(3)
(اللّي يُشلّ بندق أو حتّى شفرة ويدخل بلادنا ما يشا اِلاّ الموت يا لنا يا له)، هذا ما أعلنه شيخ الشمل "عيسى الخير" عن حاملي الأسلحة وداخلي بلادهم، الذين لا يقصدون غير الموت لهم أو لمن يلقونه وهم في طريقهم إلى كلّ بلاد يدخلونها عنوة.

قال ذلك قبل أن يُسرّح الجميع للشرق عدا الرجال الموقدين بشهوة القتال، والتفّوا حوله يرصّون العزم لنجدة ترابهم من القادمين، فاستبقوا إلى طريق الساحل مشكّلين خط المواجهة الأوّل مع "قوم الذُّلُول"، والبعض انتشر في مداخل القرى على وادي "اَلحُسَيْنِي"، وداخل الجروف من الناحية الغربيّة، وحمل بعض النساء البنادق والسكاكين واقتعدن أحراش "الأراك" و"الأثل" المنتشرة شرقًا، فيما الصبيان حملوا ما استطاعوا من مؤن العشائر، بصحبة الأطفال والماشية والعجزة، قاصدين ناحية "الحِبَاطَةْ"؛ من الجهة الشرقيّة حيث تتسع منحدرات جبال "ساق الغراب"، لتكون ملاذهم إلى أن يكشف الله عنهم هذا الضرّ، وتنفيذًا لأمر الشيخ في نهاية توجيهاته لهم، وقد أطلعته أعين سرّه على أنّ القرى الواقعة شمالهم وتسبقهم في مقابلة تلك القوافل لم يمسسها سوء، إلاّ أنّه فضّل المرابطة في حصونهم؛ ينتظرون هذا الغيب ليروا من أمره شيئًا.
انقضى يومان وهم على حالتهم لا يتحرّكون من مواقعهم، بعد أن اطمأنوا على الأهالي في مقامهم الجديد، وبعض النساء يتناوبن على بعض الثغور لإحكام حراستها فيما أُخريات يُشكّلن همزة وصل مع النازحين إلى "الحِبَاطَةْ" والتأكّد من سلامة مقام الأهالي، إضافة لجلب الماء والغذاء من أماكن متفرّقة للرجال المرابطين.
عند بداية اليوم الثالث وصلت تلك القوافل فجرًا إلى حدود وادي "اَلحُسَيْنِي" الغربيّة، بعد أن انضمت فرقة الخطّ الأوّل لبقية العصبة المرابطة، ولم تكن هناك ظروف مواتية لإحلال التفاوض بديلاً لحرب قُررت سلفًا، فأُطلقت أوّل رصاصة على أوّل القادمين من بندقيّة "بِشَيبشْ" بحكم تمركزه وحيدًا في طريقهم، إذ كان يتحصّن في خندق أقامه بالشقّ الأسفل، حيث الجهة الغربيّة للقرية، فرُفعت أوزار الحرب سريعًا، وكان رجال القافلة لا يتوقفون عن اللعن والسخط، وكأنّهم يحذرون من مغبة مجاراة أهل هذه البلاد، وقد تخلّف قائد الحملة العسكريّة عن خطّ المواجهة، كأنمّا يُمعن في قراءة طبيعة هذه الدمنة التي تنام منذ مئات السنين على تلعة كبيرة ومن تحتها الوادي والمزارع ولا يرى بها قاطنين وقت وصولهم إليها، وشعر فيما بعد أنّه قد يقع ورجاله في مصيدة لا فكاك منها، فهذه البلاد تُحيط بها أحراش ومتاريس حجريّة ممتدة حتّى جذور الجبال من الجهة الشرقيّة، ولا يُمكن التأكّد من قدرات أهلها الذين يجهل بالمطلق عددهم وعتادهم في القتال.
لم يُقرر القائد إيقاف إطلاق النار من طرفه إلاّ بعد إدراكه أنّ الخسارة ستكون أوسع من المتوقع فيما لو استمرت المواجهة، ممّا أثار فيه الرعب، فما شاهده من نيران لا تتوقف قد تحرق أخضرهم قبل يابسهم، وكان يُكرر لمستشاريه وجنوده: (في ذَا هَمَجْ ما يعرفوا حَسَنة مجيئنا...).
