الحداثة منهج فكري يسعى لتغـيير الحياة
إن الوسائل في الإسلام لها أحكام الغايات، ولا يمكن أن يتوصل لغاية شريفة بوسيلة دنيئة . ولذلك لا يمكن في الإسلام أن تـنظر للنص الأدبي من الناحية الفنية الجمالية فـقـط بعيدا عن مضامينه وأفكاره، ولا يغتـفر للإنسان من ذلك إلا ما كان خطأ غير مقصود، أو نسياناً، أو كان صادراً من نائم أو مجنون، وما عدا ذلك فإن الإنسان مؤاخذ بما يفعل ويقول على الأقل في الدنيا، وأمره في الآخرة إلى الله ، إن شاء غفر له وإن شاء عذبه، إلا من مات على الكفر فهو خالد في عذاب جـهنم .
قدمت بهذه الكلمات لكي يُعلم ما هو المعيار الذي نقتبس به أفعال وأقوال الناس, وعلى هذا الأساس سيكون حديثـنا عن المنهج الفكري للحداثيين لدينا، حتى وإن أبوا أن يكون الإسلام الحكم بيننا، أو فسروه بما يروق لهم مما يتـفق مع أفكار أساتذتهم . وسأعرض في هذا المبحث لأمرين :
الأمر الأول : دعوى أهل الحداثة أن الأدب يجب أن ينظر إليه من الناحية الشكلية والفنية فقط، بغض النظر عما يدعو إليه ذلك الأدب من أفكار، وينادي به من مبادئ وعقائد وأخلاق، فما دام النص الأدبي عندهم جميلاً من الناحية الفنية فلا يضير أن يدعو للإلحاد أو الزنا أو اللواط أو الخمر أو غير ذلك، وسنرى بعون الله أن هذه المقولة مرفوضة شرعاً وعقلاً، وأنها وسيلة لحرب الدين والأخلاق، يتستر وراءها من لا خلاق له, وسنرى أن أذواقهم الأدبية فاسدة مفسدة، حتى لو سلمنا بمقولتهم تلك وأنهم يرفضون من النصوص ما كان جميلاً ويشيدون بما كان غامضاً سقيماً .
أما الأمر الثاني : فهو أن هذه الدعوى السابقة التي يدعيها الحداثيون، وهي عدم اهتمامهم بمضمون الأدب ليست صحيحة؛ بل إنـهم أصحاب فكر تغييري، يسعى لتغيير الحياة وفق أسس محددة ومناهج منضبطة، وموقفها من الإسلام محدد سلفا .
فأما الأمر الأول : وهو ما يسمونه الأدب للأدب والفن للفن، فيقول عبد الله الغذامي في كتابه (الخطيئة والتكفير) صفحة 10 : "وهذا كله فعالية لغوية، تركـز كل التركيز على اللغة وما فيها من طاقة لفظية، ولا شأن للمعنى هنا لأن المعنى هو قطب الدلالة النفعية وهذا شيء انحرفت عنه الرسالة، وعزفت عنه، ولذلك فإنه لا بد من عزل المعنى وإبعاده عن تـلقي النص الأدبي، أو مناقشة حركة الإبداع الأدبي" .
وهكذا بكل بساطة يقرر الغذامي أن المسلم عند مناقشته وتقويمه للنصوص الأدبية من نثر أو شعر، يجب أن يطرح جانباً النظر في المعاني، أي أن ينسلخ من عقيدته ودينه وفكره، ولا يكون لها أي دور فيما يعرض أمامه من أدب، ولولا أن خُدع شبابنا بـهذه المقولات الغافلة المتغافلة، لما أصبح الشيوعيون أئمة للفكر والأدب يشاد بـهم في صحافتـنا .
ويقول أيضا في صفحة 56 مؤكداً مذهبه : "ومن هنا جاءت التشريحية لتؤكد على قيمة النص وأهميته، وعلى أنه هو محور النظر، حتى قال (ديريدا) : "ولا وجود لشيء خارج النص ولأن لا شيء خارج النص فإن التشريحية تعمل ــ كما يقول (ليتش) ـ من داخل النص لتبحث عن الأثر، وتستخرج من جوف النص بناه السيميولوجية المختفية فيه، والتي تتحرك داخله كالسراب"" .
أيها القارئ الكريم : ما دام (دريدا) يقرر، و (ليش) يقول : "إننا يجب أن نحاكم النص إلى ذاته ونفسه، وننظر في أدواته الفنية فقط بعيداً عن أي مؤثر خارجي" .... فيجب أن نمتثل قوله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه عند الغذامي أو عند السريحي الذي يقول في عكاظ العدد 7517 الصفحة 5: "من شأن قيام المنهج أن يؤدي إلى سقوط تحكم الأيديولوجيات المختـلفة في إجازة دراسة ما أو عدم إجازتها، ذلك أن براءة وحيادية العلم لها من السلطان ما يحمي الدراسة من أن نتعاطف معها، لأنها تخدم توجها نسعى إليه، أو نرفضها لأنـها تخالف ذلك التوجه" .
هـذه هي موازينهم التي يدعون الناس إلى الاحتكام إليها، أما قول الحق سبحانه وتعالى : { ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد }، فلا قيمة له في موازين الحداثيين النقدية ولا في مناهجهم الأدبية، وأما قول المصطفى صلى الله عليه وسلم : ( كل كلام ابن آدم عليه لا له، إلا أمر بمعروف أو نهي عن منكر أو ذكر الله ), وقوله عليه الصلاة والسلام : ( وهل يكب الناس في النار على وجوههم - أو على مناخرهم - إلا حصائد ألسنتهم ) وغيرها من الأحاديث الكثيرة والآيات البينة الواضحة التي تدل على أن حساب الناس في الإسلام على معاني قولهم ومضامينه قبل لفظه ومبناه، فيجب أن تـزاح عن مسرح الحياة، حتى يأخذ الأدب حقه ويؤدي دوره في نظر الحداثيين .
يقول عبد المحسن هلال في عكاظ العدد 7538 الصفحة الخامسة في معرض رده على ملحق الندوة الأدبي حين تصدى ذلك الملحق لدعاة التغريب : "نسي الملحق المذكور أو تـناسى قضيته الأساسية في وجوب التـفريق بين من يدعون للخروج عن التعاليم والقيم الإسلامية، وبين من يعتـنقون الحداثة كمذهب أدبي فني بحت، فاختـلط عليه الأمر، فأصبح يتهم كل معتـقد بالحداثة بالخروج على هذه القيم والتراث الإسلامي" .
إن هذه دعوى يدعيها كثير من الحداثيين، وهي وإن كانت مرفوضة ديناً وعقيدة، فإن واقعهم يؤكد أن ذلك مجرد تـنويم لمن بقيت في قلوبهم غيرة، وأنهم سيتجاوزون ذلك إلى مراحل أخرى .
ويقول عبد الله الغذامي في مقابلة أجرتها معه صحيفة الشرق الأوسط في 10/3/1987 م الصفحة 13 : "يجيب أن نفصل الآن بين الأيديولوجية والممارسة النقدية" .
وهكذا يرى الغذامي أنه يجب ألا تدخل العقائد والمذاهب الفكرية عند نقدنا للنصوص، لكنه يؤكد أن ذلك مطلوب الآن فقط . وهذا ما يشير إلى أنه مجرد مرحلة يسعون لتجاوزها، بعد أن يخدروا بمقولاتها من سيكون عقله قابلاً للتخدير، بل ذلك هو ما كشف عنه الغذامي وباح به في نفس المقابلة حين قال : "الذي نعرفه نحن أن من طبيعة الإبداع التمرد على كل ما هو سابق من قبل، فكيف بي أفرض سائداً سابقاً على نص متمرد، هذا السابق يشمل الأيديولوجية، ويشمل الفلسفة ويشمل المبدأ المقرر سلفا" .
وبسرعة فائقة انقـلب الغذامي الذي كان ينادي بمحاكمة النص إلى الوسائل الفنية اللغوية، التي رأينا بعض حملتهم القذرة عليها قبل قليل ... أقول : هكذا انقلب داعياً إلى أن يكون الأدب تمرداً على كل عقيدة ومبدأ وفلسفة مما هو سائد سابق على النص . وهل لدينا من مبدأ أو عقيدة سائدة قبل النص غير الإسلام ؟!
أما ما هي المعايير الفنية واللفظية النصية التي ينادون بـمحاكمة النصوص إليـها بعيداً عن العقائد والمبادئ فلا أعلم أي معايير يقصدون، بعد أن نادَوا بتحطيم اللغة، وجعلوا تحطيم دلالاتها وتغيير قواعدها والقضاء على معانـيها شرطاً أساسياً لكل عمل إبداعي لـديـهم .
