المجتمع الذي يعيش ويتيقن بسلامة مسيرة, ويستشرف نجاح مصيره, فإنه _بلاشك_ يبلور كل الوسائل في تحقيق هذه الغاية المنشودة, سواء كانت دينية أو دنيوية, أوتخص الفرد أو المجتمع. ومن أهم مايسعى فيه البحث عن كل مايوثق العلاقات بين أفراد المجتمع ومؤسساته, ومايربطه بالمجتمعات الأخرى, ونبذ كل مايوهنها ويمزقها, وتشريع النظم والقوانين التي تعزز هذا الجانب, وتضبط سيرها بالمتابعة والعقوبات. ولعل متأملاً يرى حال أمم لايربطها صلة ببعضها لامن حيث اللغة ولامن حيث الدِّين, ولكنهم يخلقون تحالفات وتكتلات تحت مظلات عدة, منها الثقافية والاقتصادية والسياسية, وكل ذلك من أجل حفظ كيانهم, وضمان مصادر رزقهم, والأمان على أنفسهم وأعراضهم وأموالهم؛ ولذا تجد هذه المجتمعات تمر بها الأزمات ولاتضرها ضرراً بالغاً, فلديها من الثقافة والنظم ما يساعد على بقائها واستمرارها .
ولننظر إلى حالنا من قاع الهرم إلى رأسه, ولنتأمل ماهي رؤية الفرد للحياة؟ وماهي مصلحته الخاصة والعامة؟ وماهي رؤيته إلى كونه فرداً في هذا المجتمع؟ وماهي المسؤوليات التي يستشعرها تجاه المحافظة على هذا الكيان؟
إنَّ جولة واحدة بين فئات المجتمع, من الأسر, والقطاعات الحكومية والشركات, والأماكن العامة, والمنتديات والفضائيات, ستظهر لك أقواماً ضاقت نفوسهم وحنقت, حتى أصبحت قابلة للاشتعال مع أول ثقاب للاختلاف. تأمل كيف يتحاور المثقفون وطلبة العلم حول قضية فقهية أو فكرية, يحتدم الخلاف, وتتسع دائرته حتى يطول الأشخاص, وكل يتترس في قلعته, ويرجم الآخرين بكل نقيصة واحتقار, وينقسم النَّاس إلى فريقين بين مؤيدين ومعارضين, ويُقترف في هذا الشأن أخطاءٌ كثيرة, تهدم معاني الإخوة وثقافة الخلاف, وتمزق أواصر المجتمع, وتخلق روح العداوة, وتوغر الصدور بدون أي سبب يذكر, ومانشأت كثير من الأحزاب والجماعات إلا بسبب هذه الأخلاقيات التي تقدس حبَّ الذات .
ولنتأمل مايحصل في المجالس والمدرجات والمنتديات حول الإرهاب الرياضي, الذي أصبح الولاء والبراء فيه لفئات كثيرة من الناس, وأصبحت قيمة الفرد بحسب انتمائه لنادٍ معين, ولعل مايحصل من تصريحات المسؤولين الرياضيين _حتى رأس الهرم_ تدل على تردي الحال الذي وصلت إليه أخلاقيات المجتمع في التعامل فيما بينهم, فلاقيمة لإنسان عندهم كونه إنسان, بل القيمة لما هو عليه من أهوائهم ورغباتهم, لقد اكتض المجتمع الرياضي بكل شحناء حتى وصلت لروح الاقتتال والعداء الصريح, قال تعالى { ... وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ }القصص50.
ثم لننظر إلى ما أججته القنوات الشعبية من نعرات قبلية, من خلال ماتقدمه من برامج سواء محاورات شعرية أو أمسيات, أو نقل مهرجانات المزايين, فتظهر منها أصوات نشاز, تمجد القبيلة وتعلي من شأنها حتى على حساب الوطن والدين وكرامة الإنسان, وكأنَّها الفصل والحكم, فتنشأ أجيالٌ على تمجيد وتقديس ماتنتسب إليه, واحتقار الآخرين وماهم عليه من حال من حيث نسبهم وأعمالهم, ولقد نشأ من هذا مشاجرات وصلت إلى الجروح الخطيرة والموت . قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ }الحجرات11. وعن أبي بن كعب قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : مَن تَعَزّى بعزاء الجاهلية فأعِضّوه ولا تَكْنُوا, قال شيخ الإسلام ابن تيمية : وَكُلُّ مَا خَرَجَ عَنْ دَعْوَةِ الإِسْلامِ وَالْقُرْآنِ : مِنْ نَسَبٍ أَوْ بَلَدٍ أَوْ جِنْسٍ أَوْ مَذْهَبٍ أَوْ طَرِيقَةٍ ؛ فَهُوَ مِنْ عَزَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ . .
ولننتقل إلى مشهد آخر وربما هو أخطر مشهد نراه في المجتمع وهو كيف تتعامل الأسرة وتتفاهم وتتحاور وتتواصل, سنجد الشكاية تبدأ من الوالدين تجاه مايجدونه من أبنائهم من أذى وعقوق وكلام بذيء, واختصام الزوجين على كل كبيرة وصغيرة, ولايكاد يخلو سائراليوم من تشاجر الأبناء, وبين هذه الأسرة وبين جيرانها وأرحامها من العداء ما يصل لحد القطيعة لمدة أعوام, حتى ينشأ أبناؤهم ويشبون على خلق العداء لكل من له حق الجيرة والقربى . قال تعالى {وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً }النساء36.
