مثل الأرنب والأسد



قالَ دِمنَةُ: زَعَموا أنَّ أسدًا كانَ في أرضٍ كثيرَةِ المياهِ والعُشبِ. وكانَ في تلك الأرضِ مِنَ الوحوشِ في سَعَةِ المياهِ والمَرعي شيءٌ كثيرٌ. إلا أنَّه لم يكن يَنفَعُها ذلك لخَوفِها مِنَ الأسَدِ. فاجتَمَعَتْ وأتَتْ إلي الأسَدِ فقالت له: إنَّك لتُصيبُ منَّا الدَّابَّةَ بَعدَ الجُهْدِ والتَّعَبِ. وقد رأينا لكَ رأيًا فيه صَلاحٌ لكَ وأمنٌ لنا. فإن أنت أمَّنتَنا ولم تُخِفنا فلك علينا في كلِّ يومٍ دابَّةٌ نُرسِلُ بها إليك في وقتِ غدائِكَ. فَرَضِيَ الأسَدُ بذلك وصالَحَ ش الوحشَ عليه ووَفَينَ له به

ثم إنَّ أرنبًا أصابَتها القُرعَةُ وصارَتْ غداءَ الأسَدِ. فقالت للوحوشِ: إن أنتُنَّ رَفَقتُنَّ بي فيما لا يَضُرُّكُنَّ رَجَوتُ أن أُريحَكُنَّ مِنَ الأسَدِ. فقالتِ الوحوشُ: وما الذي تُكَلِّفينَنا مِنَ الأمورِ? قالت: تأمُرنَ الذي يَنطَلِقُ بي إلي الأسَدِ أن يُمهِلني ريثما أُبطِئُ عليه بعضَ الإبطاء. فقُلنَ لها: ذلك لك. فانطَلَقَتِ الأرنَبُ مُتَباطِئةً حتي جاوَزَتِ الوقتَ الذي كانَ يَتَغَدَّي فيه الأسَدُ. ثم تَقَدَّمَتْ إليه وحدَها رويدًا وقد جاعَ، فغَضِبَ وقامَ من مَكانِهِ نحوها فقالَ لها: من أين أقبَلتِ? قالت: أنا رسولُ الوحوشِ إليكَ وقد بَعَثَني ومعي أرنَبٌ لك فتَبِعَني أسَدٌ في بعضِ تلك الطريقِ فأخذَها منّي وقالَ: أنا أولي بهذه الأرضِ وما فيها مِنَ الوحشِ. فقلتُ له: إنَّ هذا غداءُ الملِكِ أرسَلَتْ به الوحوشُ إليه فلا تَغصِبَنَّهُ. فَسَبَّكَ وشَتَمَكَ، فأقبَلتُ مُسرِعَةً لأُخبِرَكَ.

فقالَ الأسَدُ: انطَلِقي معي فأريني مَوضِعَ هذا الأسَدِ. فانطَلَقَتِ الأرنَبُ إلي جُبٍّ فيه ماءٌ غامِرٌ صافٍ. فاطَّلَعَتْ فيه وقالت: هذا المكانُ. فاطَّلَعَ الأسَدُ فرأي ظِلَّهُ وظِلَّ الأرنَبِ في الماءِ، فلم يَشُكَّ في قَولِها ووَثَبَ علي الأسَدِ ليُقاتِلَهُ فغَرِقَ في الجُبِّ. فانقَلَبَتِ الأرنبُ إلي الوحوشِ فأعلَمَتهُنَّ صَنيعَها بالأسَدِ.

قالَ كَليلَةُ: إن قَدَرتَ علي هَلاكِ الثَّورِ بشيءٍ ليسَ فيه مَضَرَّةٌ للأسَدِ فشأنَكَ. فإنَّ الثَّورَ قد أضَرَّ بي وبك وبغيرِنا مِنَ الجُندِ. وإن أنت لم تَقدِرْ علي ذلك إلاَّ بهلاكِ الأسَدِ، فلا تُقدِمْ عليه فإنَّه غَدرٌ منّي ومنك