يقول السريحي في صفحة 87 من كتابه (الكتابة في خارج الأقواس) : "ولهذا فإن استخدام الشاعر للكلمة يبدأ بتحطيم الدلالة الوضعية لها لكي يتمكن من أن يطلق ما يكمن فيـها من طاقات شعرية ….. وذلك هو ما يـجب أن يأخذه الناقد في عين الاعتبار عند تعامله مع لغة المتن الشعري، لأن عمله يبدأ بتحرير المعاني التي غرسها الشاعر في اللغة عندما استحالت على يديه إلى رموز" .
يلغون العقائد والمبادئ من موازين ومعايير النقد للأدب، وينادون بتحطيم اللغة وإهمال قواعدها ودلالاتها تماما. فما هو يا ترى المعيار الذي يريد الحداثيون أن نتخذه نبراساً لنا عند نقد الأدب ؟
يقول السريحي في صفحة 39 من كتابه : "وما ينبغي علينا إزاء هذه التقابل بين الرؤيا الفردية والرؤيا الجماعية هو أن نتحرر من الاحتكام إلى معيارية الخطأ والصواب" .
وهكذا ينادون بإلغاء كل شيء حتى تصبح الأمة ذات عقلية فارغة لا مبدأ لـها حتى يمكنـهم بعد ذلك تحديد اتـجاهها، وإنشاء مبادئ جديدة لـها ؛ ألا ترى أنـهم يتـفقون جميعاً على استبعاد القديم والسائد والنمطي - كما يسمونه - وإنني أرجو منهم أن يثبتوا لنا شيئاً ، ينصب عليه كلامهم غير ديننا.
أما الأمر الثاني : وهو إثبات أن الحداثة منهج فكري، ذو نظرة محددة للكون والحياة والإنسان، وعلاقتـها ببعضها وبدايـتها وغايتـها ونـهايتها، وأنه يتخفى تحت مسميات الأدب الجديد والحداثة في الأدب ، فهـذا ما سنتحدث عنه في هذه السطور .
نشرت صحيفة اليوم في العدد 4762 تحقيقاً عن ندوة الحداثة والتجربة الشعرية في الخليج، والذي يهمنا في الموضوع ثلاثة أمور :
الأول : أنه وإن كانت الندوة في الكويت, ولكن صحيفة سعودية نشرت ما دار فيها وأثـنت عليه .
الثاني : أنه مثل السعودية فيـها ـ مع الأسف ـ فوزية أبو خالد، وأسفي هنا لأنها نشرت صورتـها في الصحف الكويتية، ثم في صحيفة اليوم السعودية متبرجة ناشرة لشعرها، بل في بعض الصور وهي تلقي الشعر على الجماهير الكويتية ، ويـجب ألا ننسى أنـها محاضرة لبناتـنا في إحدى الكليات .
الثالث : وهو المـهم ؛ لنستمع لما قال بعض المشاركين في الندوة .... يقول إبراهيم غلوم أحد المتحدثين في الندوة : "إن الحديث لا يـمكن أن يتم إلا في حوار حضاري ديمقراطي، كالمجتمعات الأوربية التي استقرت فيها الحركة الديمقراطية، وإن أطروحة التغيير هنا لا بد وأن تصطدم بالمؤسسات والقوانين والعادات والآداب العامة، وأرى أن الشاعر في الخليج في الوقت الراهن قد عبر عن التـفتح الجديد بقصيدة جديدة، واستطاعت أن تؤدي هذا دون أن تصطدم مباشرة بالرموز المباشرة، وأؤكد أن القصيدة الجديدة ظلت في معزل عن الصدام المباشر مع رموز التخلف، لأنـها تصطنع دائماً رموزا بديلة" .
إذا فهم أصحاب طرح تغييري ولا يمكن أن يكون ذلك إلا لأصحاب مذهب فكري محدد. ولذلك فهو يؤكد أن الصدام بينهم وبين كل شيء في هذه الأرض من قوانين وعادات وآداب بل ومؤسسات، لا بد منه. وأرى أنه عبر بصدق وصراحة عما يعبر عنه كثير من الحداثيين بلف وغموض ومداورة، وهو هنا يتحدث عن لازمة من لوازم المنهج الشيوعي في التغيير، إنه الصدام أو ـ كما يسمونه ـ العنف الثوري . لا يرضون بالتغيير السلمي ولا يقرونه وسيلة من وسائلهم، لكنهم لا يقدمون على ذلك إلا بعد أن يشتد عودهم ويقوى ساعدهم، أما قبل ذلك فهم يتسترون وراء كثير من الرموز قد يكون منها الوطنية، وقد يكون منها الديمقراطية، ولكنهم في النهاية لا بد وأن يقضوا على رموز التخلف كما سماها غلوم، والذي يظهر- والله أعلم ـ أنـهم يستعدون منذ الآن لـهذا الصدام القادم الذي يدفعون الدنيا له دفعا . استمع إلى من اعتبروها ممثلة سعودية في الندوة حين تقول : "إن القصيدة الحديثة التي تحاول أن تؤسس تجربتـها، قد خلعت كل ملابسهاالمهيبة والمنيشنة، والصدام القادم هو صدام على حرية القصيدة" .
وهكذا ما دام أن فوزية أبو خالد قد خلعت لباس الحشمة والوقار ووقفت على المنابر بين الرجال، بلا ساتر ولا حجاب وجلست بينهم في الصفوف، فهي تستعجل أيضاً أن تخلع أفكارها وأفكار رفاقها ملابـسها ونياشينها، لتكون الدعوة إليها مكشوفة معراة بلا غموض ولا شعارات مرحلية بل تستعجل الدخول في الصدام القادم كما تسميه .
وفي مجـلة اليـمامة العدد 901 صفحة 62 يقول أحد الكتاب الحداثيين : "ينبغي أن نخلع جبة الأصول وقلنسوة الوعظ، لنترك للشاعر حرية مساءلة التجربة ونقض الماضي وتجاوزه، ولنترك لأنفسنا فسحة لنصغي لتجربته الجديدة، وما تـقترحه من أسئلة، ليس هذا من حق الشاعر فحسب ولكنه حق حياتـنا المعاصرة علينا".
تحت دعوة إتاحة الحرية يسعى الحداثيون لتدمير حياة الأمة الفكرية وثوابتها العقدية، إذ كل شيء عندهم يجب أن نترك للشاعر الحرية أن ينقضه لا أن ينقده فقط، وأن يتجاوزه لا أن يقف عنده فقط، لأن الماضي عندهم ليس أكثر من تجربة، يجب أن تـزاح ويحل مكانها تجربة جديدة، وعندما نلتـزم بنصيحة الحداثي المبدع ونخلع جبة الأصول ونحطم اللغة ونبتعد عن قلنسوة الوعظ، نصبح أمة لا جذور لها ولا ثابت في فكرها ولا حياتها، بل كل شيء قابل لأن يتغير ويتبدل، العقائد والأخلاق والسلوك، وعند ذلك تكون الحداثة وأهلها قد أدوا دورهم كاملاً، الذي لن يتحقق بإذن الله ما دام في أرض الإسلام من يعي أساليبهم ويرد كيدهم في نحورهـم .
وفي أمسية حداثية أقيمت في الباحة في 16/11/1406هـ وشارك فـيها من أعمدة الحداثة محمد العلي, وعثمان الصيني، وسعيد السريحي، وعلي الدميني، وعبد المحسن يوسف، ونشرت الأمسية في مجلة الشرق العدد 369، تبدي كثيرا مما كان يخفيه الحداثيون ... فمثلاً يقول السريحي في تلك الأمسية : "للحداثة مفهوم شمولي، هو أوسع مما منح لنا ومما ارتضينا لأنفسنا، ذلك أن الحداثة نظرة للعالم أوسع من أن تؤطر بقالب للشعر، وآخر للقصة وثالث للنقد، إنها النظرة التي تمسك الحياة من كتفيها، تـهزها هزاً، وتـمنحها هذا البعد الجديد" .
الله أكبر، لقد استبان الصبح لذي عينين، فلم تعد الحداثة مجرد قوالب أدبية وأشكال تعبيرية للشعر والنثر والنقد كما يصرون ويريدون أن يقنعونا كلما أراد أحد أن يعترض عليهم، بل هي منهج شمولي أتوا به لكي يمنح الحياة بعداً جديداً، وينشيء فيها واقعاً جديداً، وهذه لم تكن فلتة لسان من السريحي، بل هناك من أقواله وكتاباته ما يؤكد ذلك . وهم ـ الله أعلم ـ لا يقولون ذلك إلا ليروا مدى رد فعل الناس، حتى يقرروا خطواتـهم القادمة، أو أنهم اطمأنوا إلى أن الناس معهم، أو أنـهم مغفلون لا يعلمون ما يقولون .
