(5)
عندما انكفأ "قوم الذُّلُول"، ولحق عُصْبَة "عُصيْرَةْ" بالأهالي في مقامهم المؤقّت، كان "بِشَيبشْ" قد قرر البقاء عينًا تتحسس ثغرات واديهم وأيّها أدعى لمباغتة من الغزاة، ولم يكن لكبار القوم أن يدعوه وحيدًا حتّى أتاهم بمواثيق وأيمان ألاّ يلحق بركب تلك الحملة العسكرية، وألاّ يتتبع أخبارها من بعدهم، فلا يطول غيابه عنهم أكثر من يوم يكون فارقًا بينهم وبين الغزاة، ويتأكّد في ذلك اليوم أن لا أحد يقتفي عشائر واديهم.

بحلول مساء اليوم المعّين لبقائه كان قد مشّط الناحية بكاملها، فاطمأنّ إلى خلوها من أيّ مؤشّر لوجود "قوم الذُّلُول"، وانطلق في إثر العصبة، حيث تُقيم العشائر. تبدّت الجبال قبالته متخصّرة بغيوم داكنة تُبشّره بليلة وفيرة الرعود والبروق، عندها استحضر لازمة المطر الغنائية، المبثوثة في جموعهم كلّما أنذرت السماء بعطاء جديد، وشحذ جوارحه لصوت العصبة حين ترى على أعالي واديهم برقًا يُضيئ ماء، يشمل بنوره الخاطف وهادًا واسعة وسفوحًا بعيدة، فمن اتساعه أن ركب حتّى جبال "اَمْعَرْضِيَةْ" شمالاً، وتلك بشراهم بغيث هائل. راحت سكين أساه تجزّ حنجرته كلّما خطفته ذاكرته إلى ترحيبهم من على تخوم واديهم بالغيوم الوامضة:
(بَرّاق من تَوْ اَلحُسَيْنِي يِضِِيْ مَاءْ
ومن جبال اَمْعَرْضِيَةْ مِرْتِكبْهَا)
كانت سروات "ساق الغراب" تُفسح من ردائها القاتم كما لو أنّها جبين الليل الهاطل من الشرق، وهو بتلك اللازمة الترحيبية للقائها يحثّ الخطى؛ ليتمكّن من النجاة بغار، لا يعرفه غيره؛ فيأوي إليه قبل أن يضطرّ لمجابهة ليل شاقّ، وراغبًا عن البقاء في أحد الجروف الكثيرة المنتشرة في طريقه، فكان يعي أنّه لن تعصمه شجرة ولا صخرة في تلك الجروف، إذ سيسهل على الماء انتزاع كلّ شيء من بطونها. لحظة وصوله إلى المكان المعّين كان الوقت عِشاءً، وكان حسم السماء زلزالاً في الغيوم البعيدة، حين عصم جسده عند فتحة الغار، ولم يتقدّم إلى آخره لتنال روحه غبطة بزرقة السماء الحالكة عندما تُومض زلازلها البرّاقة على السهول حينًا من الجهة اليمنى، وحينًا على التلال والجبال من الجهة الشرقيّة. عند الهزيم يظهر وجهه مشرقًا في الداخل، إذ يُصاب بفرح لا يعرف من أيّ قرار بداخله يتسلّق، يغسله من ألم يمضّه وحيدًا، بعد انحسار الموقف عن منازلة "قوم الذُّلُول"، فلا يعود إلى تذكّرهم إلاّ عندما يُطفئ الظلام تلك الومضات الخاطفة بين الفينة والأخرى. كان البرق يمتدّ من الشمال إلى الجنوب كسيف يُومئ إلى ساحة نصر كبيرة، تنفر الجموع إليها زخًّا مطيرًا لتسحق القامات مهما علت. كان يصله صوت مقاومة أشجار "الدّوْم" لقصف السماء، والحفيف في سعفها وانكساره الباكي، وإذا تسنّى له، من ثقوب الليل الخاطفة، شاهد جرجرة الماء بغصون "البَشَامْ" و"السّمَرْ"، تطفو وتغوص حتّى تقرّ في مسلك هائل للمياه التي تهدر حتّى مجمع الأودية، وتُكمل سيرها في جيش عارم إلى واديهم "اَلحُسَيْنِي" غربًا. لم يغب عنه أنّهم قد عزّزوا من قدرات عقوم الحقول ليمنعوا بها الماء من الوصول إلى زروعهم القائمة، والقريب حصادها، حتّى وإن كانت السيول كبيرة فلن تُصيب بلادهم بضرر بالغ.