ثم إنَّ دِمنَةَ تَرَكَ الدُّخولَ علي الأسَدِ أيامًا كثيرَةً. ثم أتاهُ علي خُلوَةٍ منه، فقالَ له الأسَدُ: ما حَبَسَكَ عنّي? منذُ زمانٍ لم أرَكَ. ألا لِخَيرٍ كانَ انقِطاعُكَ. قالَ دِمنَةُ: ليكن خيرًا أيُّها الملِكُ. قالَ الأسَدُ: وهل حَدَثَ أمرٌ? قالَ دِمنَةُ: حَدَثَ ما لم يكن الملِكُ يُريدُهُ ولا أحدٌ من جُندِهِ. قالَ: وما ذاك? قالَ: كلامٌ فَظيعٌ. قالَ: أخبِرْني به

قالَ دِمنَةُ: إنَّ كلَّ كلامٍ يَكرَهُهُ سامِعُهُ لا يَجسُرُ عليه قائِلُهُ وإن كانَ ناصِحًا مُشفِقًا إلاَّ إذا كانَ المَقولُ له عاقِلاً، فإنِ اتَّفَقَ ذلك حَمَلَ القَولَ علي مَحمِلِ المَحَبَّةِ وعَلِمَ ما فيه مِنَ النَّصيحَةِ لأنَّ ما كانَ فيه من نَفعٍ فهو له

وإنَّكَ أيُّها الملِكُ لَذو فَضيلَةٍ ورأيُكَ يدُلُّكَ علي أنَّه يوجِعُني أن أقولَ ما تَكرَهُ. وإني واثِقٌ بك أنَّك تَعرِفُ نُصحي وإيثاري إيَّاكَ علي نفسي. وإنَّه ليعرِضُ لي أنَّك غيرُ مُصَدِّقي فيما أُخبِرُكَ به. ولكنّي إذا تَذَكَّرتُ وتَفَكَّرتُ أنَّ نُفوسَنا مَعاشِرَ الوحوشِ مُتَعَلِّقَةٌ بك لم أجِدْ بُدًّا من أداءِ النُّصحِ الذي يَلزَمُني وإن أنت لم تَسألني أو خِفتُ أن لا تَقبَلَهُ منّي. فإنَّه يُقالُ مَنْ كَتَمَ السُّلطانَ نَصيحَتَهُ والأطِبَّاءَ مَرَضَهُ والإخوانَ رأيَهُ فقد خانَ نفسَهُ.

قالَ الأسَدُ: فما ذاك? قالَ دِمنَةُ: حَدَّثَني الأمينُ الصَّدوقُ عندي أنَّ شَتْرَبَةَ خَلا برؤوسِ جُندِكَ وقالَ لهم: إني قد خَبَرتُ الأسَدَ وبَلَوتُ رأيَهُ ومَكيدَتَهُ وقوَّتَهُ، فاستَبانَ لي أنَّ ذلك يَؤُولُ منه إلي ضُعفٍ وعجزٍ وسيكونُ لي وله شأنٌ مِنَ الشّؤُونِ.

فلمَّا بَلَغَني ذلك عَلِمتُ أنَّ شَتْرَبَةَ خَوَّانٌ غَدَّارٌ، وأنَّك أكرَمتَهُ الكَرامَةَ كلَّها وجعلتَهُ نَظيرَ نفسِكَ فهو يَظُنُّ أنَّه مثلُكَ وأنَّك متي زُلتَ عن مكانِكَ كانَ له مُلكُكَ ولا يَدَعُ جُهدًا إلاَّ بَلَغَهُ فيك. وقد كانَ يُقالُ: إذا عَرَفَ الملِكُ من أحدِ رعيَّتِهِ أنَّه قد ساواهُ في المنزلَةِ والحال فليَصرَعهُ. فإن هو لم يَفعَلْ به ذلك كانَ هو المَصروعَ. وشَتْرَبَةُ أعلَمُ بالأمورِ وأبلَغُ فيها. والعاقِلُ هو الذي يحتالُ للأمرِ قَبلَ تَمامِهِ ووقوعِهِ. فإنَّك لا تأمَنُ أن يكونَ وأن لا تَستَدرِكَهُ. فإنَّه يُقالُ: الرجالُ ثلاثَةٌ حازِمٌ وأحزَمُ منه وعاجِزٌ. فالحازِمُ مَن إذا نَزَلَ به الأمرُ لم يَدهَشْ له ولم يَذهَبْ قلبُهُ شَعاعًا ولم تَعيَ به حِيلَتُهُ ومكيدتُهُ التي يَرجو بها المَخرَجَ منه. وأحزَمُ من هذا المِقدامُ ذو العُدَّةِ الذي يَعرِفُ الابتِلاءَ قبلَ وقوعِهِ فيُعظِمُهُ إعظامًا ويَحتالُ له حِيلَةً حتي كأنَّه قد لَزِمَهُ فيَحسِمُ الدَّاءَ قبلَ أن يُبتَلي به ويَدفَعُ الأمرَ قَبلَ وقوعِهِ. وأما العاجِزُ فهو في تَرَدُّدٍ وتَمَنٍّ وتَوانٍ حتي يَهلِكَ. ومن أمثالِ ذلك مَثَلَ السَّمَكاتِ الثَّلاثِ. قالَ الأسَدُ: وكيفَ كانَ ذلكَ?