ومثل قول السريحي يقول أحمد عائل فقيه في عكاظ العدد 7371 الصفحة 10 : "إننا في مجمل الأحوال نسير في اتجاه معاكس لما هو سائد ومكرس في بنية المجتمع، وذلك هو المأزق الثقافي الشائك الذي لا تدري كيف يمكن بالكاد تجاوزه وتخطيه، أنت في كل هذا تصطدم مرة أخرى بجملة حقائق ومسلمات اجتماعية ثابتة راسخة رسوخ الجبال الرواسي في أذهان الناس . ألا بديل لما هو سائد ومكرس أيضاً ؟ إذا كيف يمكنك تمرير ما تحلم به، وما نود أن تقوله علناً" .
إنـها حقائق خطيرة تتجلى لنا في كتابة الحداثي أحمد عائل، لا بد أن يعيها كل مسلم غيور على دينه وبلاده رافضاً لما يخطط الأعداء لـها من محاولات إفساد وتدمير، ومن هذه الحقائق :
1- أن الحداثيين يسيرون في خط معاكس ومغاير ومناقض لما في مجتمعنا من مثل إسلاميـة وقيـم إيمانيـة .
2- أنهم في حيرة من أمرهم، كيف يمـكنهم تغيير هذه القيم الأساسية في المجتمع وتـجاوزها وتخطيها إلى ما يريدونه من قيم أخرى .
3- أنـهم لا يسعون لتجاوز بعض الأمور الـهامشية، بل إنـها حقائق ومسلمات لدى المجتمع المسلم راسخة عنده رسوخ الرواسي، ولا يرضى بـها بديلاً.
4- وأخيراً فإن للحداثيين أحلاماً وتطلعات، إلى أن يأتي اليوم الذي ينادون فيه بكل أفكارهم علناً وصراحة، بعيداً عن الغموض الذي يتـلفعون به الآن في الجملة .
أخي القارئ قارن بين هذا الكلام، وكلام فوزية أبو خالد وإبراهيم غلوم الذي ورد قبل قليل لترى بوضوح أن الأهداف واحدة, والغاية في النهاية هي تغيير المجتمع وتبديل مسلماته وقيمه . ولكي تتحدد لك بعض ملامح هذا التغيير ننقل لك ما قاله السريحي في صفحة 37 من كتابه ... يقول : "وهذا التوتر هو السمة الأساسية التي لو لم تتحقق لحق لنا أن نشك طويلاً في قيمة ما يقدمه هذا الفنان أو ذاك، وهو محصلة طبيعية لما يشكله الفن من مروق على عرف الجماعة، وخروج عن معياريتها السائدة في الرؤيا أولاً، وفي التغيير أخيراً" .
هل رأيت أيها القارئ أن طنطنتهم بأن اختلافـهم مع غيرهم إنـما هو في أشكال التعبير, إنها مجرد كلام فارغ ومخدر مؤقت، وأن السريحي يؤكد أن هذا الاختلاف لا يأتي إلا في الأخير، أما الاختلاف الأول مع المجتمع والمروق على أعرافه فيجب أن يكون في الرؤيا، بل إن السريحي يؤكد أن الفنان المبدع لا يستحق ذلك الاسم حتى يخرج عل المألوف ويحارب المعروف، ويعلن أن المجتمع ـ أياً كان هذا المجتمع ـ يجب أن يتبعه أينما سار .
يقول السريحي : "من شأن البعد الإنساني الحر الذي تتسم به رؤيا الفنان أن يجعل انفصاله عن الجماعة أمراً قدريا لا مندوحة له عنه، وإن آمن في ظاهر الأمر أو باطنه بكل أعرافـها، وخضع لكل تـقاليدها في حياته العامة" .
ولا يكتـفي السريحي بالتأكيد على أن الأدب يجب ـ حتى يستحق منه شهادة بأنه أدب - أن يخرج عن إطار المجتمع العام وأعرافه وقيمه، بل يؤكد ـ وهو الناقد الكبير كما يسمونه ـ في صفحة 78 من كتابه, أن الوعي الجيد يجب أن يتجرد من المقومات العقلية، وذلك في قوله : "وهذا يعني ثـناء إزاء وعي جديد يتجرد من المقومات العقلية للوعي" .
وهذا يعني أنه لا يكفي أن تُغطى قيمنا وديننا وأخلاقنا وأصولنا إجازة، بل لا بد أيضاً أن نلغي عقولنا ونـمنحها إجازة، وربـما كان ذلك عطفا ورأفة من السريحي علينا حتى لا تصاب رؤوسنا بالصداع والدوار من بلائهم وغثائهم، وحتى يستطيع أن يدخل فلسفة هيجل في عقول أجيالنا والتي استشهد بـها في صفحة 39, حين قال : "إن الرؤيا الإبداعية هي تحرر الروح من أسار الضرورة، وانطلاقها وراء حدود الإمكان، وتشوقها نحو المثالي، وسعيها باتجاه المطلق، وذلك هو جوهر الفن كما يراه رائد الجدلية المثالية هيجل" .
هل رأيت الغرام والاستشهاد بما يراه هيجل الفيلسوف المادي الملحد ؟ بل إن التأثر به في كتابات السريحي واضح كل الوضوح . فمثلاً استمع إليه حين يقول في صفحة 38 من كتابه : "هذه الرؤيا الإبداعية تـنبثـق من خلال العلاقة الجدلية التي تربط الذات بالعالم الذي يحيط بـها" .
هذا هو البعد الشمولي لـمفهوم الحداثة الذي يريد السريحي أن يهـز به الدنيا هزاً من كتـفيـها !!
وفي صحيفة الرياض العدد 6714 الصفحة 7 كتب فهد العتيق تحت عنوان (حول الخصوصية في الإبداع والكتابة خارج الزمن) - وهم هكذا دائما يكتبون خارج الزمن وخارج الأقواس وخارج المألوف، بل وخارج المعقول أيضاً، وما أظن هذه الرموز والرمزية أصبحت خافية على القارئ بعدما تقدم - المهم أن مما كتبه العتيق في تلك الزاوية (اقرأ) مفهومها للخصوصية الإبداعية : "إنـها باختصار تحقق لإمكانية النص باعتبارهما منتـوجاً ثقافياً لا معدى له عن الانصياع لجبروت الزمن التاريخي، وهو اجتماعي في جوهره ، لأن حركية الصراع الاجتماعي تختلف اختلافاً ملحوظاً من بقعة إلى بقعة أخرى في المساحات الطبوغرافية الضيقة " .
أرأيت أيـها القارئ أن الحديث عن الحتمية التاريخية والصراع الطبقي، وما أظنك تحتاج لإيضاح أكثر من هذا في تحديد الملامح الفكرية لـهذه الحداثة . ولتأكيد ذلك يقول أحمد عائل فقيه في صحيفة المدينة العدد 7147 الصفحة الأولى من المدينة الثقافية : "كان حضور هذه القصيدة قد حسمته ظروف اجتماعية وتاريخية، فكان ميلاد هذه القصيدة، لقد كان حضورها هو نتاج الظرف التاريخي، ونتاج قطيعة معرفية، وهي محاولة كتابة واقع جديد، وكذلك إلغاء الآخر" .
هل تريد أيها القارئ أن تعرف ما هو الواقع الجديد الذي يسعون لكتابته في الحياة ؟ انظر لما قاله على الدميني في نفس الصفحة، وكان مما قال : "إن الشعر المستـقبلي سيصبح شعراً خالصاً صافياً من شوائب المديح والهجاء والغزل الفج ، وبعيداً في اهتماماته عن الهموم السياسية والاجتماعية والاقتصادية، فإنني أرى أن ذلك الطيف الذي لا بد أن يتحقق في المستقبل المتخيل أو المنشود يحتاج إلى عمل شعري يتعانق مع حركة المجتمع وسعيه إلى بلوغ وضع اجتماعي جديد لا تعود فيه الهموم السياسية والاقتصادية هموماً ملحة وإنما تغدو منتـفية بأن ضروراتها الحياتية تكون حينذاك قد أنجزت وبلغ الإنسان فيها مشارف المدينة الفاضلة والعلم الأرضي الجميل" .
وهكذا في وضوح لا غبش فيه يبشر الدميني بالمستقبل المنشود والحلم الذي يرى أنه لا بد أن يتحقق في هذه الحياة، وإنني أتساءل : ما هو الفرق بين هذا الحلم وبين جنة الشيوعية الأرضية التي تعد بها البشرية على الأرض حين تعم دولتهم العالمية ـ كما يزعمون ـ وعندها ينتهي الصراع ومبرراته، وبالتالي تـنتهي الهموم وتكون المدينة الفاضلة ؛ لكن الناس يعلمون أن الشيوعية حولت أي أرض نكبت بـها إلى جهنم الحمراء .
