خلال تلك المرحلة دفعتني تجارب الحياة الى دراسة سؤالين آخرين، كانت الماركسية احدها. فما عرفته عن الفكر الديمقراطي كان قليلاً وغير دقيق. آنذاك، اسعدتني فكرة الصراع من اجل حقوق الانتخاب. فحتى في ذلك الزمن الباكر، ادركت بان هذا سيضعف من سطوة السلطة الجائرة في المنسا. وكلما زادت اللغات المستخدمة في مجلس الشعب النمساوي الذي بات مثل - بابل - بدا تشتت تلك الدولة الحتمي وشيكاً ، ومعه ساعة تحرر الشعب الالماني.
نتيجة لكل هذا، لم اتضايق من حركات الديمقراطية الاجتماعية. بل ان ادعائاتها بمساعدة الطبقات الفقيرة بدت لي من العوامل التي وقفت في صفها. ولكني رفضت في هذه الحركات عدائها لكل محاولات المحافظة على الشخصية الالمانية، ومغازلتها "للرفاق السلاف"، الذين ما تقبلوا من افكارها الا ما سيستفيدوا منه، وتركوا الباقي باحتقار تام.
حدث لقائي الاول مع هذه الحركات خلال عملي كعامل بناء.
وكانت التجربة سيئة منذ البداية: كانت ثيابي نظيفة، ولغتي جيدة، وسلوكي حذراً. كنت لا ازال اسعى وراء مصيري لدرجة تجاهل الناس حولي. بحثت عن العمل فقط خوفاً من الجوع، وللاستمرار في الدراسة. ربما ما كانت القضية ستهمني البتة لو لم يطلبوا مني في اليوم لرابع الانضمام لتجمعهم. ونظراً لجهلي بالموضوع، رفضت موضحاً انني لا اعرف ما يكفي عنهم للانضمام اليهم. ربما لهذا السبب لم يعادونني ، بل ورغبوا في اقناعي بالانضمام الى صفوفهم. ولكنني خلال الاسبوعين القادمين عرفت افكارهم جيداً، وما عاد باستطاعتي البتة الانضمام لمجموعة بغضتها.
ساعة الظهيرة حين كنا نتناول الطعام في الحانة: كنت اشرب الحليب وآكل الخبر في زاوية متطلعاً لهم بحذر او متاملاً حظي السيء. وهكذا استمعت لهم، بل انهم جاءوا بجواري حتى استمع واتخذ موقفاً. وما كان امامي منفذ آخر لان ارائهم اغضبتني جداً: قالوا ان الحس الوطني نتج عن اعلام الطبقات الراسمالية، وانه عبارة عن سلاح يستخدمه الاثرياء لاستغلال العمال، والمدرسة ليست سوى مؤسسة لانتاج العبيد واسيادهم، اما الدين فادعوا انه اسلوب لتخدير الشعوب حتى تسهل السيطرة عليهم، والاخلاق ليست سوى دلالة على الغباء. ما كان هناك ما لم يلقونه في الوحل. في البداية لذت بالصمت، ولكنني سرعان ما بدأت باتخاذ مواقف فكرية مخالفة، وقرأت فكرهم وناقشتهم بشانه. واستمر النقاش حتى قرروا استخدام سلاح يقهر العقل بسهولة: وهو البطش والارهاب. وهكذا طلبوا مني الذهاب وهددوني بانهم سيلقونني في لخارج ان رفضت. وهكذا خسرت عملي، وفي نفسي سؤال مرير: هل هؤلاء فعلاً بشر؟ وهل يستحقون شرف الانتماء لامة عظيمة؟ وكان السؤال صعباً. وان كانت اجابته بالايجاب، فان الصراع في سبيل القومية لن يستحق التضحية والمعاناة، اما ان كانت الاجابة بالنفي، فان امتي ستفتقر بالفعل للانسان.