( 4 )

عندما استقروا في " الحِبَاطَةْ " نازحين , كانوا قد اختاروا منها مكانا يُسمّونه " اَلقَايمْ " , لإطلالته الشاهقة على الأودية من الجانبين وارتفاعه عن بقية الأرض الصّخرية المحيطة , فأُقيمت عليه بعض البيوت بسواعد النساء والأطفال من القشّ وجذوع السمر , ولم يصل الشيخ وبقية المحاربين إلاّ وكلّ أُسرة لها خدرها المشيّد , وفي المقدّمة أُقيم عريش كبير للشيخ , بأمر الأمّ ذات الفضل الأوّل في استقرارهم هناك , بعد عقد تفاهم مع أعيان تلك الناحية الذين رحّبوا بهم كما ينبغي لذوي المكانة والجاه العالي , وقد طمأنتهم أنّ الغزاة لا مكان لهم في ذاكرتها ولم يُنبئ أيّ كتاب من قبل بحرب كهذه , وأنّها قد نبّهت شيوخ القبائل وعلى رأسهم قائدهم ـ ابنها ـ إلى مغبّة خروجهم من قراها لكنّهم لم يعوا حدسها , وهي التي لم يُعص لها أمر من قبل هذا , لكنّ هذه المرّة غُلبت وشقّ عليها مخالفة إصرار الرجال وابنها على الخروج من واديهم .
في الليلة ذاتها التي لحقوا بأهاليهم كانت الأمّ تجتمع في خدرها الصغير بثلاث نساء من مساعداتها الخاصّات , ولم يكن مستغرباً أن تطرد الجميع بمن فيهم الشيخ العليل عن جوار ذاك الخدر الضاجّ بالصياح , كما أنه لم يتجرّأ أحد بالسؤال عن سبب الاضطراب الظاهر على وجهها من خلال عبارات الشتم والسباب لكلّ من شعرت باقترابه منها , أو من النساء الثلاث , ولو لمعرفة أسباب الصراخ المنبعث من حنجرة امرأة يُوجعها المخاض , وكانت جاريتها الخاصّة " زَهْرَةْ " تُنبّهها فوراً باقتراب أيّ شخص يستطلع الأمر .
وقد تضاربت الآراء حول اسم المرأة التي يصلهم صراخها وكأنها تسألهم غوثا لا تجده أبداً , كما تناقل النّاس فيما بعد أنّ هناك أكثر من امرأة تصرخ وتستنجد , وراح الجميع يفترضون ما استطاعوا , في محاولات مضنية لمعرفة سر تلك الليلة .
في الصباح كان يظهر على الأمّ جهد ما كان ليُصيبها ـ بحسب تقدير ابنها الشيخ ـ لو أنّها أسرّت إليه مسبقاً بدواعي ذلك الجهد , ولم يخطر بباله أن يستدرج إحدى النساء الثلاث اللاتي خرجن بصمت هلع , فهو لن يخرج منهنّ بشيء ما دامت الأمّ هي من تقود فريق القَبَالَة طوال الليل , وبين أيديهنّ امرأتان تضعان حمليهما في ليلة واحدة ـ كما علم فيما بعد ـ ففضّل الشيخ السكوت حتّى يحين الحديث كما ترغب هي , كما أنّه لم يكن بحال جيّدة للتدخّل في تلك الأمور المقدور على إنهائها من دونه , خاصّة وأنّها من شؤون النساء .
