قهر أجساد ناعمة تنساب مشنوقة ومحروقة ومسمومة إلى القبور فتيات صامطة ينتحرن بـ"صمت"!
شوارع أحياء صامطة
طوال سنوات مضت، توالى سقوط أمهات وفتيات بعمر الزهور كأوراق الشجر الصفراء مع مزيج من حرارة الصيف ورطوبته الساخنة، سيد الأجواء في الحدود الجنوبية من السعودية.
هذه المدينة (صامطة) التي يعني اسمها باللهجة المحلية (باردة)، يتردد فيها شيء واحد اسمه: ثلاجة الموتى، حيث البرودة هي أول منازل الراحلين، وهي أكثر ما يتمناه العابرون على نصل الانتحار!
فواتير باهضة قوامها ظروف أسرية ومعيشية وأخرى يطوقها العنف والاضطربات النفسية تجابه لمرة واحدة وأخيرة بالانتحار. أخبار وتقارير تناقلتها الصحف خلال الأربعة الأعوام الماضية عن حالات متلاحقة لفتيات دفن في قبور "صامطة" وعلى رقابهن آثار حبل مفتول، أو في جوفهن جرعة مميتة من دواء، وأخريات ووريت أجسادهن تحت التراب وهي تفوح برائحة اللحم المقدد بنار القنوط.
مدينة صامطة ذات الـ 100 ألف نسمة تغرق في هدوئها القديم، وهي بعيدة بـ 47 قرية في أقصى الجنوب.
كان الصمت فيها مثل غطاء أسود يظلل الأرض والناس والبيوت، لا أحد كان يريد أن يتحدث ولا أن يبحث في توالي قضايا الانتحار وأسبابه في هذه المدينة الصغيرة. كانت التحقيقات تفتح لمعرفة أسباب تلك الحوادث، لكن سرعان ما يتم لملمة الموضوع، دفعا لكلام الناس، وعار الفضيحة! وكان أطباء علم النفس في مستشفيات المنطقة يحسمون نتيجة التحقيق بـ "الأمراض النفسية " وتنتهي الحكاية.. وما إن تجف دموع أهل تلك العشرينية المنتحرة شنقاً حتى يفاجأ الجيران بابنتهم تموت بعد أيام برصاصة تخرج من الجهة الأخرى من رأسها، أو بسكب لتر من البنزين على جسدها الغض لتنهي رحلتها الصغيرة مع العالم والحياة برمتها.
في صامطة..الشوارع ضيقة وملتوية، متجهمة قاسية، لا تُعرف باسم تحمله على سواد جدرانها، ومعظم طرقاتها تبدو معتمة وغارقة في الظلام إذا أطبق الليل بستائره الثقيلة. لا أشجار في هذه الشوارع تلفت النظر.. وإن ظهرت بعض منها، فهي صفراء شاحبة، مخنوقة بين أكوام من كثبان الرمل الجاف. في وسطها تبدو البيوت المتناثرة شاحبة ومتهالكة، تمسك بأعناقها "كيابل" الكهرباء وأسلاك الهاتف، تطوقها وتتدلى على جدرانها كشبكة عنكبوت. وكلما ابتعدت عن منتصف المدينة تتنافر البيوت عن بعضها، ثم تنقطع فجأة لتنتهي الأرض بلون من الخضرة هي حقول المزارعين الخضراء الذي يبدو وجودها ثقيلاً وسط جفاف واصفرار الصحراء الفسيحة.
صمت قاس وشلال الأخبار
في 21 أغسطس عام 2006 نشرت الصحف السعودية خبراً مقتضباً عن انتحار فتاة تسكن قرية (أبو حجر) بمحافظة صامطة باستخدام غطاء رأسها الأسود. انتحرت معلقة بسقف غرفتها من دون أن تترك أثرا واحدا، ربما لم يكن لديها الوقت الكافي لتقول آخر كلماتها قبل قرارها الأخير، فضلت أن تحمل سرها الصغير بكل جلال "الصمت" في رحلتها مع راحة النهاية.
كانت المعلومات الأولية تشير إلى أن ظروف مادية سيئة دفعت بالفتاة ذات الـ "22 ربيعا" لأن تلحق بأختها التي انتحرت قبلها بعشرة أعوام في ذات المنزل. لتكمل عقداً من ست حالات انتحار شهدتها "صامطة" في العام ذاته.
قبلها تناقلت الصحف خبراً موجزاً من سطرين عن فتاة انتحرت في قرية الوتد بصامطة دون أية إيضاحات سوى تلك التحقيقات التي فتحت والأسباب النفسية التي يعتقد المختصون النفسيون أنها كانت السبب.
ليجيء بعدها خبر مفاده أن " أماً لستة أولاد من قرية الدوح بصامطة انتحرت شنقاً". كان ذلك في أبريل العام الماضي 2008. غير أن الخبر تضمن إشارة مثيرة هذه المرة.
