من (فحولة إلى حين)
تِهَامِي..
كان "حَمُود الخير" يُمسك بفأس، لنصلها وميض خاطف، وهو يقتعد قطعة خشب كبيرة داخل الأحراش، عاريًا وواضعًا ذَكَره على حجر صوان يلمع أمامه كسطح غَيْل ساكن، وذلك استعدادًا لعملية الختان، دون اكتراثه للمرحلة الأولى من هذه العملية، إذ يلزمه ابتداءًا إدخال بعرة بعير من خلال قَلَفَته دافعًا بها الحشفة إلى أقصى حدّ؛ لتحمي ذَكَره من أيّ خطأ محتمل؛ وليأتي النصل على كامل القَلَفَة دون سواها، إلاّ أنّه اكتفى بسبابته عوضًا عن البعرة، حيث غرس أصبعه للدّاخل، حاشرة حشفته إلى مَنبَت قضيبه، ثمّ عند الحدّ الفاصل بين ظفر أصبعه ورأس ذَكَره ضغط بنصل الفأس، وعندما اطمئن أنّه خلص إلى بغيته أخرج أصبعه؛ لتتمدّد القَلَفَة على الحجر كجزء من خرقة قماش بالية، وعليه أن يجزّها سريعًا، ثمّ يُكمل ختانه عندما يسلخ الجلد من عانته وحول ذَكَره، وساحالاً باطن فخذيه؛ محققًا بذلك عادة أجداده في الختان.
فيما هو في حالة تأهب سمع من خلال الأحراش، وبعيدًا عن نظره، لهاث رجل كأنّه يحمل سوءًا لا يعلمه، ولكنّه لن يردعه عمّا سيفعله شيء ـ كما قرر ـ، ولن ينهاه أحد عن إثبات رجولته وقدرته على القيام بهذا العمل العظيم، رغم العقاب الذي سنّوه لمن يقوم بختان نفسه. هذا ما عزّزه بداخله قائلاً لنفسه: (يقتلوني.. لكن ما يلمس واحد منهم رجولتي واَنا اَبْن عُصيْرَةْ).
لم يعر اهتمامًا لأنفاس ذلك الرجل المتلاشية من المكان، ولا ريب أنّه يُراقبه منذ دخوله الأحراش، وقد اطمأن إلى فكرة أنّه عين لوالده أو جدّته "صَادِقِيّةْ"، تلك العين التي لا تُغادره على الدوام. ثمّ أردف: (اَبْن عُصيْرَةْ)، متحدّيًا من يسمع ومن لا يسمع، هذا وهو يعود في فكرة الاطمئنان؛ لأنّ الرجل قد يكون شرًّا لا غير، لكنّ ذلك لن يُثنيه عن نيته المبيتة منذ أيام خلت، فهو ليس أقلّ شأنًا من سواه في وادي "اَلحُسَيْنِي".
(اَبْن عُصيْرَةْ) عبارة تُجمل كلّ أمجاد عشائره في وادي "اَلحُسَيْنِي"، وتحديدًا في قريته "عُصيْرَةْ"، عاصمة وداعية الوادي، التي لا يستنهضون في أرواحهم أُبوتها لهم إلاّ لأمر جلل لا يتراجعون عنه. وعندما صرخ بأنّه ابن لتلك القرية استحثّ من أعماقه مواقد الإقدام، وأشعل في شخصه فتيل الشجاعة؛ ليتدفق الدم إلى أعلى رأسه حاضًّا حماسه لإنهاء الأمر، ولم يتبدّد صمت الأحراش في تلك الظهيرة من صراخه بتلك العبارة، ولم تفرّ الطيور من بين الأغصان الكثيفة، إلاّ وقد رفعت يده الحجر الآخر وهوت به دون هوادة على رأس الفأس الذي نفذ نصله لملامسة الحجر الأملس، باترًا بذلك قَلَفَته التي قفزت بسهولة على التراب، وشخب الدمُ سريعًا مبهورًا بمخرجه.