مثل السمكات الثلاث



قالَ دِمنَةُ: زَعَموا أنَّ غَديرًا كانَ فيه ثلاثٌ مِنَ السَّمَكِ: كَيِّسَةٌ وأكيَسُ منها وعاجِزَةٌ. وكانَ ذلك الغَديرُ بنَجوَةٍ مِنَ الأرضِ لا يكادُ يَقرَبُهُ أحدٌ. وبقربِهِ نهرٌ جارٍ. فاتَّفَقَ أنَّه اجتازَ بذلك النَّهرِ صَيَّادانِ فأبصَرا الغَديرَ فَتواعَدا أن يَرجِعا إليه بشِباكِهِما فيَصيدا ما فيه مِنَ السَّمَكِ. فسَمِعَتِ السَّمَكاتُ قَولَهُما. فأمَّا أكيَسُهُنَّ فلمَّا سَمِعَتْ قَولَهُما ارتابَتْ بهما وتَخَوَّفَتْ منهما فلم تُعَرِّجْ علي شيءٍ حتي خَرَجَتْ مِنَ المكانِ الذي يَدخُلُ فيه الماءُ مِنَ النَّهرِ إلي الغَديرِ فنَجَتْ بنفسِها. وأمَّا الكَيِّسَةُ الأخري فإنَّها مَكَثَتْ مكانَها وتَهاوَنَتْ في الأمرِ حتي جاء الصَّيَّادانِ. فلمَّا رأتهُما وعَرَفَتْ ما يُريدانِ ذَهَبَتْ لتَخرُجَ من حيثُ يَدخُلُ الماءُ فإذا بهما قد سَدَّا ذلك المكانَ فحينَئِذٍ قالت: فَرَّطتُ وهذه عاقِبَةُ التَّفريطِ فكيفَ الحِيلَةُ علي هذه الحالِ? وقلَّما تَنجَحُ حيلَةُ العَجَلَةِ والإرهاقِ . غيرَ أنَّ العاقِلَ لا يَقنَطُ من مَنافِعِ الرأيِ ولا ييأسُ علي حالٍ ولا يَدَعُ الرأيَ والجَهدَ. ثم إنَّها تَماوَتَتْ فطَفَتْ علي وجهِ الماءِ مُنقَلِبَةً علي ظَهرِها تارَةً وتارَةً علي بطنِها. فأخذَها الصَّيَّادانِ وظَنَّاها مَيتَةً فوضَعاها علي الأرضِ بين النَّهرِ والغَديرِ فَوَثَبَتْ إلي النَّهرِ فنَجَتْ. وأمَّا العاجِزَةُ فلم تَزَلْ في إقبالٍ وإدبارٍ حتي صِيدَتْ.

قالَ الأسَدُ: قد فهِمتُ ذلك ولا أظُنُّ الثَّورَ يَغُشُّني ولا يَرجو لِيَ الغَوائِلَ، وكيفَ يَفعَلُ ذلك ولم يَرَ منّي سوءًا قَطُّ ولم أدَعْ خيرًا إلاَّ فَعَلتُهُ معه ولا أُمنِيَّةً إلاَّ بَلَّغتُهُ إيَّاها!