ولك أن تنظر لعلاقة الموظفين في الدوائر الحكومية والشركات و المدارس, ستجدها تحوي صوراً مختزلة مما يجري في المجتمع من حولها, ولعل الشللية, والغيبة والنميمة, والتنافس غير الشريف, والاختلاس والرشوة, والظلم في تعامل المسؤول مع موظفيه, يكاد يبرز كطابع في هذه الأماكن قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ }الحجرات12.
ولك أن تنظر كيف يتعامل البائع والمشتري, وحال السائقين عندما تضيق بأحدهم الطريق, وطوابير الانتظار عند الأماكن العامة, سترى فيهم حب الذات وكره الخير للآخرين, وعدم التسامح, والاختصام مع أول خلاف, واحتقار العاملين والباعة وازدرائهم, قال عليه الصلاة والسلام : (دب إليكم داء الأمم الحسد والبغضاء هي الحالقة لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا أفلا أنبئكم بما يثبت ذاكم لكم أفشوا السلام بينكم)
ليت شعري ماذا نرجو من هذه الحال؟ ثم أين هي من ديننا العظيم؟ الذي أتى لتعزيز كل رابطة كريمة وحث عليها, وبين فضلها وأجرها, ونبذ كل عمل يفضي للنزاع والشحناء والبغضاء, وبين ضرره وعقوبته في الدنيا والآخرة . وفي المقابل نتسابق لإرضاء الآخر, وتلميع صورتنا لديه, بأننا متسامحون ونقبل بالطرف الآخر, سواء كان مبتدعاً أو فاسقاً, أو يهودياً أو نصرنياً أو مجوسياً, ونبذل الأموال الطائلة في مؤتمرات التقارب بين المذاهب والأديان, ويصحب ذلك تنازل عن ثوابت كثيرة, وسكوت عن شعائر من شعائر الدين حتى لاينفر من الآخرين الذين لاخلاق لهم, فلم تعد تسمع الحديث عن الجهاد, ولاعن الولاء والبراء, ولاعن أحاكم التكفير, قال تعالى {هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ }آل عمران119
أخرج أبونعيم من حديث حذيفة بن اليمان قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من اقتراب الساعة اثنتان و سبعون خصلة إذا رأيتم الناس أماتوا الصلاة, و أضاعو الأمانة, و أكلوا الربا, و استحلوا الكذب, و استخفوا بالدماء, و استعلوا البناء, و باعوا الدين بالدنيا, و تقطعت الارحام, و يكون الحكم ضعفاً, والكذب صدقاً, و الحرير لباساً, وظهر الجور, وكثرالطلاق وموت الفجأة, و ائتمن الخائن, وخون الأمين, و صُدق الكاذب, و كُذب الصادق, و كثُر القذف, و كان المطر قيظاً, والولد غيظاً, و فاض اللئام فيضاً , و غاض الكرام غيضاً, و كان الأمراء فجرة والوزراء كَذبة, و الأمناء خونه, و العرفاء ظلمة, و القراء فسقة , إذا لبسوا مسوح الضأن, قلوبهم أنتن من الجيفة و أمَّر من الصبر يغشيهم الله فتنة الله فتنة يتهاوكون فيها تهاوك اليهود الظلمة و تظهر الصفراء يعنى الدنانير و تطلب البيضاء يعنى الدراهم, و تكثر الخطايا, و تغل الامراء, و حُليت المصاحف, و صُورت المساجد, و طولت المنابر, و خربت القلوب, و شُربت الخمور, و عُطلت الحدود , و ولدت الأمة ربتها, و ترى الحفاة العراة قد صاروا ملوكاً, و شاركت المرأة زوجها فى التجارة, و تشَّبه الرجال بالنساء و النساء بالرجال, و حُلف بالله, و شهد المرء من غير أن يستشهد, و سُلم للعرفة, و تُفقه لغير الدين, وطُلبت الدنيا بعمل الآخرة, وأتخذ المغنم دولاً, و الأمانة مغنماً, و الزكاة مغرماً, و كان زعيم القوم أرذلهم, و عقَّ الرجل أباه, و جفا أمه, و بر صديقه, و أطاع زوجته , و علت أصوات الفسقة فى المساجد, واتُخذت القينات والمعازف, و شُربت الخمور فى الطرق, و اتُخذ الظلم فخراً, و بيع الحكم, وكثُر الشرط , و اتُخذ القرآن مزامير , و جلود السباع صفاقاً, و المساجد طرقأً, و لعن هذه الأمة أولها فليرتقبوا عند ذلك ريحاً حمراء و خسفاً و مسخاً و قذفاً و آيات ".
يقول الخليل بن أحمد الفراهيدي في كتاب العين : قولهم: ما زِلنا بالهياط والمِياط: الهِياطُ: المُزاوَلةُ، والمِياطُ: المَيْلُ. ويُقال أماط الله عنك الأَذَى، أي: نحّاه ويقال: أرادوا بالهِياطِ الجَلَبة والصَّخَب، وبالمياط التَّباعُدُ والتَّنَحِّي والميل.
ويقول ابن سيده في كتاب المحكم والمحيط : ما زال منذ اليوم يَهِيط هَيْطاً، وما زال في هَيْطٍ ومَيْطٍ، وهِياطٍ ومِياطٍ، أي في ضجاج وشر وجلبة، وقيل: في هِياطٍ ومِياطٍ: في دنو وتباعد. وتَهايَطَ القوم: اجتمعوا وأصلحوا أمرهم، وتمايطوا: تباعدوا وفسد ما بينهم.
بقلم الشيخ الجليل (عائض القرني)