الانبعاج الثقافي
ثقافة المجتمعات بشكل عام هي التي تحدد نظرتها لكل الأحداث الداخلية والخارجية، وبعيدا عن الجدل القائم حول هل الدين جزء من الثقافة أم الثقافة جزء من الدين، لأن هذا ليس هو محور حديثنا، بل محور الحديث هو أن ثقافة الشعوب هي مفتاح تقدمها أو معضلة تخلفها. وحين تكون هناك نازلة تعصف بالمجتمع، أو تخلف يضرب بأطنابه، فإن منشأه لا شك هو ثقافة المجتمع.
مشكلة من المشاكل العدة التي تتجاذب الثقافة في مجتمنا هي ما نستطيع تسميته بالـ "الانبعاج" الثقافي، وحتى تتضح الفكرة- ونأمل ألا يأخذ المثال بعدًا أكبر من المقال ذاته- إن مايحدث في إيران "الجارة" يمكن قراءته من عدة زوايا، ولكن ظاهرة الانبعاج الثفافي تتمثل في تلك النظرة الشامتة، التي تطرب لصوت الفوضى، ومرجع هذه الشماتة هو الخلاف العقدي أو الديني مع هذه الدولة، ما يمكن قوله هنا أن القضية ليست بهذه السذاجة، ولا يمكن قراءتها هذه القراءة البسيطة بعيدا عن زواياها الأخرى السياسية والاقتصادية والأمنية، وتأثيرات هذه الأحداث على المنطقة المتاخمة لإيران. إن الاصرار على هذه القراءة الدينية فقط، هو "انبعاج" في التقكير وخلل في رؤية القضية.
"الانبعاج" الثقافي نستطيع تعريفه بأنه محاولة تضخيم جزء أوحد لقضية معينة، على حساب الضمور في الأجزاء الأخرى، ومحاولة صرف نظر المجتمع إلى هذا الجزء المتضخم، حتى لو لم يكن هو حجر الزاوية في القضية، والخطورة تكمن في ضمور الأجزاء الأخرى والتي قد تكون أولى وأهمّ بالنظر.
إن مثقفينا الأعزاء في كثير من قضايا مجتمعنا الكبيرة وحتى التافهة منها، يمارسون نوعا من الضغط على زوايا محددة متناسين أو متجاهلين الزوايا الأخرى، وهذا يؤدي الى خلافات دائمة ورؤى متضادة، وصراعات لا منتهية حول قضايا عدة.
إن عجز المثقف عن تقييم القضايا بشمولية، والنظر لها بـ "نظارات " متعددة، والالتفاف حول القضية من كل زواياها، يقود المجتمع إلى تخبط حيال مصير قضاياه، والأشد خطورة هو التعصب لهذة الجزء المتضخم "المنبعج" في ذات المثقف، وإصراره على أنه مربط فرس القضية وجماع أمرها.
وحتى لا نُتهم بأننا ندعو إلى طغيان الفوضى على التخصصية، فإن الشمولية التي نقصدها ليست التعمق في كل جزئية، واتقان كل فن، لأنه من المحال أن يكون المثقف عالما شرعيا وسياسيا واجتماعيا وغيرها، بل ما ننشده هو التخلي عن منطق "الحق المطلق" في تقييم القضايا، واعتبار وجهات النظر الأخرى، والإلمام بكل مؤثرات القضية بعيدا عن التشنج لزاوية الرؤية التي ينطلق منها هذا المثقف.
فهل يخرج مثقفونا من زاويتهم إلى زوايا أخرى ويخرجوا بالمجتمع معهم من الأحادية إلى التعددية، ومن المطلق إلى النسبي، كي تستمر الكرة بكرويتها التي تسمح لها بالتدحرج بسهولة على مسطح الحياة، وإلا فإننا سنتحول إلى كرة القدم الأمريكية....
زمهرير