واستغرق في تفكيره حتّى تدبّر مع مستشاريه ورجل دليل أمرًا مفاده إرسال وفد صغير للتفاوض. إلاّ أنّه قبل تحرّك الوفد المعيّن تغيّر الوضع وبدأ القائد يتقهقر ويعود لمسار قافلته الأوّل نحو الجنوب بدلاً من التوغّل شرقًا إلى حيث لا يعلم بطبيعة الأرض في ذلك الاتجاه، إذ كانت نيران البنادق لا تتوقف، ولو تقدّموا لَحُصِدوا جميعهم، ويجهلون منافذ المكان الكثيرة، وقد اقتنع في قرارته أنّ هذه المواجهة ما كان لها أن تقع لو أنّ هناك قراءة جيّدة لطبيعة هذه الناحية من حيث ساكنيها وتضاريس بيئتها المجهولة تمامًا بالنسبة لهم كفاتحين حسب اعتقاده.
كان شيخ الشمل يُصرّ على مطاردتهم لمجابهتهم ودحرهم إلى شمالهم، أمّا كبار القوم فكانوا يُثنونه عن ذلك، وكأنّه يُحاربهم وحده ويصرخ في المكان بأعلى صوته: (والله هَاذولا عسكر اَمْسَعَاوِدَةْ.. اللّي يحاربون على ذُلُول.. والله هم.. لا تخلّوهم يُهجّون ميمن.. شَا يقاتلون في الشقّ اليماني.. حُدُّوهم.. خلُّوهم يرجعون لبلادهم الشامية.. لا يقتلون حلفنا في الشقّ اليماني..) ورجاله لا يُحركون ساكنًا مطلقًا!.
صرخ يُفتّش في وجوه رجاله عن ناصر له، وعمّن يردع الغزاة، الذين يخوضون حربهم على جمال بخلافهم حيث يُقاتلون راجلين، عن مواصلة سيرهم جنوبًا، وتحديدًا نحو وادي "ضَمَدْ" و"أبي عَرِيش" وما خلفهما من بلاد حتّى حدود اليمن الشمالية، لكنّ رجاله بقوا ربيبي صمتهم المفاجئ، فجميعهم لا يعرفون لهم حليفًا في الشقّ اليماني، إنهّم مكتملون، وبعضهم يُبرر ثورته بأنّ جمرة الحرب ربما سلبت لبّه، ولم يعد يُدرك ما يقوله، وما يُوافقونه عليه تمامًا هو أنّ هؤلاء القوم لا مكان لهم هنا، وما جرّ أرجلهم لهذه البلاد إلاّ "الأَدريسي" حاكم "المِخْلاَف" الأخير، وأن عليهم الرجوع شمالاً إلى بلادهم البعيدة.
أيقنوا أخيرًا وبعد تواري القافلة عن الأنظار، أنّ لا يد لهم في هذه الحرب، وأنهّم سيتدبرون الآن أمر عيشهم في جوانب الجبال، حتّى ينتهي أمر هذه القوافل، وحتمًا ـ في القريب العاجل أو في البعيد المنتظر ـ سيسمعون عن أفعالها في الجنوب والشمال.
بإيعاز وتصرّف حكيم من كبار العشائر، حملت أكتاف العبيد سرير الشيخ من مقرّ معسكرهم، بعد أن خرّ مغشيًّا عليه من شدّة غضبه عليهم كعصبة شهيرة، إذ خذلوا مناشدته لهم اللحاق بالغزاة الأغراب، وقِيدت دابّته محمّلة بالأسلحة والذخائر، ثمّ بوجه الهزيمة انطلقوا جميعًا مع بقية النساء المعاضدات إلى قربة أهاليهم الفارّين من قراهم، وقد خلفوا من بعدهم "بِشَيبشْ" عينًا استطلاعية وراصدة للمكان.