اَلهَرْبَةْ

(1)
خرجوا وكأنّ لا بلاد من بعدهم، لا رُضّع في المهد يلثغون لقلوبهم، ولا نساء يرتكبن الأمل في إثرهم، يقفن على سهوب غادروها، نساء تعيث ريح الصباح بمناديلهنّ وهي تُضارع بخفقها بيارق "عُكْفَة عُصيْرَةْ"، يُوقظن وحش الحماس في أرواح عصبة القرية، بأُهزوجة ترى أنّه لا يكاد رجال هذه العصبة أن ينهضوا لسماع "دُوْف" بنادق، حتّى يتناهى إليهم رحع ذلك الرصاص البعيد راكعًا من فوق المروج الهياّجة، وآخر طوافه على آذان وحش يسكنهم فيقدح مخالبه في أجسادهم؛ ليستنفروا على نداء تلك البنادق دون هوادة. كنّ يُنشدن بصوت عالٍ، وظافر بالفخر والعزّ، تلك الأهزوجة التي تُؤلب قلوب الرجال للحرب:

(قِِمتْ واسْمَعْ دُوْف غَاَبي
مِنْ عَلَى اَمْهَيْجَهْ رِكِيعُهْ)

قبل الشروق كان ناي الجيش يُلهب الأرواح في ميدان "قُنَيْدَةْ"، فإثره جرت في أزقة قرية "عُصيْرَةْ" جلبة لا تلوي على شيء أبدًا، إذ راحت الجموع تتقاطر إلى الميدان جارفين دمدماتهم الحارقة، والجباه تُقطّب في صمت مهول، ولا تقبض الأذن على كلمة واضحة ليلمس المستطلع من أمرهم شيئًا، ولا يجرؤ أحدهم أن يعلو صوته قبل أن يتقدّم الشيخ ليبدأ صباحهم ذا الشرّ المستطير.
أُشعلت الفوانيس في مداخل البيوت، والأمّهات الكبيرات يصرخن في أبناء القرية، كلّ واحدة تُضرم النار في قلب ابنها، وتُناديه في صراخ فاجع بأنّها لم تلده وتدّخر شجاعته إلاّ ليوم طويل كهذا، وأنّ الله لم يمدّ في عمرها إلاّ لتشهد بطولته في هذا اليوم تحديدًا. كان الرجال يمتثلون لنداء الحرب في حناجر الأمّهات؛ مستنشقين رائحة البارود في بنادقهم، ويعلمون أنّ هذا اليوم سيطول بالمشقّة البالغة، وفي قرارهم يرجون الشيخ أن يُعطيهم إشارة التحرّك، لكنّه بدلاً من إطلاقهم كشرر الرصاص في وجه الغرباء، نظر إليهم مليًّا وكأنّه يتفحّص عددهم وعتادهم، ثمّ علّق في خيبة أخزتهم جميعًا: (عُكْفَة عُصيْرَةْ ناقصة أربعين رجل!)، تلفت الجميع بتعجّب، فلا يُمكن أن يتخلّف أربعون رجلاً منهم، وعن استنفارهم هذا تحديدًا، دون أن يُلاحظوا ذلك، إلاّ أنّهم لم يُراجعوه فيما ذكر، وأسلموا لصمت كان يرغبه منهم وهو يستعرض صفوفهم، حتّى علت المكان رصاصة تعمّد مطلقها أن تشقّ سماء ميدانهم. من فوره، وببشاشة واضحة أعلن الشيخ أنّهم اكتملوا، وعندما حدّقوا في القادم، إذا هو "بِشَيبشْ" الذي تنقص عصبة "عُصيْرَةْ" بغيابه أربعين رجلاً.
كان "بِشَيبشْ" قد أوقد الشمس قبل وقتها، ذلك حينما جرّ "ولد بلال" من على قَعَادَة نومه فجرًا، وتحديدًا قبل غروب نجم "الزُهْرَةْ"؛ ليعزف بنايه العتيق لحن رقصة الجيش في الأزقة، ثمّ أشعل في أطراف القرية النيران، معلنًا حالة التأهب، واستنفر عددًا من الرجال؛ ليعدّوا عُدّة النزوح بالعجزة من وادي "اَلحُسَيْنِي" مع النساء والصغار، وكأنّ ساعة الصفر تُنذر بالحلول، وانطلق إلى تُخوم القرية من الشمال يتحسس أمرًا كان يُخفيه منذ أيام، وهو الآن يضع قومه وشيخهم أمام شرّ لا قاطع لدابره سوى مبادرة شرسة تكون من جانبهم.
