي يوم إلا ويرد فيه على الإنسان ما يثير الغضب أو الضجر أو الحزن 0
ولذلك يجب على المرء في مصالح نفسه أن يتعهدها حتى لا يهيج بها شيء، وإذا هاج منها شيء بادر بتسكينه، وكما أن معالجة البدن إنما تكون بشيء جسماني يجانسه من الأغذية والأدوية 0 كذلك معالجة النفس إنما تكون بشيء روحاني يجانسها ، وكما أن العلاج البدني إما أن يكون بشيء من داخل، كالاحتماء والامتناع مما لا يجب تناوله ، وإما أن يكون بشيء من خارج من الأغذية والأدوية، فكذلك معالجة النفس إما أن تكون بشيء من داخل، وهو فكرة يثيرها الإنسان من نفسه فيقمع بها ذلك العارض ويسكن ذلك الهائج وإما أن تكون بشيء خارج، وهوكلام يعظه به غيره فينجح فيه ويعمل في تسكين الهائج وإصلاح الفاسد من قوى نفسه 0وكما أن طبيب الأبدان قد يعطي المريض من خارج يكون أنفع له من الاحتماء وضبط البدن من الداخل، فكذلك الطب في الأعراض النفسية ، فالدواء من الخارج بالعظة والتذكير والإقناع قد يكون أنجع وأعظم تأثيرا0
إن الإنسان :
أولا ــ يقبل من غيره أكثر مما يقبل من نفسه ، وذلك أن رأيه في كل الأحوال مغلوب بهواه، وأحدهما ممتزج بالآخر 0
ثانيا ــ إن الإنسان في وقت اهتياج عارض من الأعراض النفسانية به مشغول بما يقاسيه من ذلك العارض مقهور على عزمه ورأيه مفتقر إلى من يلي عليه تدبير أمره ، وحتى الطبيب إذا مرض شغله المرض عن التطبيب لنفسه، فاحتاج إلى طبيب غيره يداويه ، ولذلك يحتاج أهل الحزم من الملوك إلى أن يكون عندهم حكماء يداوونهم من الأعراض النفسية كالغضب والضجر بالمواعظ والوصايا، كما يحتاجون إلى أطباء لمداواة ما يعرض للأبدان 0 ومع ذلك لا يستغني الإنسان في مداواة نفسه عن وصايا فكرية مجمعها في نفسه في وقت صحتها وسكوت قواها ويستودعها قوة الحفظ في ذات نفسه ليخطرها على باله ويعظ بها نفسه إذا لم يكن عنده واعظ، وذلك كما يحتفظ المحتاط في الأعراض البدنية بأدوية يودعها في خزائنه ليتناولها إذا عرض له أذى بدني ولم يكن بقربه طبيب 0