وفي مقابلة أجرتـها جريدة الرياض العدد 6794 الصفحة 12 مع عبد العزيز المقالح ما يؤكد ما ذهبنا إليه من أن الحداثة منهج فكري شامل يسعى للتغيير، يقول المقالح عند حديثه عن الأدباء الشباب : "وما يلفت الانتباه في تجربة هؤلاء الشبان أنهم لا يخضعون للثوابت ولا يجترون التعابير الشائعة والمبتذلة والسطحية ، مع حرصهم العميق على الربط بين الإبداع وضرورة التغيير" .
إن ما قلناه عن أهل الحداثة قبل قليل يؤكده المقالح هنا ، وهو تحطيم الثابت وضرورة التغيير .
وفي المدينة المنورة العدد 7210 ، لقاء مع شاعر تونسي حداثي اسمه المنصف المزغني، تحدث عن بعض زملائه الحداثيين عندنا، وبين أن رؤيتهم واحدة وإن اختلفت عباراتهم, وذكر أنهم يتجاوزون الحدود العربية في هذه الرؤية، يقول المزغني : "محمد الحربي، خديجة العمري، وعبد الله الصيخان، أصوات ثلاثة تُـغمس أقلامها في محبرة الحداثة، وتكتب متجاوزة حدودنا العربية ... أصوات ثلاثة ائتلفت في الرؤية والرؤيا، واختلفت في العبارة" .
وهذه الشهادة وإن اعتـز بها الحداثيون، لكنها في نظرنا شهادة إدانة لهم, وكشف عن هويتهم الفكرية التي لا تمت لأمتنا بصلة، ولا لواقعنا بعلاقة بل هو خلاف كل ذلك . ويقول الغذامي في عكاظ العدد 7566 الصفحة 7 : "من شرط الإبداع أن يكون فوق السائد والمألوف، وهو يرتـقي بمقدار تجاوزه لظروفه، مثلما أنه يتـناقض بمقدار تماثله مع تلك الظروف" .
ولكي تدرك ما هي الفوقية التي يطالب بـها الغذامي المبدع ـ كما يسميه ـ انظر إلى مقالة في نفس الصفحة لم يذكر اسم كاتبها، وعنوانها (في اليوم المحاميد والثابت المعنوي) والمقالة تـناقش ما كتبه خالد المحاميد الكاتب الحداثي في صحيفة اليوم قبل ذلك، وكانت الأسماء التي وردت في المقالة للاستشهاد بأقوالهم هم : تايلور، وشتراوس، ومالينوفسكي، وراد كليف براون، وهربرت ماركوس، ومما ورد في المقالة قول الكاتب : "ثم لماذا هذا الفصل غير المنهجي بين الثـقافة والحضارة، هل هو نتاج من نتاجات المرحلة البرجوازية، كما قد ذهب هربرت ماركوس من قبل في تحليله لإشكالية هاتين الكلمتين في الحضارة الغربية قائلا ما معناه : إن الفصل بين الثقافة والحضارة هو نتاج المرحلة البرجوازية" .
وهكذا تـنقل المصطلحات الغربية إلى واقعنا مهما كان يختلف عن الواقع الذي نشأت فيه تلك المصطلحات، وذلك أن الحداثيين جعلوا من شروط الإبداع أن نكون فوق السائد والمألوف؛ ولا أعلم في أي المراحل يصنف قسم من الحداثيين مجتمعنا ـ حسب فلسفتهم ـ إقطاع ثم برجوازية ثم بروليتاريا، وهذا المنهج القائم على فلسفة النقيض لكل ما هو موجود، والذي يستمد جذوره الفكرية من مناهج فلسفية مادية عانت منها البشرية الويلات، وهذا الكلام الذي أقوله له ما يؤكده في كلام كثير من الحداثيين . ومن ذلك قول الغذامي في عكاظ العدد 7517 في دراسة عن شعر الثبيتي قال فيها : "وفي المقابلة الأولى ـ مقابلة أجريت مع الثبيتي ـ كانت الخـلفية الشعرية واضحة المعالم، وكانت تـنم عن مشاعر مجرب يعرف ما هي القصيدة، ويعلم أنها عالم معقد, عالم واسع مشروع غامض، وأنها دخول في الزمن، وأنها مسافة شاسعة بين الواقع وبين غامض، وأنها دخول في الزمن، وأنها مسافة شاسعة بين الواقع وبين الحلم، وهي لذلك لا علاقة لها بالواقع لأنها واقع نقيض هو الحلم في النهاية" .
ونحن حين نؤكد بأن الحداثة والحداثيين ظاهرة مناقضة لعقيدتنا وأمتـنا، فإننا لا نتهمهم بل نقرر ما خطته أقلامهم ونشرته ملاحقهم الأدبية في الصحف السيارة، وإن كان بعضهم يستعجل نتائج التغيير، ويستبطئ مسيرة التطور، ويرفض المرحلة، فإنما يعبر عن صدق في التعامل من المنهج الحداثي، ومن ذلك قول عبدالرؤوف الغزال في عكاظ العدد 7461 : "هناك قناعات خاصة بي، بدأت تتبلور في وعيي، وهي عن جدوى النقد المطروح في الساحة، معظمه نقد اللحظة الآنية، هو مجرد تعليق على قصيدة نشرت في صحيفة، أو قصة ألقيت في أمسية عابرة، وذلك غير مجد بتاتاً، قد يقول البعض : إن ذلك ضرورة مرحلية، لكنها مرحلية أن يتأسس عبرها فكر نظري أو نقد تطبيقي، يجب أن يتهيأ نقاد وباحثون يشتغلون على مشاريع متكاملة، يؤسسون عبرها المتغيرات الاجتماعية في المستقبل" .
إن هذا الكلام الذي قاله الغزال يعبر بكل وضوح عن فهم الحداثيين للأدب والنقد، وأنه يجب أن يقوم بدور تغييري في المجتمع، وأن يتجاوز المرحلة التي يعيشها، لكنه بعد ذلك يؤكد أن ذلك لن يتحقق إلا من خلال تراكمات تاريخية حادة - كما يقول - وهذا الكلام يتطابق تماما مع المنهج الماركسي في التغيير، ويستخدم مصطلحاته مثل: المرحلة ـ المرحلية ـ التغيير الاجتماعي ـ التراكم التاريخي الحاد ـ . ويأتي أحمد عائل فقيه في صحيفة عكاظ العدد 7468 الصفحة 5 ليسخر من أولئك الذي لا زالوا يظنون أن الحداثة منهج أدبي لا منهج فكري، ويقول : "إن الحداثة ليست كتابة نص إبداعي فقط، وإنما هي موقف صارم وحاد إزاء الكثير مما هو راكد ومؤسي ... لقد صنعت أهميتها وحضورها المضيء، وأشعلت السؤال الكبير في أذهان الذين هم يقـفون خارج المرحلة، لأنها تجاوزت الرؤيا التي يمتلكونها والهم الاجتماعي الذي يحملونه أيضاً … إن مصطلح الحداثة أخذ شكلاً مطاطيّاً جعل أنصاف المثقفين، وجعل هؤلاء الذين يقفون ضد حركية الزمن يتحدثون دون وعي عن هذا المصطلح، فهو عندهم لا يتجاوز القصيدة فقط، فهو يرى أن الحداثة ـ فقط ـ مرتبطة بالقصيدة، وبوعي مثـقوب وممخور أيضاً، إنهم لا يدركون أنها رؤية شمولية للعالم، للحياة، لأشياء تُرى، لأشياء لا تـُرى ألبتة" .
هذه الشهادة التي أدلى بها رمز حداثي، لا تحتاج إلى بيان وإيضاح، بل هي توضح نفسها، وتحدد ما هي الحداثة التي لا زال البعض يظنها أسلوباً للكتابة فقط . وتأتي الشهادة مرة أخرى في نفس العدد من عكاظ الصفحة 7 حين كتب ماجد يوسف يقول : "وأؤكد للكاتب أن إدراك ما فاته يحتاج بالفعل إلى درجة عالية من الصبر وكبح جماح النفس، لسبر غور التجربة أو الحركة الجديدة، المغايرة والهادمة للسائد والمألوف، المستتب والمعروف" .
وتستمر صحيفة عكاظ في إيضاح ملامح المنهج الحداثي وتـحديد أبعاده الفكرية، ففي العدد 7490 الصفحة السادسة, مقابلة مع شاعرة لبنانية حداثية اسمها : نهاد الحائك . صدرت المقابلة بصورة الشاعرة، وفي جانب الصورة تقديم للشاعرة وتعريف بـها، ابتدأته الصحفية بقولـها : "صوت شعري يأتي ليخترق العادي، ويكسر كل ما هو مألوف" , وهذا هو المهم والمبرر لتقديم الشاعرة، والإشادة بـها أن تكسر المألوف، ثم كان من الأسئلة التي طرحت على الشاعرة السؤال التالي :
"ماذا تعني الحداثة لك ؟ هل هي موقف فني وفكري شامل من الحياة والمجتمع ، أم موقف فني جمالي فقط ؟ "
وكانت الإجابة من شاعرتـهم الحداثية قولها : "الحداثة طبعاً هي موقف تحرري" .