لم تمض دقائق معدودة على تلك الرصاصة، حتّى انضمّ "بِشَيبشْ" إلى الرجال الماثلين أمام الشيخ "عيسى الخير" وهو يُذكّرهم بنبوءة والده الشريف "مِشَاري" التي رأت أنّ حاكمًا سيخرج من إحدى مدن "ص"، يعني "صَبْيَاءْ" أو "صَعْدَةْ" أو "صَنْعَاء". وقد تحققت تلك النبوءة في رجل خرج من العامّة هو "الأَدريسي" الذي كان، في يوم قديم، حاضرًا سوق "صَبْيَاءْ" حين خرجت على الناس امرأة تستغيثهم أن يدفعوا عنها ضيمًا لحقها من ثلاثة رجال جرّدوها من مالها، فاستلّ "الأَدريسي" سيفه ونادى في الجميع مقسمًا أن يقتصّ من المعتدين الثلاثة بجزّ رؤوسهم، ولا رجوع في ذلك؛ قصاصًا للمرأة وإقامة للعدل، ومن تلك الساعة اجتمع الناس له على قلب واحد، فصار له شأن عظيم من قوامة وخير؛ ليكون حاكم "المِخْلاَف" الأوّل بلا منازع، حتّى غربت شمسه بعد سنوات طويلة من اليد الواحدة بلواء واحد في كافّة المنطقة.
كان الشيخ يتساءل عن أيّ نبوءة، هو لا يعرفها، وتتحدّث عن هؤلاء القادمين من الشمال، فلم يردّ عليه أحد، ولم يسمع تعليقًا واحدًا، عدا الأمّ "صَادِقِيّةْ" التي بدأت صباحهم باستصراخ رجال خلَوْا، تُناديهم بأسمائهم واحدًا واحدًا؛ لتشرخ غيّ رجال القرية في ذلك الصباح، فتردّهم إلى صواب تراهم يحيدون عن جادّته. وغدت تتبع صوت ابنها الشيخ، بمساعدة جاريتها "زَهْرَةْ"، حتّى تمكّنت منه، فشدّت شعر ذقنه إلى الأسفل، ليتهادى مع حركتها إلى أن خرّ على ركبتيه أمامها، وهي تصرخ فيه: (يا عيسى.. عُصيْرَةْ صاحبة عهد وميثاق.. فلا تذلّ بلادك بحرب ما لها ذكر في أيّ كتاب عندي...)، وكان يُلصق جسده بها؛ وهي تنخرط في صراخ أيقظ ما تبقى من القرية، ورجاله يصطّفون في خشوع تامّ، ولا يرون في امتثال شيخهم أمام أمّه إلاّ صلاة خالصة تسبق هذا اليوم الطويل. كان الشيخ يشدّ جسد أمّه إليه صامتًا وهي تقبض على ذقنه وتُنادي في سادة الوادي الراحلين، فلا يُجيبها أحد، فتُناشد في عصبة "عُصيْرَةْ" الواقفين أن يطرحوا بنادقهم جوار آنية نسائهم في البيوت، ولا يميلون إلى هوى ابنها "عيسى" في حرب لا أساس لها البتّة، حرب لم ترد في كتاب علمها الذي لا يطّلع عليه أحد، وتستصرخ فيهم أرواح آبائهم الأولين.
كانت تُدرك عظيم إجلالهم لها، لكنّ عصمة دمائهم الحارّة في لحظتهم تلك مقبوضة إلى ابنها الخارج عن طوعها هذه المرّة، ولا يُمكن أن يُبدّل في رأيه هذا، فهو قد استهلّ اجتماعهم بنبوءة الشريف "مِشَاري" التي كانت مسوغًا لقيام إمارة "الأَدَارِسَةْ" في زمن خلا، وما كان لرجل في الناحية أن يكون سائس حكم إلاّ بموافقة عصبة "عُصيْرَةْ"، مثيرًا بذلك السؤال عن هذا الزمن الذي ينسلّ من بين أيديهم، فلا يكون لهم؟، وكيف سيُصبحون على مقاليد بلادهم مسلوبة بيد أغراب لا مكان لهم هنا بتاتًا؟!. وهذه الأسئلة جعلها حبيسة القوى عن فعل شيء يُوقف ابنها عمّا قرره مع الرجال الذين تراصت أعضادهم باتجاه الغرب حيث يُلاقون "قوم الذُّلُول" فيكسرون شوكة غاياتهم ويردعون مطامعهم في النيل من ترابهم.
كانت الأمّ قد أرخت قبضتها عن ذقن ابنها قبل أن يُقرّبوا الناقة "مِسْلِيَهْ" ويحملونها فوقها، وتسمع الشيخ يُوصي ابنه "حَمُود" أن يُثبت رجولته في الحفاظ على جدّته وإيصالها مع الأطفال وعجزة العشائر إلى تُخوم جبال "ساق الغراب" من الناحية الشرقيّة لواديهم، وألاّ يخذله ويتعقّب الرجال فيما مضوا فيه غربًا، ثمّ انضمّ الشيخ لإحدى فرق القتال، بعد أن وزّع مهمّات حربيّة مساندة على بعض النساء.