قالَ دِمنَةُ: أيُّها الملِكُ إنَّه لم يَحمِلهُ علي ذلك إلاَّ ما ذَكَرتَهُ من إكرامِكَ له وتَبليغِكَ إيَّاهُ كلَّ منزلَةٍ خَلا منزلتِك وإنَّه مُتَطَلِّعٌ إليها. فإنَّ اللَّئيمَ لا يَزالُ نافِعًا ناصِحًا حتي يُرفَعَ إلي المنزلَةِ التي ليسَ لها بأهلٍ. فإذا بَلَغَها اشرَأَبَّتْ نفسُهُ إلي ما فَوقَها ولا سيَّمَا أهلُ الخيانَةِ والفُجورِ. فإنَّ اللئيمَ الفاجِرَ لا يَخدُمُ السُّلطانَ ولا ينصَحُ له إلاّ من فَرَقٍ أو حاجَةٍ، فإذا استَغني وذَهَبَتِ الهَيبَةُ والحاجَةُ عادَ إلي جَوهَرِهِ. كَذَنَبِ الكَلبِ الذي يُربَطُ ليَستَقيمَ فلا يَزالُ مُستَوِيًا ما دامَ مَربوطًا فإذا حُلَّ انحَني وتَعَوَّجَ كما كانَ

واعلَمْ أيُّها الملِكُ أنَّه مَن لم يَقبَلْ من نُصَحائِهِ ما يَثقُلُ عليه ممَّا يَنصَحونَ له لم يَحمَدْ غِبَّ رأيِهِ. كالمريضِ الذي يَدَعُ ما يَصِفُ له الطَّبيبُ ويَعمِدُ لِما تَشتَهيهِ نفسُهُ. وحُقَّ علي مُؤَازِرِ السُّلطانِ أن يُبالِغَ في التَّحضيضِ له علي ما يَزيدُ به سُلطانَهُ قوَّةً ويَزينُهُ والكَفِّ عمَّا يَضُرُّهُ ويَشينُهُ. وخيرُ الإخوانِ والأعوانِ أقَلُّهُمْ مُداهَنَةً في النَّصيحَةِ. وخيرُ الأعمالِ أحمَدُها عاقِبَةً. وخيرُ النِّساءِ الموافِقَةُ لبَعلِها. وخيرُ الثَّناءِ ما كانَ علي أفواهِ الأخيارِ. وأفضَلُ الملوكِ مَن لا يُخالِطُهُ بَطَرٌ ولا يَستَكبِرُ عن قَبولِ النَّصيحَةِ. وخيرُ الأخلاقِ أعوَنُها علي الوَرَعِ.

وقد قيلَ: لو أنَّ امرأً تَوَسَّدَ النَّارَ وافتَرَشَ الحيَّاتَ كانَ أحَقَّ أن يَهنِئهُ النومُ ممن يُحِسُّ من صاحبِهِ بعداوَةٍ يُريدُهُ بها ويَطمَئِنُّ إليه. وأعجَزُ الملوكِ آخَذُهُمْ بالهُوَيناءِ وأقَلُّهُمْ نَظَرًا في مستقبَلِ الأمورِ وأشبَهُهُمْ بالفيلِ الهائِجِ الذي لا يَلتَفِتُ إلي شيءٍ. فإن أحزَنَهُ أمرٌ تَهاوَنَ به وإن أضاعَ الأمورَ حَمَلَ ذلك علي قُرَنائِهِ.

قالَ الأسَدُ: لقد أغلَظتَ في القَولِ وقولُ النَّاصِحِ مَقبولٌ مَحمولٌ. وإن كانَ شَتَْرَبَةُ مُعادِيًا لي كما تقولُ فإنَّه لا يستَطيعُ أن يَضُرَّني ولا أن يَفُتَّ في ساعِدي ، وكيفَ يَقدِرُ علي ذلك وهو آكِلُ عُشبٍ وأنا آكِلُ لحمٍ? وإنَّما هو لي طَعامٌ وليسَ عليَّ منه مَخافَةٌ. ثم ليس إلي الغَدرِ به سبيلٌ بعد الأمانِ الذي جَعَلتُهُ له وبعد إكرامي له وثَنائي عليه. وإن غيَّرتُ ما كانَ منّي وبدَّلتُهُ فقد سَفَّهتُ رأيي وجَهَّلتُ نفسي وغَدَرتُ بذِمَّتي ونَقَضتُ عهدي.