وقع الفأس بمحاذاة الحجر المدمى، وهو يستبشر فخرًا بما فعل، لكنّه أدرك خطأً فادحًا ارتكبه، إذ تشكّلت الدماء من حوله بشكل مخيف لم يسبق له أن سمع بحالة مماثلة له!، تمعّن جيّدًا وشعر بوخز مريع، ثمّ وجد أنّه قد بخس حشفته تكوّرها البيضاويّ بمزّقٍ نال من طرفها الأيمن، وترك هذا المنظر الغريب في نفسه شيئًا من الرهبة، فعدل عن إكمال سلخ جلد عانته وباطن فخذيه، كما كان يجب عليه تحقيقًا لتمام العملية، وعدلاً لعادتهم في الختان. فكّر في والده الشيخ "عيسى الخير" الذي سيُعالج الأمر لا محالة، وبهل في التراب المعجون بالدماء حتّى وجد ضالته الضئيلة من الحشفة، وأسرع في تفقّد منافذ الأحراش وأيّ طريق سيكون سلكه آمنًا من أعين تتربص به لوشاية ما تدسّها بأذن أمير "صَبْيَاءْ"، فأعداء والده كُثر ولا بدّ أن تطهيره لنفسه سيكون نكاية بأبيه من قبلهم لدى الأمير الذي يُحذّر من اقتراف هذا الفعل وأن القصاص ممّن يرتكبه سيكون قاسيًا.
برغم وصوله خِفية إلى البيت إلاّ أنّ أعين الظلام في القرية لا يُمكن مغافلتها، هذا في تقدير أهله الذين من فورهم تيقنوا تمامًا للخطر المحدق، فأسرع والده في إخفاء ابنه عن الأنظار، ورتّب مع نفر من خاصّته تطبيب الجرح، ثمّ تدبّرت الأمّ مع الجارية "زَهْرَةْ" دفن الجزء المبتور من حشفة الصبيّ.
ركب الشيخ عند الظهر دابّته باتجاه "صَبْيَاءْ"، وتحديدًا نحو الأمير الذي استقبله برحابة يستحقها، مع أنّه فُوجئ بزيارته، فهو الذي كان يُرسل له أكثر من خطاب للتداول معه في أيّ أمر ذي صلة بوادي "اَلحُسَيْنِي" فلا يُجيبه مطلقًا، وكلّ ما يفعله الشيخ تجاه الدعوة الخطيّة هو وضعها تحت فراشه ويأمر جنود الأمير بالذهاب حاملين منه إلى أميرهم عبارة واحدة: (إذا كان هو بحاجتي فبيتي واسع)، ولا يأتيه في مجلسه إلاّ إذا نزل سوق "صَبْيَاءْ" يوم الثلاثاء وسمع به الأمير؛ فيُسارع هذا الأخير لمقابلته على مضض ويُلاطف عرش أنفته؛ حتّى يلين الشيخ لحيله فيعبر بدار الإمارة على عجل، فهو لم يكن يومًا ليذهب عنوة إلى مقرّ الإمارة، ولم يحمله على هذا العمل إلاّ أمرًا مستطيرًا ـ ربما هكذا تحدّث الأمير في نفسه حين رآه ـ.
بدأ الشيخ بتنفيذ أهمّ خطوة في خطّته للخلاص من العيون المتربصة به، حين دعا الأمير وصحبه لحضور "شُهْرَةْ" ابنه "حَمُود" عصر غد الذي سيكون إيذانًا ببداية ليالي التشهير بيوم ختانه، وأصرّ عليه في دعوته ليكون ضمن "المَطَالِيب" الذين يُدعون، وبشكل خاص، لهذه المناسبة الكبيرة، فاعتذر الأمير بحجّة انشغاله، وطلب من معاونه الأوّل الحضور نيابة عنه وبصحبته بعض عساكره، فأضمر الشيخ سعادته بهذه التلبية التي تمّت بالوكالة، لكنّه لم يُظهر فرحه بأيّ سلوك مبالغ فيه يكون من شأنه إيضاح بعض ممّا طواه في نفسه.