وحين تقدم الصفحة الأدبية من العدد 7524 من عكاظ خبراً عن ديوان الشاعر الكويتية الحداثية سعاد الصباح، توجه لـها عتاباً لأن قصائدها كما تقول عكاظ : "تظل تحمل في تضاعيفها تقليدية النظرة إلى الحياة والعالم" . وهذا تأكيد على أن للحداثة نظرة جديدة للحياة والعالم تخالف ما قرره الإسلام سلفاً .
وفي العدد 7489 من جريدة عكاظ الصفحة 5 يكتب أحمد عائل فقيه عن روايات اليساري عبد الرحمن المنيف ويؤكد أنها تعبر عن الإبداع بصدق, يقول: "المعوقات التي تأتي في صميم الواقع الاجتماعي، وكل التـناقضات الماضوية" ، وطبعا ما دام هناك تناقضات ماضوية ـ كما يقول ـ فسيكون نتيجة الصراع بين التـناقضات ظهور نقيض النقيض، وهو هنا الإبداع الحداثي، الذي يطمعون أن يؤدي إلى ما تمناه الدميني في الحديث السابق الذي نقلناه عنه، وهذا المنهج والمصطلحات لا تخفى أصولها الفكرية على أحد، ونحن حين نؤكد أن الحداثة منهج فكري شامل له نظرة خاصة في الحياة وأنـهم حين يضطرون للتعمية والغموض حتى لا تـنكشف لعبتهم قبل أوان كشفها، فإنـهم يقولون : إن الحداثة منهج أدبي وأسلوب للكتابة لا علاقة له بالأفكار المطروحة، وأن هذا المنهج يمكن أن يكتب به المسلم والملحد .
لكن يأبى الله إلا أن يكشف زيفهم وتظهر رائحة أفكارهم تـزكم الأنوف المؤمنة، وبين الغموض والمناورة والتطلع إلى الدعوة لأفكارهم صراحة يظهر المخبوء، فتـقيم صحيفة عكاظ في العدد 7412 الصفحة 9 ندوة بعنوان (نحو مفهوم شمولي للحداثة) وتجمع لـهذه الندوة من يمكن أن يقال إنـهم أعمدة الحداثة ورواد فكرها في البلاد والمنافحين عنها وهم: محمد العلي، وعبد الله الغذامي، وسعد البازعي، وعالي القرشي، وعثمان الصيني، وعبد الله الصيخان، وإليك بعض المقتطفات مما قيل في الندوة لتدرك بعد ذلك ما معنى الحداثة عند الحداثيين .
يقول العلي : "لا شك أن الشروط الاجتماعية التي أفرزت الحداثة الغربية ليست متوفرة لدينا، ولا يمكن توفرها إلا بعد عقود عديدة, فالحداثة هي ذلك الإفراز الجدلي الذي يتم بين السياقات، ووفق صراع لا يدرك بالعين المجردة, ذلك الإفراز الجدلي المتـقدم إلى الأجمل والأعمق في رؤية الإنسان والحياة هو ما أسميه وأعتقد بأنه الحداثة" .
إذاً فهو ـ أولاً ـ يعترف بأن الحداثة نبات غريب على أرضنا وحياتـنا، ولذلك فإن الواقع الاجتماعي عندنا يختلف عن الواقع الذي نشأت فيه الحداثة، لكنه يتوقع أن يصبح واقعنا مثل ذلك الواقع بعد سنين، وبالتالي فإن الحداثة عندهم هي الإفراز الجدلي الناتج عن الصراع الخفي في المجتمع، والتي ستؤدي بالمجتمع إلى رؤية جديدة للإنسان والحياة، وأرجو من أحد فصحاء الحداثة أو غامضيها أن يسعفنا بتفسير لـهذا الكلام، نستطيع أن نفرق به بين كلام العلي، وما يقوله الديالكتيك الماركسي في تطور المجتمعات .
أما قضية أن الحداثة رؤية جديدة للإنسان والحياة، فهذه لا تحتاج إلى أي استـنباط من كلام العلي، والعلي ـ هنا - يتفق تماماً مع ما سبق وأن طرحه الدميني وأحمد عائل .
أما الغذامي فقد أعلن نفسه في تلك الندوة حكما يحدد من المثـقف ومن الذي يجب أن يحرم من لقب الثقافة فقال بالخط العريض : "إمّـا أن يكون المثقف حداثياً أو لا يكون مثـقفا" .
وهكذا بكل بساطة ألغى الغذامي كل ما في هذه البلاد من علماء ومفكرين وأساتذة وجامعات ما داموا لا يجرون خلف عربة الحداثة، ويحرقون البخور حولها ولا يشيدون بالملاحدة والفجار الشاذين . وإننا نسأل الغذامي متى أصبحت أفكار بلزاك، وبارت، وبيرس، وشتراوس، وأمثالهم من أساتذته معياراً وميزاناً لتصنيف المثقفين من غيرهم في بلادنا وتحديد مواصفات ومقاييس الثقافة ؟؟! لقد حضرنا كثيراً من أمسيات الحداثيين المثـقفين عند الغذامي، ووجدنا بعضهم لا يفرقون بين الفاعل والمفعول، والاسم والحرف، بل رأينا وسمعنا بعضهم يسبقون الفعل المضارع بحروف الجر .
أما سعد البازعي فيؤكد ما تصدينا هنا لإثباته، وهو أن الحداثة نظرة شمولية جديدة للحياة كلها بمختلف جوانبها، وذلك في قوله : "الشيء الذي لا نزال نفتـقده أو يفتـقده منا في تصوره للحداثة، هو أساسها الفلسفي الذي يمنحها إطاراً شموليا، لا تـمثل فيه التغيرات الأدبية والفنية سوى جانب واحد … إن التصورات الأدبـية المعاصرة، شكل القصيدة أو اللوحة ليست إلا جزءاً من كل ، الحداثة رؤية شمولية للحياة" .
ويأتي القرشي ليؤكد هذا الكلام الذي قاله البازعي فيقول : "الحداثة فعل شمولي بحياة الإنسان" .
وكذلك الصيخان يقول : "إنـها (أي الحداثة) موقف شمولي من العالم ونظرية تطوره، ولا يمكن أن نفصل هنا بين تطور الفن وتطور الحياة" .
ويأتي عثمان الصيني فيكون أكثرهم صراحة - ربـما لأنه أقلهم إدراكاً لخطورة ما يقول في مثل مجتمعنا - حين قال : "إن الشمولية التي تميز الحداثة وتجعلها تتغلغل في جميع مناحي الإنسان والحياة، هي التي تجعل منها ضرورة ملحة للوجود، فهي تعيد تركيب علاقة الإنسان مع نفسه ومع العالم الخارجي، إمّا بالتعرف على الأشياء بصورة جديدة، أو إعادة خلقها من جديد، أو بابتكار مغاير للسابق، وذلك نتيجة لما تـقوم به من تعميق للوعي بـمخاطر الثبات وسلبيات السكون، وبالتالي الكشف عن الضرورة الملحة لمستويات التحرر المستمر من ربقة الإلف والعادة، وجنائزية تصنيف المدركات، والتكييف الأبدي لمعطيات الإنسان والحياة، وتتصف بشغف يصل إلى حد الهاجس بالحالية المتغيرة، والدخول في تجربة التغيير المستمرة، فهي عملية تحرر مستمرة، وثورة دائمة للوصول إلى الفاعلية الحرة، والنشاط المطلق، وبـهذا التصور لا تصبح الحداثة استلابا أو إسقاطاً يعيشه الفرد والمجموع ، إنما كينونة لا محيد عنها ووجود لا يتم إلا به" .
إن كلام عثمان الصيني هنا لا يحتاج إلى تعليق، بل إنه قال فيه كل ما أردنا أن نقوله هنا، من أن الحداثة منهج حياة جديد يسعى دعاتها لإحلالها مكان الإسلام عقيدة وسلوكاً ونظاماً للحياة في هذه البلاد، ولولا أن يظن القارئ أن هذه رؤية فردية خاصة لما حشدت جميع النقول السابقة، والتي ما هي في الحقيقة إلا غيض من فيض وقليل من كثير وأنت عندما تـقـلب أي عدد من أي صحيفة وصل إليها داء الحداثة، ستسمع نفس النغمة وتقرأ نفس الأفكار . فمثلاُ استمع إلى فايز أبا في عدد 7594 من عكاظ صفحة 8 وهو يقول : "الإبداع ليس غيبوبة تامة، فلا بد من موقف واع ، ورؤية مستـقبلية تجاه الكون والحياة والحركة الاجتماعية، التي أفرزته ليفرز وعياً يفرزها" .