قالَ دِمنَةُ: لا يَغُرَّنَّكَ قولُكَ هو لي طعامٌ وليسَ عليَّ منه مخافَةٌ. فإنَّ شَتْرَبَةَ إن لم يَستَطِعكَ بنفسِهِ احتالَ لك من قِبَلِ غيرِهِ. ويُقالُ إنِ استَضافَكَ ضَيفٌ ساعَةً من نهارٍ وأنت لا تَعرِفُ أخلاقَهُ فلا تَأمَنهُ علي نفسِكَ ولا تَأمَنْ أن يُصيبَكَ منه أو بسببِهِ ما أصابَ القَملَةَ مِنَ البُرغوثِ.

قالَ الأسَدُ: وكيفَ كانَ ذلكَ?








مثل القَمْلَةِ والبُرغوث



قالَ دِمنَةُ: زَعَموا أنَّ قَملَةً لَزِمَتْ فراشَ رجلٍ مِنَ الأغنياءِ دَهرًا فكانت تُصيبُ من دَمِهِ وهو نائِمٌ لا يَشعُرُ وتَدِبُّ دَبيبًا رَفيقًا. فمَكَثَتْ كذلك حينًا حتي استضَافَها ليلَةً مِنَ الليالي بُرغوثٌ. فقالت له: بِتِ الليلَةَ عندنَا في دَمٍ طَيِّبٍ وفراشٍ لَيِّنٍ. فأقامَ البُرغوثُ عندَها حتي إذا أوَي الرجلُ إلي فراشِهِ وَثَبَ عليه البُرغوثُ فلَدَغَهُ لَدغَةً أيقَظَتهُ وأطارَتِ النومَ عنه، فقامَ الرجلُ وأمَرَ أن يُفَتَّشَ فراشُهُ فنُظِرَ فلم يُرَ إلاَّ القَملَةُ فأُخِذَتْ فقُصِعَتْ وفَرَّ البُرغوثُ.

وإنَّما ضَرَبتُ لك هذا المَثَلَ لتَعلَمَ أنَّ صاحِبَ الشَّرِّ لا يَسلَمُ من شَرِّهِ أحدٌ. وإن هو ضَعُفَ عن ذلك جاء الشَّرُّ بسببِهِ. وإن كنتَ لا تَخافُ من شَتْرَبَةَ فَخَفْ غيرَهُ من جُندِكَ الذينَ قد حَرَّشَهُمْ عليك وحَمَلَهُمْ علي عداوَتِكَ.

فَوَقَعَ في نفسِ الأسَدِ كلامُ دِمنَةَ. فقالَ: فما الذي تَرَي إذن وبماذا تُشيرُ? قالَ دِمنَةُ: إنَّ الضِّرسَ المَأكولَ لا يَزالُ صاحِبُهُ منه في ألَمٍ وأذًي حتي يَقلَعَهُ. والطعامَ الذي قد عَفِنَ في البطنِ الراحَةُ في قَذفِهِ. والعَدُوَّ المُخيفَ دواؤُهُ قَتلُهُ. قالَ الأسَدُ: لقد تَرَكتَني أكرَهُ مُجاوَرَةَ شَتْرَبَةَ إيَّايَ. وأنا مُرسِلٌ إليه وذاكِرٌ له ما وَقَعَ في نفسي منه. ثم آمُرُهُ باللِّحاقِ حيثُ أحَبَّ.