فالمرأة كانت تسكن وأولادها في منزل من (القش والصفيح) وكانت تراجع العيادة النفسية في مستشفى المحافظة، لكنها قررت الانتحار قبل أن يحين موعد مراجعتها المقررة سلفا بأيام قليلة!.
في حين فضل عام 2008 أن يسدل ستائره بقصة موجعة عن فتاة بعمر "17عاماً" أطلقت النار على رأسها في قرية (الخوجرة) بذات المحافظة ودفنت والدماء تتصبب من بين خصلات شعرها. بعد محاولات عدة حصلت "الوطن" على رقم هاتف لعائلة دفنت ابنتها قبل عامين بعد انتحارها.
نصيحة واحدة أرسلها لنا (الوسيط) الذي طلب إبعاد اسمه عن القصة، مع رسالة نصية تحمل الرقم:" انتبهوا وأنتم تفتحون قصة مضى عليها أشهر، لا تسببوا لهم ألماً عميقاً، ولا تعيدوا إلى نفوسهم أحزاناً لن يستطيعوا كتمانها مرة أخرى".
وبعد الاتصال جاءنا صوت ذكوري لأحد أفراد العائلة بدا غارقاً في الانشغال مكتفياً في اتصال "الوطن" معه بإجابات قصيرة، وحاسمة: أرجوك.. هذا الموضوع انتهى منذ زمن، ولا أعتقد أنكم ستعيدون إليها حياتها، ثم من قال لكم إنها انتحرت..هي ماتت بعد إصابتها بمرض خطير قاتل. طلب منا الابتعاد عن الخوض في التفاصيل، فالحديث عنها هو "تدخل في أسرار البيوت" كما يقول.
آخر العلاج..الانتحار
مشرف الصحة النفسية بجازان، حديث لـ"الوطن" قبل أيام إلى أن ما تناقلته الصحف من أخبار حوادث الانتحار في المملكة وفي جازان تحديداً لا يمثل النسبة الحقيقية على أرض الواقع.. فهي أعلى بكثير كما يقول.
وأضاف أن عدداً آخر من حالات الانتحار ينفي أهلها حدوثها وتنتهي تفاصيلها عندهم ولا تصل للصحف.
وأشار السنوسي إلى أن غياب الإحصائيات والدراسات الرسمية فوت فرصة البحث المعمق في أسباب والأبعاد الحقيقية وراء تلك الحوادث المؤلمة.
وأرجع السنوسي الذي يتعامل مع حالات الانتحار في المنطقة وشهد عشرات المحاولات الأخرى سبب تلك الحوادث إلى اضطرابات نفسية ووجدانية تجد طريقها إلى النساء أكثر من الرجال، مشيراً إلى أن هنالك فتيات أخريات يخترن أن يضعن حداً لحياتهن بضغط تحت ظروف أسرية ومشاكل داخلية تدور في خلف جدران المنازل مع آبائهن وإخوانهن وأزواجهن يجدن أن الموت السريع هو الأسهل في التعامل مع تلك الظروف. ولافتاً إلى أن شرب جرعات مميتة من الأدوية وحرق الأجساد هي طرق اتبعها عدد من الفتيات عند محاولاتهن الانتحار.
بعد ثلاثة أيام من المحاولة والإصرار، قبلت معلمة تربوية تعمل بإحدى مدارس صامطة وطالبة بمدرسة ثانوية الحديث مع "الوطن". كان الشرط أن يبعثن بالرأي عبر رسائل الجوال. تقول المعلمة (أسماء. م) إن مثل هؤلاء الفتيات اللاتي قمن بالانتحار في محيطها يطوقهن الانغلاق الاجتماعي والنفسي..يفتقرن للتعليم وللكثير من أساسيات الحياة ومعرفة أمور الدين. وتضيف" أما التعامل الأسري فيبقى هو العامل الأكبر..يحيط بالفتاة شكوك الأب والإخوة، وتغلفها الهيمنة والشعور بالنقص، ويمارس معها الحرمان من أبسط حقوقها".
وتضيء أسماء اللون الأحمر التحذيري حول فتيات القرى وتقول:" لديهن داء اسمه تفضيل الذكور .. لذلك تجد أن البنت مضطهدة محرومة من العلم ولا يسمح لها بإبداء الرأي..فكل شيء منها يقابل بوصف العيب ولا تفتحي فمك!" وأضافت متسائلة "والدها وإخوتها هم من يختارون لها المستوى التعليمي واللبس والأكل وزوج المستقبل..فهل تعتقد أن هذه الحياة ستناسبها؟".
وتشاركها الرأي الطالبة (صفية. س) وهي طالبة لم تنه المرحلة الثانوية: لا أعرف على وجه الخصوص السبب الذي كان وراء انتحار الفتيات.. لكنني أستطيع أن أؤكد لك أنه يتعلق كثيراً بالضغط الأسري، الظلم قاسٍ هنا، ولو أن أحدا يملك عقلاً وعاش معهن قبل قرارهن الأخير لما أطال التساؤل حول لماذا انتحرن أو ما هي الأسباب وراء ذلك".
