الليبرالية السعودية ليس كمثلها ليبرالية *
-1-
ردود القراء التي فاقت سبعين رداً على مقالي السابق (عوائق تقدم الليبرالية السعودية) هنا في "الوطن"، كانت تثير أسئلة سبق وأجبنا عليها، ما عدا سؤالاً: ما هي الليبرالية؟ ولكنا أجبنا على سؤال ما هي الليبرالية السعودية، وكيف يمكن للإنسان أنا يكون مسلماً وليبرالياً في آن واحد كما قال المفكر السعودي إبراهيم البليهي؟
أما من طلب تعريفاً لليبرالية، فنقول له، لا تعريف عاماً لليبرالية، إلا إذا خصصنا السؤال، وقلنا ما هي الليبرالية الأمريكية، أو الفرنسية، أو الألمانية، أو المصرية، أو المغربية.. إلخ. كما يجب تخصيص الفترة، لأن الليبرالية كأي مفهوم إنساني، تتغير وتتبدل من فترة زمنية لأخرى. فما نعتقد اليوم بأنه قيمة ليبرالية، ربما لن يصبح كذلك، بعد قرن أو قرنين من الزمان.
إن كل ليبرالية تأخذ مواد تكوينها الأولية من الوطن الذي تنبت فيه. لذا، فإن من يهاجم الليبرالية، ويرميها بأقذع الأوصاف، هو كمن يحارب طواحين الهواء، أو يحارب أشباحاً لا وجود لها، وهو لا شك مخطئ علمياً. فليست هناك ليبرالية سيئة وليبرالية جيدة، أو ليبرالية مؤمنة بدين وليبرالية كافرة بدين آخر. ونحن في الشرق العربي، ننظر إلى ليبرالية الغرب نظرة توجس وحذر وخوف. فلماذا كل هذا؟ إن الليبرالية الغربية للغرب، وليست لنا. والغرب لم ولن يُجيّش الجيوش لكي يفرض علينا ليبراليته.
-2-
نحن متفقون إذن، على أن الليبرالية السعودية، التي يصورها الآخرون بُعبعاً أو جنيّاً حيناً، وشيطاناً رجيماً حيناً آخر، ويخيفون بها الآخرين، حين يُسقطون مبادئ وأفكار وسلوكيات الليبرالية الغربية عليها، ليست هي كذلك. فكل مجتمع ينبت ليبراليته الخاصة به.
إذن، فالمجتمع هو الذي ينتج ليبراليته، ذات المواصفات الخاصة. فالليبرالية ليست لباساً جاهزاً، وإنما - لكي تليق - لا بُدَّ من تفصيلها وخياطتها عند خياط محلي، وهو هنا المجتمع.
لقد استطاع الفيلسوف الألماني تيودور فون أدرنو (1903-1969 ) وهو من مؤسسي "مدرسة فرانكفورت النقدية" الشهيرة، وعالم الجمال المميز، في كتابه "محاضرات في علم الاجتماع"، أن يبسط لنا ما هو المجتمع، وتعريفه للمجتمع متميز عن تعاريف كثيرة كُتبت في هذا الشأن. والجديد في تعريف أدرنو قوله، إنه لا يملك تعريفاً للمجتمع، لأنه لا يوجد تعريف معين للمجتمع! فهناك أنماط مختلفة من المجتمعات، وبذلك لا يمكن إخضاعها كلها للتصوّر نفسه، بل لا يجوز وضعها جميعاً ضمن النسق نفسه. وكلام أدرنو هذا صحيح.
فالبحرين لا تبعد عن السعودية إلا بعشرين أو ثلاثين كلم، ورغم هذا نجد اختلافاً في نوعية وقيم المجتمع هنا وهناك. بل إن هناك فروقات في السعودية نفسها بين مجتمعات الأطراف والأرياف والمجتمع المركزي في الرياض وجدة والدمام مثلاً. بل نجد أيضاً فروقات بين مجتمع جدة ومجتمع الرياض. وقد لعبت عوامل كثيرة في فرادة كل مجتمع عن الآخر. وهذا ينطبق كذلك على الليبرالية. ومن يهاجم أو يخالف بقسوة الليبرالية الأمريكية مثلاً، ويخشى من تطبيقها على مجتمع آخر، مخطئ خطأً كبيراً، لأنه لا داع للهجوم عليها بقصد صدها أو نفيها. فعدم ملاءمتها إلا للشروط التي نبتت فيها، كافٍ للاحتفاظ بها في مكان نشأتها فقط.
-3-
لهذه الأسباب كلها، تعمّدنا في سلسلة مقالاتنا عن الليبرالية السعودية، ألا نربطها بأية ليبرالية أخرى، شرقية كانت أم غربية. وحاولنا بقدر الإمكان، استنباط خصائص هذه الليبرالية من المجتمع الذي نبتت فيه. وفي كل مقال، تعمّدنا أن نشير إلى الليبرالية على أنها هنا "سعودية"، ونكرر صفتها السعودية. وكان ذلك إدراكاً منا، أن النظام الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والثقافي الأصيل، هو ما ينبُت في أرضه، ولا يُقتلع ويُزرع في مكان آخر. ولعل مثال الاتحاد السوفيتي، الذي قدمناه قبل قليل، خير شاهد على ذلك، بل ونضيف عليه، مثالاً قريباً في العالم العربي، وهي الاشتراكية الناصرية، التي انهارت واختفت بعد رحيل عبد الناصر. وعاد النظام الاقتصادي والاجتماعي المصري إلى ما كان عليه قبل 1952. وكانت اشتراكية عبد الناصر الترقيعية التي فُرضت فرضاً، ولم تُنبت إنباتا، زوبعة في الفنجان المصري، وسحابة صيف عابرة.
-4-
إن الإخوة الذين طالبوني في ردودهم، أن أعرّف لهم الليبرالية السعودية، يمكنهم العودة إلى مقالاتي السابقة هنا في "الوطن"، ومنها: "الليبرالية السعودية بين الخفاء والتجلّي"، و "الليبرالية السعودية ما لها وما عليها"، و "هل لليبرالية السعودية فضائل وإيجابيات؟" وسوف نكشف في مقالات قادمة عن جوانب أخرى من الليبرالية السعودية، ونضيء ما يلزم إضاءته.
وكان يمكن أن نأتي بتعريف تنظيري، من كلمات أو من سطر أو سطرين لليبرالية السعودية، وهو مفيد للمتعجل، ولكن آثرنا أن يكون تعريفنا نابعاً من داخل الليبرالية السعودية وليس من خارجها، أو من فوقها. فأية قراءة للتاريخ من خارجه أو من فوقه غير مفيدة. ولعل استعراضنا القادم لأفكار وخطابات بعض الليبراليين العقلانيين السعوديين، سوف يكشف لنا عن أبعاد ومكونات الليبرالية السعودية، التي لا تصلح لكي تُطبَّق بأكملها على مجتمع أي بلد عربي أو إسلامي، إلا إذا كان هذا المجتمع له من الفرادة والتميّز، ما للمجتمع السعودي.