فَكَرِهَ دِمنَةُ ذلك وعَلِمَ أنَّ الأسَدَ متي كَلَّمَ شَتْرَبَةَ في ذلك وسَمِعَ منه جوابًا عَرَفَ باطِلَ ما أتي هو به واطَّلَعَ علي غَدرِهِ وكَذِبِهِ ولم يَخفَ عليه أمرُهُ. فقالَ للأسَدِ: أمَّا إرسالُكَ إلي شَتْرَبَةَ فلا أراهُ لك رأيًا ولا حَزمًا. فليَنظِرُ الملِكُ في ذلك فإنَّه لا يَزالُ لك في نفسِكَ الخِيارُ ما دامَ لا يَعلَمُ أنَّ أمرَهُ قد وَصَلَ إليك. فإنَّه متي عَلِمَ ذلك خِفتُ أن يُعاجِلَ الملِكَ بالمُكابَرَةِ. وهو إن قاتَلَكَ قاتَلَكَ مُستَعِدًا وإن فارَقَكَ فارَقَكَ فِراقًا يَليكَ منه النَّقصُ ويَلزَمُكَ منه العارُ. مَعَ أنَّ ذَوي الرَّأْيِ مِنَ المُلوكِ لا يُعلِنونَ عُقوبَةَ مَنْ لم يُعْلَنْ ذَنبَهُ. ولكنَّ لِكُلِّ ذَنْبٍ عِندَهُم عُقوبَةً. فَلِذَنْبِ العَلانِيَةِ عُقوبَةُ العَلانِيَةِ. ولِذَنْبِ السِّرِّ عُقوبَةُ السِّرِّ.

قالَ الأسَدُ: إنَّ الملِكَ إذا عاقَبَ أحدًا عن ظِنَّةٍ ظَنَّها من غيرِ تَيَقُّنٍ لجُرمِهِ فنفسَهُ عاقَبَ وإياها ظَلَمَ وكانَ ناقِصَ البَصيرَةِ.

قالَ دِمنَةُ: أمَّا إذا كانَ هذا رأيَ الملِكِ فلا يَدخُلَنَّ عليك شَتْرَبَةُ إلاَّ وأنت مُستَعِدٌّ له، وإيَّاكَ أن تُصيبَهُ منكَ غِرَّةٌ أو غَفلَةٌ. فإني لا أحسَبُ الملِكَ حين يَدخُلُ عليه إلاَّ سَيَعرِفُ أنَّه قد هَمَّ بعظيمَةٍ. ومن علاماتِ ذلك أنَّك تَري هيئتَهُ مُتَغَيِّرَةً، وتَرَي أوصالَهُ تُرعَدُ وتَراهُ مُلتَفِتًا يَمينًا وشِمالاً، وتَراهُ يُصَوِّبُ قَرنَيهِ فِعلَ الذي هَمَّ بالنِّطاحِ والقِتالِ.

قالَ الأسَدُ: سأكونُ منه علي حَذَرٍ وإن رأيتُ منه ما يَدُلُّ علي ما ذَكَرتَ عَلِمتُ أنَّ ما في أمرِهِ شَكٌ.

فلمَّا فَرَغَ دِمنَةُ من تَحريشِ الأسَدِ علي الثَّورِ وعَرَفَ أنَّه قد وقَعَ في نفسِهِ ما كانَ يَلتَمِسُ وأنَّ الأسَدَ سَيَتَحَذَّرُ مِنَ الثَّورِ ويَتَهَيَّأُ له أرادَ أن يأتِيَ الثَّورَ ليُغرِيَهُ بالأسَدِ. وأحَبَّ أن يكونَ إتيانُهُ من قِبَلِ الأسَدِ مخافَةَ أن يَبلُغَهُ ذلك فَيَتَأذَّي به، فقالَ: أيُّها الملِكُ ألا آتي شَتْرَبَةَ فأنظُرَ إلي حالِهِ وأمرِهِ وأسمَعَ كلامَهُ لعلّي أن أطَّلِعَ علي سِرِّهِ فأُطلِعَ الملِكَ علي ذلك وعلي ما يَظهَرُ لي منه? فأذِنَ له الأسَدُ في ذلك. فانطَلَقَ فدَخَلَ علي شَتْرَبَةَ كالكَئيبِ الحَزينِ. فلمَّا رآهُ الثَّورُ رَحَّبَ به وقالَ: ما كانَ سَبَبُ انقِطاعِكَ عنّي فإنّي لم أرَكَ منذُ أيامٍ، أسَلامَةٌ هو? قالَ دِمنَةُ: ومتي كانَ من أهلِ السَّلامَةِ مَن لا يَملِكُ نفسَهُ وأمرُهُ بيدِ غيرِهِ ممن لا يوثِقُ به ولا يَنفَكُّ علي خَطَرٍ وخَوفٍ حتي ما من ساعَةٍ تَمُرُّ ويأمَنُ فيها علي نفسِهِ!