وتضيف صفية بعد أن ترحمت على من غادرن الحياة "استغربت كثيراً وأنا أقرأ عن قصص موتهن حتى كدت أبكي، كانت لحظات مليئة بالعذاب فأنا متأكدة أن الأمر لم يحصل فجأة أو بأسباب نفسية بحتة.. لابد أن أشياء كثيرة دفعتهن إلى هذا المصير..ابحثوا في تفاصيل الأيام الأخيرة من حياتهن يجب أن يكون هنالك شيء مثير للانتباه يقود لكشف اللغز..وابحثوا أكثر في علاقتهن بآبائهن وأزواجهن وإخوتهن من الأولاد والبنات".
تقول المعلمة فاطمة، وهي مرشدة طلابية بصامطة، فضلت الاكتفاء باسمها الأول: تلك القصص لم تترك أحداً إلا وحركت في أعماقه موجة عاتية من التساؤلات والحزن..ماذا تعني لهن الحياة وماذا يعني لهن الموت؟، تضيف حول طبيعة طالباتها: لا يمكن أن تفسر الأمور على كل الوجوه، ويمكن أن تختبئ وراء كل وجه حقيقة وحياة خاصة لا نعرفها بمجرد اللقاء داخل فصول المدرسة..
أما فكرة الدخول في تفاصيل الفتاة دون طلبها فيبدو أقرب إلى التطفل والبلاهة.. صدقني نحن لا نسمعهم إلا همساً يشوبه خوف وهلع عندما نطرح عليهن أبسط الأسئلة، لذا لا نضطر أبداً إلى الخوض في التفاصيل. وتعود فاطمة لتشير إلى أن وضع نهاية للحياة بهذه الطريقة العاتية يجب أن يكون وراءها دوافع غامضة ومتداخلة وتعقيدات سنحتاج إلى زمن لنعرف حقيقتها، هذا إذا أردنا فعلا البحث وراء الحقيقة الغائبة تحت أحجار وشواهد القبور".
هواتف لا ترد.. ولجان لم تولد
يقول موقع وزارة الشؤون الاجتماعية على الإنترنت إن إدارة عامة للحماية توجد على أرض الواقع، وإن من بين مهامها حماية المرأة من الإيذاء النفسي والجسدي والجنسي وتمنعهن من أن يسلكن طريق الانتحار في مواجهة تلك الظروف.
وحددت هاتفاً من تسعة أرقام لبعض مناطق المملكة لاستقبال البلاغات. إلا أن أربع ساعات من محاولة الاتصال يوم الأربعاء مطلع شهر أبريل الماضي، من الساعة 10 إلى الساعة الثانية ظهراً، لم تشفع لنا للحديث مع مركز الإدارة الرئيسي في مدينة الرياض، فيما الرد الوحيد الذي فزنا به هو "صوت الرد الآلي باللغة الإنجليزية" يطالب المتصل بوضع رسالته ورقمه ليتم الاتصال به لاحقاً. وهو الرد الذي كان أفضل حالاً من هاتف مكتب الشؤون الاجتماعية في جازان المكلف بتلقي البلاغات وإعطاء النصح الاجتماعي بجانب الرقم المجاني لوحدة الإرشاد ، الذي كررنا محاولة الاتصال بهما دون جدوى. وكانت هيئة حقوق الإنسان السعودية قد طلبت من وزارة الصحة، قبل أكثر من عامين ونصف، إيجاد أطباء ومختصين في علم النفس والاجتماع لمواجهة تزايد حالات الانتحار في البلاد. واقترح رئيس الهيئة حينها، أن تتولى جهة مختصة علاج تلك الظاهرة بإيجاد عيادات متخصصة في الطب النفسي وأن يكون العلاج مجاناً للفقراء وأصحاب الدخل المحدود.
حقوق الإنسان تفتح الملف
كشفت جولة سابقة لـ"الوطن" على صفحات الشكوى والتظلمات التي فتحتها الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان على صدر موقعها سابقاً عن عدد من الرسائل وجهها مواطنون ومواطنات سعوديات تتحدث عن حوادث ضرب تعرض لها عدد من الفتيات الرافضات للزواج من شبان لا يرغبن بهم.
بجانب رسائل أخرى تشتكي ظلم الآباء الذي يقع على كاهل بناتهم بغرض الانتقام من الأمهات المطلقات والتهديد باللجوء إلى الانتحار إذا لم يتدخل المجتمع ومعه الجمعية في الوقوف ضد ممارسات العنف الأسري في المنازل المغلقة.
وأظهر الموقع تهديد فتاة سعودية بالانتحار في رسالة بعثت بها والدة الفتاة إلى الجمعية تطالب رئيس الجمعية بالتدخل لحماية "ابنتها من والدها" بعدما انفصلت عنه، وقالت إن الفتاة تتعرض للضرب بوحشية من والدها، مبدية مخاوفها من إقدام ابنتها على الهرب أو الانتحار حسب تهديدات سابقة كانت قد أفصحت عنها.
منقووول