الفصل الأخير ..
في غرفة واسعة من غرف مستشفى مشهور بمدينة الرياض , احتلت نافذة ضخمة مساحة واسعة في جدارها , تسلل من خلالها ضوء الشمس برقة , يرسم على وجه الغرفة ملامح النهار , ويضيئها بنور هادئ لطيف , كلن الصمت يلف المكان عدا هدير الآلات , وفي وسط الغرفة , استقر سرير كبير تحيط به الأجهزة من كل مكان , رقدت فيه طفلة جميلة , انسدلت خصلات شعرها الناعم على جبينها الأبيض , مما منحها منظرا ملائكيا رقيقا , وعلى كرسي بجانب السرير , جلست امرأة غلف الحزن وجهها , وهي ترمق الطفلة بعينين ذابلتين من كثرة البكاء , وهي تسأ بلهفة الطبيبة التي انهمكت في قياس الوظائف الحيوية للطفلة :
ـ هل هناك أمل يا دكتورة في أن تعود إلى وعيها ؟
ـ بالتأكيد , لا تحاولي ولو لمرة واحدة أن تفقدي الأمل يا عزيزتي , فبإذن الله ستعود طفلتك إليك .
خرجت الطبيبة من الغرفة بهدوء بعد أن لمست بلطف كتف الأم , ومنحتها نظرات مطمئنة , وبقيت الأم لوحدها ترمق ابنتها وفلذة كبدها وهي تقبع تحت الأجهزة بعينين تحملان كل حنان وعطف ... وحزن , أمسكت بكف صغيرتها , وهي تتوسل إلى خالقها بأن يعيدها إلى الحياة , وأن لا يطفئ شمعة الأمل التي أضاءت في حياتها .
بهدوء تناهى إلى صوت الأم طرقات خفيفة على الباب , فالتفتت نحوه لترى القادم , وهي تنادي من بين دموعها :
ـ تفضل .
أطلت من خلف الباب امرأة أخرى , وعندما كشفت وجهها كانت هناك لوحة أخرى للحزن ترسم خطوطها عليها , وتزيدها من عمرها سنوات عديدة , مدت يدها اليمنى لتسلم على الأم , ووضعت الأخرى وراء ظهرها , وعرفت باسمها قائلة :
ـ أنا ( نوال ) ... لقد أتيت للمستشفى لإجراء فحوصات الحمل , وأحببت أن أرى ابنتك , فلقد كان زوجي معها , طيلة فترة اختفاءهما , ولكنه الآن ....
لم تستطع ( نوال ) أن تكمل كلامها فلقد احتبست الدموع بعينيها , وألجمت الغصة لسانها , فأجهشت ببكاء مكتوم , وهي تحاول إخفاء وجهها بكفيها , فاقتربت منها الأم , وأمسكت بيدها , ومن وراء دموعها قالت لها :
ـ لا تبك يا عزيزتي , فزوجك رحمه الله , كان هو السبب بعد الله في إنقاذ هؤلاء الأطفال , ولن يضيع الله أجر مثل هذا العمل ...
وبينما مضت الأم تذكرها برحمة الله , وحسن تدبيره وقضائه , كانت الممرضة في غرفة المراقبة تنظر إلى الأجهزة التي أمامها وهي تدون ملاحظتها , انتبهت إلى مصباح صغير أضاء يدل على استعادة المريض في غرفة رقم ( 7 ) نشاطها الدماغي , فالتقطت سماعة الهاتف , وهمست فيها :
ـ الطفلة في الغرفة ( 7 ) استعادت وعيها .
وفي ذات الغرفة كانت الأم تشد على يد ( نوال ) وهي تذكر لها ما عمله زوجها للأطفال كما سمعته من ( أحمد ودعاء ) , وعندما عم الصمت المكان مرة أخرى , تناهى إلى صوت الأم صوت تنهيدة قادمة من أعماق سحيقة , جعلت من قلبها يرتجف بين أضلاعها , ويزيد من فوران الدم في عروقها , وهي تلتفت إلى ابنتها وفلذة كبدها , التي كانت تبذل تجاهد لكي تفتح عينيها الواسعتين , بدا أن الطفلة كانت تبذل مجهودا شاقا لتتمكن من فعل ذلك , وعندما تمكنت من ذلك , لم تكن الرؤية أمامها واضحة , فلو تكن ترى سوى خيال امرأتين , كانت الأولى تهتف باسمها , وهي تسمع الصوت يأتي من أعماق سحيقة , تبينت فيها اسمها , تبينت فيه :
ـ ( شهد ) ...
دخلت الطبيبة الغرفة على عجل , وأسرعت نحو السرير , وأمسكت الأم التي كانت منكبة على لبنتها تقبل كل شبر وجهها , وأبعدتها بحركة سريعة , وعندما اصطدمت بعيني الأم المستنكرتين قالت لها :
ـ إن طفلتك بحاجة إلى أكثر مما هي في حاجة إليك , لذا أرجوك دعيني أقوم بعملي .
ودون أن تنتظر استجابة من الأم , مضت الطبيبة تؤدي عملها بدقة واحتراف ينم عن خبرة عريقة في هذا المجال , كانت ( شهد ) غير واعية لما يحدث حولها , ولا تشعر إلا بيد الطبيبة تحركها , وبضوء مصباحها يهيج عينيها , وعندما بدأت الرؤية تتضح شيئا فشيئا , استطاعت ( شهد ) أن تميز ملامح والدتها الرائعة , وترى الدموع التي وجدت طريقها على وجهها الخال من الأصباغ , حاولت ( شهد ) النهوض من سريرها وفرد ذراعيها الصغيرتين لتحضن والدتها , فلم تستطع , فربتت الطبيبة على يدها قائلة :
ـ لا بأس يا صغيرتي , إنها أيام معدودة حتى تعاود عضلاتك نشاطها , لا بأس .
اقتربت أمها منها , وجلست بجانبها على السرير , وأمسكت كفيها بكل حب , وهي تقبل ما بين عينيها , وتهمس في أذنها :
ـ الحمد لله على السلامة يا حبيبتي .
نظرت إليها ( شهد ) وفي عينيها بحر من الحب والشوق لوالدتها , يغني عن كل الكلمات , ثم أدارت نظرها نحو المرأة الأخرى , فقالت والدتها :
ـ هذه ( نوال ) زوجة ( عبدالله ) .
ثم ألقت بنظرة نحو ( نوال ) بأنه ما زال الوقت مبكرا لكي تعرف ( شهد ) بمصير ( عبدالله ) فهزت ( نوال ) رأسها موافقة , واقتربت من ( شهد ) وقالت وهي تطبع قبلة حانية على جبينها :
ـ حدثني ( عبدالله ) عنك , زكم كنت شقية , وأراد المجيء معي لكنه اضطر للسفر .
ورسمت على شفتيه ابتسامة باهتة , وهي تجلس بجانبها على الطرف الآخر من السرير .
توجهت الطبيبة إلى باب الغرفة , وقبل أن تغلقه , ألقت نظرة إلى شهد التي نجحت في أن ترسم ابتسامة على شفتيها , وهي تنظر بحب إلى أمها وإلى ( نوال ) التي تكور بطنها , ورسمت هي الأخرى ابتسامة على وجهها , وهي تعرف أن ضوء الأمل لاح في الأفق , وانجلت بظهوره ظلمة اليأس ...
وبكل هدوء ,
أغلقت الباب .
............ انتهت الرواية ........ تحياتي .