وأرجو ألا يكون في القراء من يستبعد ما أردنا بـهذه النقول الكثيرة أن نثبته، من أن الحداثيين أصحاب فكر له نظرة خاصة للحياة والكون والإنسان، وأنـهم يسعون لكي يفرز هذا الفكر حركة اجتماعية خاصة، ولا شك أن ذلك سيؤدي إلى تغيير كل شيء في الحياة، وقد مثل فايز أبا لرموز هذه الحركة الإبداعية التي يتحدث عنـها بـمحمد العلي، وعلي الدميني، ومحمد الثبيتي، والدكتور أحمد الشويخات .
بعض مواقف الحداثيين لدينا من الإسلام وقيمه
بعـد أن تأكد لدينا من خلال ما تقدم، أن الحداثة منهج فكري متميز يسعى لتغيير واقع الحياة ليتـفق مع ما يطرحه ذلك الفكر من مفاهيم وأساليب للحياة، ومن نظرات خاصة لصياغة الإنسان وفق معطيات ذلك الفكر، فإن ما يـهمنا ـ نحن المسلمين ـ هو معرفة موقف هؤلاء الحداثيين من الإسلام، باعتباره ديننا ونظام حياتـنا، ومنهجنا الذي نعتـز به في هذا الوجود، ولا نرى الحق في شيء سواه في شتى مناحي الحياة الفردية والجماعية والعامة والخاصة، ونرى ألا سعادة للبشرية ولا نجاة لها في الدنيا والآخرة إلا في اعتـناق هذا الدين وأخذه تاما غير ناقص، كما بلّغه محمد صلى الله عليه وسلم . وإنني أحب لفت الانتباه إلى أن موقفهم المعلن - ولا أقول موقفهم فقط ـ من الإسلام يختلف من بلد إلى آخر حسب ظروف ذلك البلد، ومقدار قوة التدين فيه وضعفه، ولو أردنا أن نتحدث عن مواقفهم جميعاً من الإسلام لاحتاج ذلك إلى أسفار ضخمة، لكنني في هذا المبحث أعرضُ عن مواقف الحداثيين من خارج هذه البلاد، وأذكر بعض مواقف الحداثيين عندنا من الدين، وهم وإن كانوا ـ ولله الحمد ـ لا يستطيعون أن يجاهروا هنا بما يجاهر به إخوانـهم في الغي هناك، إلاّ أن الإسلام لم يسلم من أذاهم، ولو لم يكن من حربـهم له إلا إعلانـهم عن مبدأ جديد اسمه الظاهر الحداثة، وحقيقته الباطنة يعلم الله بها، وتصريحهم بأن هذا المبدأ له رؤية خاصة للكون والحياة والإنسان، وأنه يمنح الحياة بعداً جديداً يـهزها هزا؛ أقول لو لم يكن إلا هذا لكفى به حرباً للإسلام عقيدة وشريعة وعبادة ونظام حياة، ومع هذا ففي أقوالهم وكتاباتـهم من الحرب لدين الله الكثير غير هذا مما يمكننا أن نستعرض بعضه هنا . وهذه الحرب لـها مظاهر شتى منها : الاستهزاء بالإسلام كدين، ومنـها النيل من رسوله صلى الله عليه وسلم، أو كتابه الكريم، أو الحط من التاريخ الإسلامي، أو نشر الرذيلة وسوء الأخلاق مما يتـنافى مع ديننا، أو الترويج لبعض الأفكار التي الأخذ بـها يؤدي إلى ضياع أمتـنا، وإهدار تـميزها وتـفردها الذي كرمها الله به .
ولذلك أمثلة كثيرة منها قصيدة حداثية من الشعر الحر لـمحمد جبر الحربي الشاعر الحداثي المبدع كما يسمونه، وهذه القصيدة ألقيت في مهرجان المربد بالعراق بعنوان (المفردات), ثم نشرت في اليمامة في العدد 887 صفحة 60ـ61 ثم نشرت في الشرق الأوسط، الصفحة 13 وهذه القصيدة مليئة بالثورة والتبرم من كل شيء، وفيـها غمز ولمز في حق النبي صلى الله عليه وسلم وفي القرآن، فمن غموض هذه القصيدة قوله :
( قلت لا ليل في الليل ولا صبح في الصبح
منهمر من سفوح الجحيم
وقعت صريع جحيم الذرى
سألك جسد الوقت معتمر بالنبوءة والمفردات المياه
أيـها الغضب المستتب اشتعل
شاغل خطاك البال منحرف للسؤال
أقول كما قال جدي الذي ما انتهى
رأيت المدينة قانية
أحمر كان وقت النبوءة
منسكبا أحمر كان أشعلتها)
من هو يا ترى جده الذي انتهى والذي كان أحمر وقت النبوءة، وما هي المدينة القانية، وما هو الأحمر المنسكب الذي أشعله الحربي أو جده .
أما مواطن الغمز واللمز في هذه القصيدة فمنها قوله :
( أرضنا البيد غارقة
طوف الليل أرجاءها
وكساها بعسجده الـهاشمي
فدانت لعاداته معبدا )
أسئلة نوجهها للحربي ليجيب عليـها وليجلب بخيله ورجله، ويستعين بالمبدعين والنجوم المتجاوزين للسائد والنمطي كما يسميهم : لماذا أرضنا بيد قاحلة لا نبات فيه ولا ماء ؟ وما الذي أغرقها ؟ وفي أي شيء هي غارقة ؟ وما هو الليل والظلام الذي عم أرجاءها ولم يترك منها زاوية ؟ ومن هو الهاشمي الذي كساها بعسجده فدانت لعادته معبدا وحولها إلى أرض قاحلة غارقة في الظلام .
أيقال هذا الكلام في حق محمد صلى الله عليه وسلم الذي شرفت به هذه البلاد بل كرمت به البشرية، وهل كان صلى الله عليه وسلم مبلغاً عن ربه سبحانه وتعالى، أم أنـها عاداته ألزم الناس بـها حتى تحولت البلاد إلى معبد لعاداته فأصبحت بيداً غارقة ؟!
إنني أتحدى الحربي أن يخرج لنا هاشميا يمكن أن يقال إن عاداته أصبحت عبادة للناس غير محمد صلى الله عليه وسلم .
ثم يقول داعياً إلى الثورة والتمرد على كل شيء ومستهزئاً بالقرآن وتعاليمه :
( بعض طفل نبي على شفتي ويدي
بعض طفل من حدود القبيلة
حتى حدود الدخيلة
حتى حدود القتيلة
حتى الفضاء المشاع من رجال الجوازات
حتى رجال الجمارك
حتى النخاع يـهجم الخوف أنى ارتحلنا
وأنى حللنا
وأنى رسمنا منازلنا في الهواء البديل
وفي فجوات النـزاع باسمنا
باسم رمح الخلافة
باسم الدروع المتاع
اخرجوا فالشوارع غارقة والملوحة في لقمة العيش
في الماء
في شفة الطفل في نظرة المرأة السلعة
الأفق متسع والنساء سواسية منذ تبّـت وحتى ظهور القناع
تشتري لتباع وتباع وثانية تشترى لتباع )
وما يهـمني أن أقوله هنا هو التـنبيه إلى إفكه الذي افتراه بأن النساء كلهن أصبحن سلعاً تشترى وتباع منذ تَبَّت, وهذا لا شك إشارة إلى نـزول القرآن، وخاصة سورة المسد التي تحدثت عن امرأة أبي لهب المشركة التي يرى الشاعر الحداثي أن حديث هذه السورة الكريمة عن تلك المرأة، امتهان لكرامة المرأة وتحويل لـها إلى سلعة تشترى وتباع .
أما السبب الثاني الذي حول المرأة في نظرة إلى سلعة فهو ظهور القناع ، وهذا إشارة واضحة للحجاب الذي أمر الله به المؤمنات :
( منذ تبت وحتى ظهور القناع
تشترى لتباع وتباع وثانية تشترى لتباع )
إنني آمل من علماء البلاد أن يقولوا كلمة الحق في هذه القضية، وأن يؤدوا كلمة البلاغ والبيان التي كلفهم الله بـها، وأن يتذكروا يوماً يقفون فيه بين يدي الواحد القهار .
