حَبّةُ حِمَّص!
إلى: يُوسُفَ؛ في كلِّ احتمالاتِه!
ما لم أقله: إن ظهري يوجعني من الحبِّ والخوفِ والوحدة, وإن العزلةَ لا تعودُ عزلةً حين نستطيعُ مشاركتَها. وحين شاهدتُ برنامجَ أطفالٍ على التلفاز, وكان الطفلُ المتسخُ بالطحالبِ الخضراء ينامُ على صدرِ أمّهِ المبتلِ بالعرقِ والبهجة, عرفتُ أن حدودَ عُزلتي لن تعودَ جِلدَيّ, بل جِلدَكَ, وأن ظلماتَكَ الثلاث ستتشابكُ منذ لحظةِ ميلادكَ مع ظلماتي.
كنتُ كلَّ صباحٍ أقفُ أمامَ المرآة, وأرفعُ قميصَ نومي, أتملى بطني الفارغَ تقريباً, آملةً أن تَصدُرَ منكَ حركةً ما, لو تركلُ أحشائي, تمصُّ أصابعك, تعطسُ ويمتلأ فمكَ بالرذاذ؛ أيَّ شيءٍ بخلاف تشبثِكَ المريعِ بي, لكنتُ أحبّبتكَ بطريقةٍ مختلفةٍ عما أفعل, ولكنتُ فكرت أن الاحتفاظَ بكَ ليس بالأمر السيئ, بنتيجة الحال. وأصعدُ على الميزان, معتقدةً أن بضعَ غراماتٍ زائدةٍ باضطرادٍ في وزني ستؤكدُ وجودكَ, فلا أبقى أُحدقُ في نتائجِ التحليلِ وأقول: "هُراء"! غيرَ أن المؤشرَ في لوحةِ الميزانِ بالكاد يختلفُ عما كان عليه الأسبوع الماضي, أو الذي قبله. ويوبخُني أبوك, إذ أن أمامي أشهرَ وكيلوغراماتٍ فلا حاجة لكلّ هذا الهوس!
ولعنةَ الدمّ أيضاً, وساعاتِ النهارِ الطويلةِ ممدة على ظهري وممنوعة من الحركة, واتصالاتِ أبيك: "كيف الحال؟", وأنتَ خائفٌ من الطفوِ في بركةِ دمٍّ, وأنا أطبطبُ عليكَ, وأحاولُ أن أشرحَ لكَ ما يصعبُ عليكَ فهمُه. لم يعد مُقنِعاً القولُ بأن رحمي الذي هيئ لكَ بطانةً أولَ مرةٍ لتتشابكَ بزغبِها الدمويِّ الطفيفِ وتنام ليس بقادرٍ على حمايتِكَ مِنَ الإنجرافِ في سيلِ الدمّ. ربما كانت هذه الحيلُ تُقنعَ يُوسُفَ, لكن ليس أنت يا حبة الحِمَّص, ولن يُقنِعكَ أيضاً أيٌّ مِن حشدِ المبرراتِ التي تفسرُ سقوطي وانزلاقي وتخطيَّ درجتين درجتين دَفعةً واحدة والكعبَ التي انكسرتْ تحت قدمي, والتواءَ الكاحل.
متوجسةٌ مِن منحِكَ الطالعِ السيئِ لطفلٍ "سقط" لو سميتُكَ يُوسُفَ مرتين, ومِن حصرِكَ في الزمنِ الدائريِّ المتكررِ واستعادةِ القدرِ نفسِهِ؛ ظلّ اسمُكَ مُشتتاً بين اسماءِ الإشارةِ والغنجِ غيرِ المُتكلَفِ لكلمة "بيبي". وعلى عكسِ الأمهات الاتي يضعن على التقويمِ علاماتٍ ونجومَ ويحصين المتبقي حتى يلدن؛ كنتُ أحصي الأيامَ المتبقيةَ قبل أن يجتاحَكَ الدمُّ وتذهب, كما يُوسُفُ والخيطُ الطويلُ الحار الذي سالَ على فخذي وأنا أمام المغسلة, ثم دائرةُ بللٍ مفزعةٍ على بياضاتٍ السرير, وأخيراً, بالمقصاتِ والملاقطِ في غرفةٍ تفوحُ روائحُها بالمطهراتِ وتختلجُ بالأبيض, بعدها لا أدري إلى أين ذهب, وخبأ عني الجميعُ أن كتلَ الدمِّ الحميمةِ تلك تنتهي إلى سلةِ النفايات, ولأن ذلك يعذبُ روحَي, فمن المؤكد أنه لن يحدثَ أبداً أن يؤلَ بكَ الحالُ إلى النهايةِ نفسِها.
ثُمَّ اسميتُكَ "حَبّةَ حِمَّص", تخيلتُكَ صغيراً وناتئاً, وبوسعي ضَمّكَ بين إبهاميَ والسبابة, رهيفاً إلى درجةٍ لو مالتْ عليكَ أصابعي لهصرتك. حَبةُ الحِمَّص هذه, سرقتُها من مسلسلٍ مدبلج, كانت فيه البطلةُ حُبْلى من أخيها, وكانتْ تُسمّي الصغيرَ أحياناً أخرى حَبةَ فاصوليا أو بازلاء, غير مصدقةٍ قدرتها على الحبِّ تجاه كائنٍ تَخلّقَ مِن نطفةٍ فاسدةٍ وحبٍّ مُحرَم, وكنتُ سأفهمُ في النهاية أنهما نتاجُ سلسلةٍ من الخيانات وأنهما ليسا أخوين على الإطلاق. أما أنت, في كلِّ احتمالاتِكَ, فنتاجُ سلسلةٍ لا نهائيةٍ من الحبِّ الخطأ والخيانةِ غير المتعمدة.