عصر ذلك اليوم وجّهتهم الأم بصلاة الميت على امرأتين وطفل واحد , ثلاث جنازات عناء الليل الفائت وكانت إحدى المتوفاتين زوجة " بِشَيبشْ " الغائب عنهم , أمّا المرأة الثانية فكانت مجهولة , وقد جُهّز الموتى في الخدر ذاته , ثمّ بأمر الأمّ دُفنت جثّة إحدى المرأتين جوار نُزل " اَلسّاحِلي " , والأخرى والطفل دُفنا خارج نطاق مقامهم , وحين هبط أوّل الليل كانت جارية الأمّ الخاصّة " زَهْرَةْ " تتسلل ناحية واديهم غرباً مخبّئة فيما حملته معها الحبل السّري للطفلة الباقية على قيّد الحياة , فيما كان رغاء " اَلبَارق " ـ جمل بِشَيبشْ ـ يعلو في سماء المكان فقداً على زوجة صاحبه , ممّا دعاهم إلى شدّ وثاقه إلى قائم قَعَادَة الأمّ خوفاً من أن يسري إلى القبر ويدكّ معالمه , كما أنّ الجمل لن يجرّ قعََادَة الأمّ ليلاً , فهو يعرفها , وقد أمرت الأمّ " ولد بلال " بألاّ يطيل في عزفه لحن الموت كونهم لا يُقيمون في ديارهم , وكيلا يفجعوا " بِشَيبشْ " بصوت الناي الباكي , إذا ما اقترب من مكان إقامتهم ذاك , مع علمها أنّه عند تلك السّاعة كان يَجْبٌر إلى غار يحميه من الليل المطير , ولن يصلهم في " اَلقَايِم ْ " إلاّ ضحى الغد .
عِشاءً في عريش الأمّ , والسماء تهدر بالرعود كان الشيخ على حالته مثخناً بحزن وحرقة , ومنثنياً عن حادثة الموت والصلاة والدفن , ولم تُذهب عنه تلك الحالة سوى الأمّ القادرة وحدها على تطبيب كافّة آلامه , فعندما شعرت في جواره بصمت تعرف مغزاه , بادرته تقول : ( زوجاتك ماتوا وحقك ما مات .. عادوه في مكانه ... ) .
تبسّم ابتسامة لم يشعر بها سواها رغم وجود خاصّته ومن حضر للتعزية في زوجة " بِشَيبشْ " الغائب حتى تلك الساعة , وسرّهم التخفيف من كمد شيخهم , ثمّ ليستغلّوا فرصة مراوغة الأمّ له حين ذكّرته بأنّ عضوه باق رغم موت كلّ نسائه وآخرهنّ أمّ " حَمُود " المتوفّاه قبل سنتين , ولكيلا يصمتوا لحظتئذ , علّق " سُبَيعْ " ـ ابن الأمّ الأصغر ـ على ما ذكرته العجوز قائلاً لها : ( ما عاد في حقّ ولدك اِلاّ البول ) . وبذلك زاد " سٌبَيعْ " من صخب التندّر بعضو أخيه " عيسى " , معرضاً بعجزه , فعندما ارتفع ضحك " بن شامي " غير الواعي بحال حزنهم , وبدورها ردّت الأمّ على " سُبَيعْ " : ( أنا اَدرى بولدي يا هيّن .. أرجل منكم كلّكم ) .
وفي محاولة أخرى منها لتُحرّك شيئاً بداخله للحديث , دافعت عنه بأنّه أكثرهم رجولة , ومع هذا لم يستجب الشيخ لما ذهبوا إليه , بل غيّر الحديث بسؤاله عن الأسلحة , وما إذا كان النساء اللاتي وصلن قبلاً بيوم , قد أتين بما تبقّى من بنادق وذخيرة .
ردّت عليه الأمّ مؤكدة وصول الجميع وبكلّ أسلحتهم , وهي تتنهّد قليلاً متذكّرة " بِشَيبشْ " وكيف سيستقبل خبر وفاة زوجته , وأضافت : ( روّحوا معهنّ بواحدة حُبلى في حَدّها .. حصّلوها في طريقهم متعسّرة .. يمكن زوجها أسروه قوم الذُّلُول وهو هاربّها ... ) .
بشدّة وفزع , سأل رجاله : ( من هو زوجها ؟ ) .
هوّنت عليه الأمّ ما نعرفها .. كَاَنّها من وادي ضَمَدْ ) .
صمت قليلاً بفعل الاطمئنان , ثمّ وجّه الحديث لها متسائلاً : ( قالوا لي اَنّكن ولّتن ثنتين ماتوا مع ولد واحد وبقي صُبي حَيّ .. ولَد مَنْ ؟ ) عقّب أخوه " سُبَيعْ " ’ مصحّحا له جنس المولود , قائلاً : ( اللي بقيت صبيّة يا عيسى ) .