إن الحربي يريد من بناتـنا ونسائنا أن يخرجن متبرجات ملقيات للحجاب الذي فرضه الله، يختلطن بالأجانب من الفساق ويجلسن بينهم في الصفوف، وبـجانبـهم على المقاعد، كما حصل في مهرجان الشعر الخليجي الذي أقيم في جامعة الكويت، والذي نشرت صور المشاركين والمشاركات فيه في جريدة الوطن اليسارية الكويتية في العدد 4041 الصفحة 25، والذي يعلم الحربي قبل غيره ماذا كان فيه حين كانت تجلس خديـجة العمري بجوار أحمد الربعي الشيوعي الكويتي، ثم اعتلت المنبر هي وفوزية أبو خالد يلقين ما يسمى بشعر الحداثة مكشوفات الرؤوس ، فضلا عن الوجوه بين الرجال .
ومن صور الاستهزاء بـهذا الدين ما كتبه محمد العلي في مجلة الشرق عدد 362 الصفحة 38 عن المغني معبد، وعن أزمة الفن كما يقول في بلادنا، والتي أورد فيها فكرته بأسلوب ساخر بطريقة المسلمين في حفظ السنة النبوية الكريمة حين قال :
( حدثنا الشيخ إمام
عن صالح بن عبد الحي
عن سيد ابن درويش
عن أبيه، عن جده قال :
"يأتي على هذه البلاد زمان
إذا رأيتم فيه أن الفن أصبح جثة هامدة فلا تلوموه
ولا تعذلوا أهله
بل لوموا أنفسكم
قالـها وهو ينتحب
فتغمده الله برحمته
وغفر له ذنوبه )
هذا الحديث الذي نسجه خيال العلي ، ألم يـجد طريقة يتحدث بـها عن الغناء والمغنين ، إلا أن يقلد سند حديث النبي صلى الله عليه وسلم ، بل يقلد الحديث الشريف ذاته في ألفاظه .
ويأتي دور اليمامة في العدد 879 الصفحة 81 فيكتب سعد الصويان قائلاً : "من ينادون بدراسة الأدب الشعبي مثلهم مثل شعراء الحداثة والفنانين التشكيليين وغيرهم من الفقراء والمساكين، الذي تحوم حولهم الشبهات، وتوجه إليهم الطعنات، ليسوا في الحقيقة إلا أناس آلمتهم أعناقهم من النظر إلى الخلف، ومن الطأطأة أمام سلطان التاريخ، وتجرحت معاصمهم من قيود العادة والتـقليد، فحاولوا كسر الأغلال، وتجرحت معاصمهم من قيود العادة والتـقليد، فحاولوا كسر الأغلال ، وتجرأوا على رفع الرؤوس والتطلع إلى المستقبل . إنهم أناس سئموا الركض في الطرقات المسدودة، وملوا الرقص على الأسطوانة المسحولة . وإنه لمن دلائل العقم الفكري والقحط الثقافي، أن نبذر الوقت ونهدر الجهد في بحث شرعية هذه الاتجاهات واستصدار فتاوى بحق من يتعاطاها …. أيها الأوصياء والأولياء اتركونا نقفز ونلعب ولا تخافون علينا من السقوط، دعونا نأكل التفاحة، ولا تسارعوا بوضع أيديكم على أعيننا واتشاح مآزركم فلقد كبرنا وأصبحنا نعرف ما تخفيه المآزر" .
أي شيء يا ترى يجمع بين أهل الحداثة والصويان داعية الأدب الشعبي الذي حضر رسالة الدكتوراه في أمريكا في الفلكور الشعبي وينادي بإحلال العامي محل الفصيح ؟! أليس الأدب الشعبي من التاريخ والعادي والتقليدي الذي ورث من الأقدمين ؟ وكيف تبناه الصويان وحارب ما عداه الذي هو الإسلام واللغة العربية، وما هو الخلف والتاريخ الذي يشكو الصويان من ألم الأعناق وطأطأة الرؤوس بسبب النظر إليه، وهل هناك تاريخ يستحق أن ننظر خلفنا له غير هذا الدين الكريم، وهل في حياتـنا المعاصرة ما نـفخر به غير تاريخنا المجيد الذي يأتي الصويان طالباً منا أن نهدره ونتحرر منه، وما هي الطرقات المسدودة والقيود والأغلال التي يشكو منها ويطالب بتحطيمها، وهل هناك شيء غير أعرافنا وعاداتـنا المحكومة بديننا وشريعتـنا التي يرفض الصويان أن نحتـكم إليها لمعرفة اتجاهاته التي وفد بها إلينا حتى يكون في مأمن من المحاسبة والرد والنقـض لباطله، وما هو يا ترى الذي أصبح الصويان يعرفه مما تخفيه المآزر، من هم الأولياء والأوصياء الذي يطالب بإبعاد وصايتهم عن أصحاب الاتجاهات الحداثية، لعل الصويان أن يسعفنا ببيان شافٍ لـهذه التساؤلات .
وفي مجلة اليمامة أيضا العدد 906 صفحة 79 كتب عبد الله الزيد يستهزئ ويتضجر من أصحاب الثقافة التراثية، وذلك حين قال : "أدركنا من الجانب الآخر مدى المعاناة والاكتئاب والامتعاض من نوعيتين في ساحتـنا الثقافية . الأولى : من المتقدمين بالليالي والأيام والأجداد الذين يعيشون بيننا" .
ولا غرو أن يقول الزيد هذا فهم يسمون أصحاب العلم التراثي "المحنطين"، ويُسمون في بعض البلاد الأخرى الرجعيين، والسبب هو ما يحملونه من أفكار ودين وعقيدة، أما المنسلخون من دينهم، فإن الحداثيين يهللون لهم ويشدون بهم كما فعل الزيد نفسه في اليمامة العدد 907 صفحة 63 حين أشاد برسالة وصلته من أحمد الغامدي من الطائف، وقال : "أبتهج بهذه الرسالة وأحتفل بها بجانبين, الأول: أني أنقلها كاملة دون حذف لوجه الأمانة والصدق . والثاني : أني أقدم أنـموذجا مفرحا للمتـلقي الفنان الذي نبحث عنه ونفتخر به". وحتى تعرف أي نوع من الكتاب هذا الذي يبتهج به الزيد، أنقل لك مقتطفات من رسالته لترى موقفهم من دين الله يقول الغامدي:
"ولكني محاصر بوسط لا تـفهم لغته، ولا تستطيع تعلمها، ومحاصر بأصدقاء يربضون في داخلي كالمورثات اللعينة التي لا تفارق عمق كل رجل شرقي . أسألك بكل حبيب لديك، كيف يكون لي ما أريده أنا لا ما يريده الآخرون، لأنهم عاشوا كذلك، وماتوا كذلك، كيف أخرج من شرنقة الموروثات في حاضر يرضعني إياها منذ ولدت" .
هذه الرسالة التي ابتهج بها الزيد، والتي تتبرم من الموروثات التي لا تـفارق عمق كل رجل شرقي والتي يصفها الغامدي بأنـها لعينة، ونحن نعلم أن الرجل الشرقي لا يتميز عن الغربي إلا بالإسلام الذي هو الموروث لنا من سلفنا الصالح، والذي يستوي فيه جميع الشرقيين، فهل وصل العداء لديننا أن يلعن عل صفحات صحفنا جهاراً نهاراً ؟؟!! لا حول ولا قوة إلا بالله .
وتأتي صحيفة اليوم في العدد 4776 بـمحاضرة ألقيت في إحدى مدن المملكة، لمز المحاضر في أكثر من موضع سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم الثابتة بالأحاديث الصحيحة، وحشره مع غيرها باعتبارها من أسباب تخلفنا فكان مما قال : "ينسلخ عن الجوهر فما فيه من المثل والقيم والمبادئ ليغرق في هامشيات، وأقول يغرق لأنه للأسف ما زال غريقاً حتى اليوم، يغرق في ماذا ؟! في تحريم أو استكراه لبس الجلباب وتقصيره إلى ما فوق الكعبين، وضرورة الأكل باليمين، وكراهية استعمال الملعقة والشوكة والسكين، واستحباب لعق الأصابع، وكراهية أو تحريم الأكل على منضدة إضافة إلى مسائل أخرى منها الاحتفال بـمولد النبي، والتوسل بالأولياء والصالحين" .
وهكذا يحشر المحاضر العظيم، وتـنشر الصحيفة الحداثية هذه التشكيلة العجيبة التي حوت من التـناقضات مما لا يستطيع أن يجمع بينها إلا من حمل راية العداء للإسلام، أو الجهل به, أو جمع بين الأمرين، وإلا فمتى حارب الإسلام الأكل بالشوكة والملعقة أو على المنضدة ؟؟! ومتى أصبحت سنة النبي صلى الله عليه وسلم هامشية، يتهم من ينادي بها بالغرق في الهامشية سواء كانت الأكل باليمين أو تقصير لباس الرجل فوق الكعبين أو لعق الأصابع أو كراهية الشرب واقفا لغير حاجة ؟! ومتى أصبح الحديث عن بعض قضايا العقيدة، كالمولد والتوسل بالأنبياء والصالحين من الهامشيات ؟؟!