كان أبوك يقولُ إننا أشهى حين نتمنع, وأشهى مِن ذلكَ حين نُسقِط ستائرنا فجأة؛ ولم يكن يفهم أن إغماضةَ العينِ وحدها خيانة, تهبُّ فيها روائحَ رجلٍ غريب وتُسقِطَ الستائر. رجلٌ كان من السذاجةِ بحيث يسألُني على سبيلِ المُزاح: "تتزوجيني؟" وكنتُ أكثرَ سذاجةً لأُجيب: "شرط ألا تطعمني الباذنجان" مدوخةً بالصورةِ الضبابيةِ للحبِّ الذي تصنعَهُ الروايات, متجاهلةً في ظلِّ الخدر أن اسمَهُ ليسَ "فلورونتينو" ولا اسمي "فيرمينا".
أبوكَ أيضاً لا يُشبِهُ في شيءٍ صورةَ "الطبيبِ خوفينال", غيرَ أنهُ رجلٌ طيب. لم تكن تعوزهُ الفطنةَ ليفهم أن روحي صارتْ حذاءً مهترئ من شدةِ الوطء لا تستطيعُ الذهابَ في مشوارِ حبٍّ آخر. أبوك كان مثل جرذٍ مثابرٍ يقرضُ ألواحَ الخشبِ المتفسخ, المتراكمةَ طبقاتٍ فوق طبقات, والتي تعزلُني عن النهار, لكنه تَعبَ وأنا استنفدُ قدرتَهُ على الحنان وأقفِلُ دونهُ الأبوابَ, وأستتر خلف حُجُبي.
ما هو محتمٌ لا يمكنُ تفاديه؛ ولذا أهبتُ نفسي على خسارتِك, أبوك تقنّع بالصبرِ وتجلّد بالرضى, وأمي, جدتُك, تحاولُ استبقائكَ بشتى الطرق, فلا تكفُّ تأخذُ قُمصاني إلى "النفاثاتِ في العقد" وتعيدُها مربوطةً من ثناياها, وتَسقي الجِنَّ الماءَ والسكرَ لتُهدِّأ من صخبهم, وتُبخرني "بالشَبة" لتطردَ عيونَ الحُساد؛ ليسَ يمكنُها استيعابَ أن جسدي مِن فرطِ الذنبِ يطردُ ثمرةَ الغريب, وأن دمّي الذي حلّ فيه ذاك الرجل يتقيأ نفسَه. سأخبرُك ما أخبرتني إياه أمي, وما أخبرتُه يُوسُفَ من قبل. يقولون يا حبة الحِمَّص إنكَ ستنتظرُ على بابِ الجنةِ حتّى نأتي أنا وأبوك, إذا كان هذا صحيحاً, فمنذُ الآن أنا أخبرُكَ أن أباكَ يرتبكُ أمامَ الانتظارِ ويَفسدُ مِزاجُهُ فلا تنتظراني, لأن عندي حساباً طويلاً يصفيه الله معي.
حين حملتُكَ خارجَ بُقعةَ الدمِّ المنتشرةِ فوقَ البلاطات, فهمتُ لماذا سميتُكَ "حَبةَ حِمَّص", رغم أنكَ كنتَ أكبرَ من حفنةِ حبوب حِمَّص, كنتَ ظريفاً وخالٍ من الملامح كما حباتُ الحِمَّص في تشابهِها, وكما تُشبِهُ يُوسُفَ. لسعتني حرارتُكَ على كفي, وروعني فيكَ الدمُّ, كثيفاً ولزجاً, وبرائحةٍ تُفرِطُ في عطنِ ملوحتِها. لففتُكَ بفوطةِ أبيكَ الصغيرة, كما يلفّون المواليدَ في برنامجِ الأطفالِ ذاك؛ في رائحةِ شعرِ أبيكَ ويديه لن تعودَ عِندكَ أيُّ دوافعٍ للخوف, ولا أيُّ أسبابٍ لترشقَ رماحَكَ في ظهري, مُرتعِباً من فكرةِ انزلاقِكَ في مرحاضٍ وانتهائِكَ في بالوعةِ المجاري ومِن ثَمَّ إلى البحر. والهاتفُ يرنُّ بطريقةٍ محمومة, ولا واحدٌ منا يعيرُهُ انتباهَه. لكنتُ على الجانبِ الآخرِ من السرير, ولكان أبوك يوقظُني ويعتذر, وكنتُ سأطمئنُهُ إلى أننا بخير, كلينا بخير, وأغلقُ السماعةَ منسحبةً إلى وحدتي.
مازالتْ الرائحةُ التي حملتك, رائحةُ دمٍّ مملحٍ تملأُ الحمام, وتنتشرُ إلى الردهةِ خارجَهُ, وتقفُ كـ بابٍ آخرٍ وهميّ عند بابِ غرفتِنا, أنا وأبيك, وتتسللُ بخفةٍ عِندَ مخدَتي حين أبكي وعِندَ النوم. بالكاد دخلتُهُ عن اضطرارٍ مرتين أو ثلاث, إذ لا أريدُ أن أتشممكَ فيه, عاجزةً وأنا لم استطعْ فصلَ رائحتِكَ عن رائحةِ الدمّ, فباتتْ رائحتُكَ في ذهني هي ذاتها رائحة فقدك. ما لم أقله: إن أصابعَكَ الما نبتتْ بعد تدغدغُ قلبي, وإنك فضضتْ عُزلتي حين خرجتَ إلى العالم!
July 4, 2005
أسمهان الشبيب