كان رشق المطر للمساحات الشاسعة في الخارج، أو صفعه للصخور المستوية، يُذهب عن المكان وحشته ويُؤنس قلب "بِشَيبشْ" الذي ما كان له أن ينعم بذلك الفرح الغريب لولا هذه الليلة المغتسلة بكلّ ما فيها، وعادة ما يدخل هذا الغار الذي يعرف زواياه جيّدًا، ويُجيد التوغّل فيه، وكلّما أتاه أقام أكوامًا من الأشواك في مدخله، لتمنع عنه الزواحف والسباع، ويذهب في قلق إلى نومه، إذ لا يصل هناك إلاّ لقيادة السيول إلى واديهم مع نهاية العاصفة عندما يسري يُعارك هياج المياه حتّى يعقلها في واديهم. هذه المرّة آثر مراقبة الأشجار وهي تُناضل العاصف الذي يفتك بكلّ قائم هانت قوّته، ويدكّ كلّ ما يسهل تقويض أساسه. كان يُراقب يد السماء قابضة على الشجيرات وتمزّقها، ومرّة يسمع جذعًا عزّ عليه مفارقة الأرض فيُطقطق في أنين متصل، ويصله تدحرج الصخور من هامة التل وكأنّها جنود يتدافعون لنجدة ما، فيغمرها السيل وتسكن إلى هناك بعد اصطدام يقهره جبروت المياه المتدافعة إلى الأمام كوحوش مزمجرة لا تحدّ من قطيعها الشرس أيّة عثرة، ومع وميض البرق يرى الأمواج المتتابعة دُرَبَ ثيران تتمايل في سَبق محتدم بالمنافسة ولا نهاية له. وكلّما أرخى "بِشَيبشْ" لروحه الهيام بتلك المناظر والأصوات، رسم صورة بليغة لعصبة "عُصيْرَةْ" وهم يجرفون الغزاة كما تفعل أيادي السماء بوجه الأرض خارج الغار في ساعتها تلك. كان إذا استقرّ على لوحة مرضية عن رجال واديه، انتهى إلى ألم خارق يشلّ حواسّه عن المدركات المحيطة. يتمنّى أن يملك يد السماء الجبّارة ويجزّ معاول الشرور عن بلاده، ويعصف برزايا القادمين فلا يُبقي لهم أثرًا البتّة. كان يجوب سنوات عمره ذات العقود القليلة فلا يقبض على منقصة واحدة لحقت ببلاده، ولا يذكر مَغرمًا تمنّوه لم يُحققوه أو عجزوا عنه، وما كان لهم هذه الحياة الطولى إلاّ بقوّة لا مثيل لها، كانت لهم، ويُقسم أن يبقوا عليها. وفي لحظة يصيخ لنداء روحه العالي ينكسر للقسم، الذي قطعه على نفسه أن لا يُقدم على أيّ فعل من بعدهم، فيعود مغتاظًا إلى صليل السماء على الأرض. (إنّها القوة...)، (الحقّ...)، يُقرر في داخله أنّ القوة حقّ محض، فلا مبرر لهم في العيش كلّ هذه القرون إلاّ بالقوة التي وهبتهم حقًّا بالمطلق، وشاهده على ذلك لا يتوقف عند مثال واحد، فكم من أرض آلت لترابهم، وكم من مياه أسِنَت في واديهم وحبسوها عن الغير، وكم من حصون ركموها على أجساد أصحابها. وهو في تلك الساعة يقطع في كلّ شكّ حول هذه الحقيقة، وينهر نواصي الأعذار التي قد تُبرر خروجهم من ديارهم، ثمّ في لحظة جديدة يتحوّل إلى نشاط السماء المستمرّ والصارم في العمل، فيلمس إتقان القوة فيما تسعى له دون توقف. ويستقرّ إلى تذكّر زوجته "مريم" الحامل والتي خرجت من القرية على جمله "اَلبَارق" وودّعها على أمل اللقاء بها بعد أيّام قليلة انقضت، وهو فرح بانقضاء تلك الأيّام التي فصلته عنها، ويشعر بأنّها قد وضعت مولودهما الأوّل، ولن يتعسّر عليها شيء ما دامت في رعاية الأمّ دائمًا.
بات يُدير فكرة الحياة الجديدة مع ولده القادم، هذا وهو لا يُغادر ليد السماء النشطة صغيرة أو كبيرة إلاّ وسجّلها في خلده، وهكذا حتّى لملمت السحب أسمالها الداكنة وقشع الصبح بفيضه الذهبي ما تبقى من الليل، فهبط من مكانه ليطأ أرضًا تمتدّ بصخورها وأشجارها الغارقة واكتسابها لبريق خالص لم يشبه ضوء الشمس الباهر بعد. ولتبقى روحه في سكينتها، بعد ليلة طويلة مع المطر، رأى حشرة "جِدّةْ اَمطَرْ" وهي تتحرك أمامه ببطء على عادتها، بلونها البرتقالي الزاهي، كأنّها قُدّت من مخمل نفيس، فكلّما كفّت السماء يدها عن الأرض خرجت هذه الحشرة جذلى بالبسيطة المرتوية، نذيرة بالرخاء، ممّا يدفع كلّ من يُشاهدها أن يقطع من ثيابه خيطًا ويضعه عليها ثمّ يستعطفها سائلاً برجاء متودّد: (أنا كسيتك في الدنيا فاكسيني في الآخرة)، معتدّين بكون هذه الحشرة رسول الخير والعطاء، ويلزمهم إهداؤها شيئًا من كسوتهم لتردّ لهم الهدية في الفردوس، وهذا ما فعله تمامًا "بِشَيبشْ"؛ مظهرًا بذلك روح العاطفة التي لا يُمكن أن تبدو عليه أمام أيّ شخص!.