قالَ شَتْرَبَةُ: وما الذي حَدَثَ? قالَ دِمنَةُ: حَدَثَ ما قُدِّرَ وهو كائِنٌ. ومَن ذا الذي غالَبَ القَدَرَ? ومَن ذا الذي بَلَغَ مِنَ الدُّنيا جَسيمًا مِنَ الأمورِ فلم يَبطَرْ? ومَن ذا الذي بَلَغَ مُناهُ فلم يَغتَرَّ? ومَن ذا الذي تَبعَ هَواهُ فلم يَخسَرْ? ومَن ذا الذي حادَثَ النِّساءَ فلم يُصَبْ? ومَن ذا الذي طَلَبَ مِنَ اللِّئامِ فلم يُحرَمْ? ومَن ذا الذي خالَطَ الأشرارَ فَسَلِمَ? ومَن ذا الذي صَحِبَ السُّلطانَ فَدامَ له منه الأمنُ والإحسانُ? ولقد صَدَقَ الذي قالَ: مَثَلُ السَّلاطينِ في قِلَّةِ وفائِهِمْ لِمَن صَحِبَهُمْ وسَخاءِ أنفسِهِمْ بمن فَقَدُوا من قُرَنائِهِمْ كَمَثَلِ صاحِبِ الخانِ كلَّما فَقَدَ واحِدًا جاء آخَرُ.

قالَ شَتْرَبَةُ: إني أسمَعُ منكَ كلامًا يَدُلُّ علي أنَّه قد رابَكَ مِنَ الأسَدِ رائِبٌ وهالَكَ منه أمرٌ.

قالَ دِمنَةُ: أجَلْ لقد رابَني منه ذلك وليسَ هو في أمرِ نفسي.

قالَ شَتْرَبَةُ: ففي نفسِ مَن رابَكَ? قالَ دِمنَةُ: قد تعلَمُ ما بيني وبينك وتَعلَمُ حَقَّكَ عليَّ وما كنتُ جَعَلتُ لك مِنَ العَهدِ والميثاقِ أيَّامَ أرسَلَني الأسَدُ إليك. فلم أجِدْ بُدًّا من حِفظِكَ وإطلاعِكَ علي ما اطَّلَعتُ عليه ممَّا أخافُ عليك منه.

قالَ شَتْرَبَةُ: وما الذي بَلَغَكَ? قالَ دِمنَةُ: حَدَّثَني الخَبيرُ الصَّدوقُ الذي لا مِريَةَ في قَولِهِ أنَّ الأسَدَ قالَ لبعضِ أصحابِهِ وجُلَسائِهِ: قد أعجَبَني سِمَنُ الثَّورِ وليسَ لي إلي حياتِهِ حاجَةٌ فأنا آكِلُهُ ومُطعِمٌ أصحابي من لحمِهِ. فلمَّا بَلَغَني هذا القَولُ وعَرَفتُ غَدرَهُ وسوءَ عهدِهِ أقبَلتُ إليك لأقضِيَ حَقَّكَ وتَحتالَ أنتَ لأمرِكَ.

فلمَّا سَمِعَ شَتْرَبَةُ كلامَ دِمنَةَ وتَذَكَّرَ ما كانَ دِمنَةُ جَعَلَ له مِنَ العَهدِ والميثاقِ وفَكَّرَ في أمرِ الأسَدِ ظَنَّ أنَّ دِمنَةَ قد صَدَّقَهُ ونَصَحَ له. ورأي أنَّ الأمرَ شبيهٌ بما قالَ دِمنَةُ. فأهَمَّهُ ذلك وقالَ: ما كانَ للأسَدِ أن يَغدُرَ بي ولم آتِ إليه ذَنبًا ولا إلي أحدٍ من جُندِهِ منذ صَحِبتُهُ، ولا أظُنُّ الأسَدَ إلاَّ قد حُمِلَ عليَّ بالكَذِبِ وشُبِّهَ عليه أمري، فإنَّ الأسَدَ قد صَحِبَهُ قَومُ سوءٍ وجَرَّبَ منهُمُ الكَذِبَ وأُمورًا تُصَدَّقُ إذا بَلَغَتهُ عن غيرِهِم. فإنَّ صُحبَةَ الأشرارِ ربما أورَثَتْ صاحِبَها سوء ظَنٍّ بالأخيارِ وحَمَلَهُ ما يَختَبِرُهُ منهم علي الخَطإ في حقِّ غيرِهم، كخطإِ البطَّةِ التي زَعَموا أنَّها رأتْ في الماءِ ضَوء كوكَبٍ فَظَنَّتهُ سَمَكَةً فحاوَلَتْ أن تَصيدَها. فلمَّا جَرَّبَتْ ذلك مِرارًا عَلِمَتْ أنَّه ليسَ بشيءٍ يُصادُ فتَرَكَتْهُ. ثم رأتْ من غَدِ ذلك اليومِ سَمَكَةً. فَظَنَّتْ أنَّها مثلُ الذي رأتهُ بالأمسِ فَتَرَكَتْها ولم تَطلُبْ صَيدَها.