ثم يواصل المحاضر استهزاءه بالعلماء الذين ينافحون عن الدين فيقول : "لا أنسى طبعاً أن أجلاء العلماء كانوا عبر عصور وما زالوا حتى اليوم يبذلون جهوداً متواصلة للتذكار بحرمانية لعب الشطرنج والنرد وحلق اللحى والغناء والرسم والموسيقى، مما نعلم أنه معلوم وراسخ في أذهان الفتيات والفتيان في المجتمعات العربية والإسلامية وبدليل ما نرى ونشاهد في الفيديو والتلفزيون منذ سنين".
وهكذا ما دام المحاضر قد نصب نفسه حكما بين ما هو الصالح وما هـو الهامشي في الإسلام، فالواجب على العلماء ألا يجرحوا مشاعره ويرفعوا أصواتـهم ضد ما يحبذ ويحبه، وليطوع الإسلام رهن مراده وإشارته . وإن تعجب أيـها القارئ مما تقدم، فليزدد عجبك حين تعلم انه في المحاضرة نفسها طالب أن تدرس جامعاتـنا أفكار رانجيسكوا، وبولتن، وبسيو، وكارل ماركس, وسارتر، واكسن, وقال إنه لا ضير من ذلك بل يجب كما قال : "أن تـفتح النوافذ ونتـنفس الهواء الطلق" .
ويا لحقارة هؤلاء، سنة محمد صلى الله عليه وسلم عندهم هامشيات، وأفكار ملاحدة الغرب هواء طلق. قال تعالى {لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا} .
وأنت أيـنما اتجهت للبحث والقراءة في أدب الحداثة ، ترى التجرؤ على الله ورسوله ودينه .
يقول السريحي في كتابه (الكتابة خارج الأقواس) ص 37 : "من شأن البعد الإنساني الحر الذي تتسم به رؤيا الفنان أن يجعل انفصاله عن الجماعة أمراً قدريا لا مندوحة عنه بحيث يصبح الفنان مصدر حيرة، لا يحلها إلا مثل ذلك الحل الذي يرى أن للفنان شيطاناً يلقي على لسانه ما يقول، وهو حل مع سذاجته إلا أنه واضح الدلالة على حيرة الجماعة وعجزها, حيرة وعجزا يبلغ بـهما حد الخروج عن المنطق، كون الفنان يعيش بين الناس ويأكل في الأسواق" .
إننا نعلم أن الذي استغرب الناس أكله الطعام ومشيه في الأسواق هو النبي صلى الله عليه وسلم، فهل أصبح الأنبياء في نظر السريحي مجرد فنانين أتوا بما يخالفون به السائد ـ كما يقول ـ ؟؟!! وهل يريد السريحي أن يقول : إنه ما دام النبي فنانا، فإنه يجوز للفنان الذي يجيء بعده أن ينقض ما أبرمه النبي ويلغي ما بلـّـغه ؟؟!
أسئلة أبحث عن الإجابة عنـها في كلام السريحي فقط، أو لعلنا نجد الإجابة فيما نشرته مجلة اقرأ العدد 604 صفحة 64 حين نشرت صورة جنين مشوهة وكتب تحتها تقول : "ما الذي يجعل الطبيعة تخطئ أحيانا، وهل حقا سيصبح بإمكان الإنسان التصحيح" ؟؟!
إذا فهي الطبيعة تتصرف وتخطئ أحيانا فقط، أما قدرة الله وتصرفه في الكون فأمر آخر لا علاقة له بالموضوع {وقالوا إن هي إلا حياتـنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر} .
أما الاستهزاء بالتاريخ الإسلامي وقيمه ومجده فحدث ولا حرج، فمثلاً نشرت اليمامة العدد 900 صفحة 81 قصيدة للشيوعي العراقي عبد الوهاب البياتي بخط يده، تحت عنوان (الولادة في مدن لم تولد) وكان مما قال فيها :
( أدفن في غرناطة حبي
وأقول لا غالب إلا الحب )
غرناطة التي كانت آخر معاقل المسلمين في الأندلس والتي كتب على جميع جدران قصر الحمراء فيها عبارة (لا غالب إلا الله)، فيأتي البياتي وفي مجلة سعودية فيعارض ذلك بقوله (لا غالب إلا الحب) .
وفي صحيفة الرياض أيضا العدد 6777 الصفحة 7 نشرت قصيدة فيها كثير من الغموض بل كلها غموض، لكن ما يثير التساؤل فيها هو تكرار الشاعر مرتين قوله : ( الله الله أنا آه ) .
وحقيقة إنني وقفت أمام هذا حائراً، ماذا يريد بقوله، وماذا يقصد به ؟
أما الرموز الوثنية فما أكثرها في شعرهم كما سبق أن تحدثنا عن ذلك .
فمثلاً في قصيدة محمد الثبيتي (تغريبة القوافل والمطر) والتي قدمت مع الأسف في فرع جمعية الثقافة والفنون بالقصيم مسرحيا, واجتمع لها نقادهم ومبدعوهم - كما يسمونهم - من مختلف المناطق، وشغلوا الصحف بذلك أياماً كثيرة، وقدموا عنه الدراسات الأدبية، أقول في هذه القصيدة ردد الثبيتي عبارة : ( يا كاهن الحي ) ست مرات وكان مما قاله فيها :
( أيا كاهن الحي
إنا سلكنا الغمام وسالت بنا الأرض
وإنا طرقنا النوى ووقفنا بسابع أبوابـها خاشعين
فرتل علينا هزيعا من الليل والوطن المنتظر
شدنا في ساعديك واحفظ العمر لديك
هب لنا نور الضحى وأعرنا مقلتيك
واطو أحلام الثرى تحت أقدام السليك
نارك الملقاة في صحوننا حنت إليك
ودمانا مُذ جرت كوثراً من كاحليك
لم تـهن يوما وما قبلت إلا يديك
سلام عليك )
إن مما تعلمناه من أبجديات الإسلام في طفولتـنا هو أن الدعاء مخ العبادة، وأن دعوة غير الله شرك لا يجوز، فمن هو هذا الكاهن الذي يناجيه ويتضرع إليه الثبيتي ويطلبه أن يهب له نورا، ويشده في ساعديه ويحفظ العمر ويعيره مقلتيه، ثم يستمر الثبـيتي في التقـرب إلى كاهنه والشكوى إليه حين يقول :
( يا كاهن الحي
طال النوى
كلما هل نجم ثنينا رقاب المطي
لتقرأ يا كاهن الحي
فرتل علينا هزيعاً من الليل
والوطن المنتظر )
أي وطن هذا الذي يرجو الثبيـتي من كاهنه أن يرتله عليه ؟!
وإن أردت الاستـزادة من الوله بالكاهن والكهانة فانظر القصيدة في مجلة اقرأ العدد 600 صفحة 32 .
أما في جريدة عكاظ العدد 7482 في زاوية منهم وإليـهم فقد اجتمع مع الكهانة الفساد الخلقي، حين وجه الحداثي أحمد سماحة سؤال للحداثية فوزية أبو خالد يسألها فيه لماذا غاب صوتـها الشعري رغم أنها - كما يقول - صوت مثقف واع . فأجابته إجابة طويلة مليئة بالدس الرخيص والانحطاط الخلقي وكان مما قالت : "من البدء سأختلف معك، سؤالك ليس سؤالا تقليديا، ولكنه سؤال طبيعي في مناخ يخاف مواجهة الطبيعة، ويحتمي منها بالقرابين، ونذر الصبايا، وتعاويذ الكهنة".
ترى أي مجتمع هذا الذي تتهمه فوزية بأنه يخاف من مواجهة الطبيعة ويلجأ للقرابين والنذور والكهنة, وهل نحن في مجتمع وثني بدائي أو نحن في معقل العقيدة الصافية النقية، ومنطلق الدعوة الإسلامية ؟؟
لكن هذا الكلام لا يستغرب ممن بلغ إسفافها الخلقي أن تقول في نفس الإجابة واصفة السؤال الذي وجه إليها بالجمال : "سؤال جميل كتجريب الأطفال تحت بيت الدرج أو على السطوح لاكتشاف سر همهمة الليلة السابقة، والود المفاجئ بين الكبار بعد كل سباب النهار" .
هذا هو الجمال عند فوزية أبو خالد الحداثية المبدعة، المجتمع قرابين ونذور وتعاويذ كهان, والأطفال إباحية جنسية تحت بيت الدرج وفوق السطوح ، أما الصفاء العقيدي والتربية القويمة فلا وجود لـها في مجتمعنا في نظر فوزية .
ومَنَ يكُ ذا فَمٍ مـُرّ مريضٍ 0000000 يـجد مـّرا بهِ الماءَ الزُّلالا