قالَ دِمنَةُ: إنَّ إرادَةَ الأسَدِ بك ليست من تَحْريشِ الأشرارِ ولا سَكَرةِ السُّلطانِ ولا غيرِ ذلك. ولكنَّها الغَدرُ والفُجورُ منه فإنَّه فاجِرٌ خَوَّانٌ غَدَّارٌ لطعامِهِ حَلاوَةٌ وآخِرُهُ سُمٌّ مُميتٌ.

قالَ شَتْرَبَةُ: فأراني قد استَلذَذتُ الحَلاوَةَ إذ ذُقتُها وقد انتَهَيتُ إلي آخِرها الذي هو المَوتُ. ولولا الحَينُ ما كانَ مُقامي عند الأسَدِ وهو آكِلُ لحمٍ وأنا آكِلُ عُشبٍ. فأنا في هذه الورطَةِ كالنَّحلَةِ التي تَجلِسُ علي نَورِ النِّيلُوفَرِ إذ تَستَلِذُّ ريحَهُ وطَعمَهُ فتَحبِسُها تلك اللَّذَّةُ عنِ الحِينِ الذي يَنبَغي أن تَطيرَ فيه. فإذا جاء الليلُ يَنضَمُّ عليها فتَرتَبِكُ فيه وتَموتُ. ومَن لم يَرضَ مِنَ الدُّنيا بالكَفافِ الذي يُغنيهِ وطَمَحَتْ عينُهُ إلي ما سوي ذلك ولم يَتَخَوَّفْ عاقِبَتَهُ كانَ كالذُّبابِ الذي لا يَرضي بالشَّجَرِ والرَّياحينِ ولا يُقنِعُهُ ذلك حتي يَطلُبَ الماء الذي يَسيلُ من أُذُنِ الفيلِ فَيَضرِبُهُ الفيلُ بأُذُنَيهِ فيُهلِكُهُ. ومَن يَبذُلْ وُدَّهُ ونَصيحَتَهُ لِمَن لا يَشكُرُهُ فهو كَمَن يَبذُرُ في السِّباخِ . ومَن يُشِرْ علي المُعجَبِ كَمَن يُشاوِرُ المَيتَ أو يُسارُّ الأصَمَّ.

قالَ دِمنَةُ: دَعْ عنك هذا الكلامَ واحتَلْ لنفسِكَ. قالَ شَتْرَبَةُ: بأيِّ شيءٍ أحتالُ لنفسي إذا أرادَ الأسَدُ أكلي معَ ما عَرَّفَتني من رأيِ الأسَدِ وسوءٍ أخلاقِهِ? وأعلَمُ أنَّه لو لم يُرِدْ بي إلاَّ خَيرًا ثم أرادَ أصحابُهُ بمَكرِهِمْ وفُجورِهِمْ هَلاكي لَقَدروا علي ذلك. فإنَّه إذا اجتَمَعَ المَكَرَةُ الظَّلَمَةُ علي البَريءِ الصَّالِحِ كانوا خُلَقاءَ أن يُهلِكوهُ وإن كانوا ضُعَفاءَ وهو قَوِيٌّ. كما أهلَكَ الذِّئبُ والغُرابُ وابنُ آوي الجَمَلَ حين اجتَمَعوا عليه بالمَكرِ والخَديعَةِ والخيانَةِ.

قالَ دِمنَةُ: وكيفَ كانَ ذلكَ?