وهكذا يرى الغذامي أنه يجب ألا تدخل العقائد والمذاهب الفكرية عند نقدنا للنصوص، لكنه يؤكد أن ذلك مطلوب الآن فقط . وهذا ما يشير إلى أنه مجرد مرحلة يسعون لتجاوزها، بعد أن يخدروا بمقولاتها من سيكون عقله قابلاً للتخدير، بل ذلك هو ما كشف عنه الغذامي وباح به في نفس المقابلة حين قال : "الذي نعرفه نحن أن من طبيعة الإبداع التمرد على كل ما هو سابق من قبل، فكيف بي أفرض سائداً سابقاً على نص متمرد، هذا السابق يشمل الأيديولوجية، ويشمل الفلسفة ويشمل المبدأ المقرر سلفا" .
وبسرعة فائقة انقـلب الغذامي الذي كان ينادي بمحاكمة النص إلى الوسائل الفنية اللغوية، التي رأينا بعض حملتهم القذرة عليها قبل قليل ... أقول : هكذا انقلب داعياً إلى أن يكون الأدب تمرداً على كل عقيدة ومبدأ وفلسفة مما هو سائد سابق على النص . وهل لدينا من مبدأ أو عقيدة سائدة قبل النص غير الإسلام ؟!
أما ما هي المعايير الفنية واللفظية النصية التي ينادون بـمحاكمة النصوص إليـها بعيداً عن العقائد والمبادئ فلا أعلم أي معايير يقصدون، بعد أن نادَوا بتحطيم اللغة، وجعلوا تحطيم دلالاتها وتغيير قواعدها والقضاء على معانـيها شرطاً أساسياً لكل عمل إبداعي لـديـهم .
يقول السريحي في صفحة 87 من كتابه (الكتابة في خارج الأقواس) : "ولهذا فإن استخدام الشاعر للكلمة يبدأ بتحطيم الدلالة الوضعية لها لكي يتمكن من أن يطلق ما يكمن فيـها من طاقات شعرية ….. وذلك هو ما يـجب أن يأخذه الناقد في عين الاعتبار عند تعامله مع لغة المتن الشعري، لأن عمله يبدأ بتحرير المعاني التي غرسها الشاعر في اللغة عندما استحالت على يديه إلى رموز" .
يلغون العقائد والمبادئ من موازين ومعايير النقد للأدب، وينادون بتحطيم اللغة وإهمال قواعدها ودلالاتها تماما. فما هو يا ترى المعيار الذي يريد الحداثيون أن نتخذه نبراساً لنا عند نقد الأدب ؟
يقول السريحي في صفحة 39 من كتابه : "وما ينبغي علينا إزاء هذه التقابل بين الرؤيا الفردية والرؤيا الجماعية هو أن نتحرر من الاحتكام إلى معيارية الخطأ والصواب" .
وهكذا ينادون بإلغاء كل شيء حتى تصبح الأمة ذات عقلية فارغة لا مبدأ لـها حتى يمكنـهم بعد ذلك تحديد اتـجاهها، وإنشاء مبادئ جديدة لـها ؛ ألا ترى أنـهم يتـفقون جميعاً على استبعاد القديم والسائد والنمطي - كما يسمونه - وإنني أرجو منهم أن يثبتوا لنا شيئاً ، ينصب عليه كلامهم غير ديننا.
أما الأمر الثاني : وهو إثبات أن الحداثة منهج فكري، ذو نظرة محددة للكون والحياة والإنسان، وعلاقتـها ببعضها وبدايـتها وغايتـها ونـهايتها، وأنه يتخفى تحت مسميات الأدب الجديد والحداثة في الأدب ، فهـذا ما سنتحدث عنه في هذه السطور .
نشرت صحيفة اليوم في العدد 4762 تحقيقاً عن ندوة الحداثة والتجربة الشعرية في الخليج، والذي يهمنا في الموضوع ثلاثة أمور :
الأول : أنه وإن كانت الندوة في الكويت, ولكن صحيفة سعودية نشرت ما دار فيها وأثـنت عليه .
الثاني : أنه مثل السعودية فيـها ـ مع الأسف ـ فوزية أبو خالد، وأسفي هنا لأنها نشرت صورتـها في الصحف الكويتية، ثم في صحيفة اليوم السعودية متبرجة ناشرة لشعرها، بل في بعض الصور وهي تلقي الشعر على الجماهير الكويتية ، ويـجب ألا ننسى أنـها محاضرة لبناتـنا في إحدى الكليات .
الثالث : وهو المـهم ؛ لنستمع لما قال بعض المشاركين في الندوة .... يقول إبراهيم غلوم أحد المتحدثين في الندوة : "إن الحديث لا يـمكن أن يتم إلا في حوار حضاري ديمقراطي، كالمجتمعات الأوربية التي استقرت فيها الحركة الديمقراطية، وإن أطروحة التغيير هنا لا بد وأن تصطدم بالمؤسسات والقوانين والعادات والآداب العامة، وأرى أن الشاعر في الخليج في الوقت الراهن قد عبر عن التـفتح الجديد بقصيدة جديدة، واستطاعت أن تؤدي هذا دون أن تصطدم مباشرة بالرموز المباشرة، وأؤكد أن القصيدة الجديدة ظلت في معزل عن الصدام المباشر مع رموز التخلف، لأنـها تصطنع دائماً رموزا بديلة" .
إذا فهم أصحاب طرح تغييري ولا يمكن أن يكون ذلك إلا لأصحاب مذهب فكري محدد. ولذلك فهو يؤكد أن الصدام بينهم وبين كل شيء في هذه الأرض من قوانين وعادات وآداب بل ومؤسسات، لا بد منه. وأرى أنه عبر بصدق وصراحة عما يعبر عنه كثير من الحداثيين بلف وغموض ومداورة، وهو هنا يتحدث عن لازمة من لوازم المنهج الشيوعي في التغيير، إنه الصدام أو ـ كما يسمونه ـ العنف الثوري . لا يرضون بالتغيير السلمي ولا يقرونه وسيلة من وسائلهم، لكنهم لا يقدمون على ذلك إلا بعد أن يشتد عودهم ويقوى ساعدهم، أما قبل ذلك فهم يتسترون وراء كثير من الرموز قد يكون منها الوطنية، وقد يكون منها الديمقراطية، ولكنهم في النهاية لا بد وأن يقضوا على رموز التخلف كما سماها غلوم، والذي يظهر- والله أعلم ـ أنـهم يستعدون منذ الآن لـهذا الصدام القادم الذي يدفعون الدنيا له دفعا . استمع إلى من اعتبروها ممثلة سعودية في الندوة حين تقول : "إن القصيدة الحديثة التي تحاول أن تؤسس تجربتـها، قد خلعت كل ملابسهاالمهيبة والمنيشنة، والصدام القادم هو صدام على حرية القصيدة" .
وهكذا ما دام أن فوزية أبو خالد قد خلعت لباس الحشمة والوقار ووقفت على المنابر بين الرجال، بلا ساتر ولا حجاب وجلست بينهم في الصفوف، فهي تستعجل أيضاً أن تخلع أفكارها وأفكار رفاقها ملابـسها ونياشينها، لتكون الدعوة إليها مكشوفة معراة بلا غموض ولا شعارات مرحلية بل تستعجل الدخول في الصدام القادم كما تسميه .
وفي مجـلة اليـمامة العدد 901 صفحة 62 يقول أحد الكتاب الحداثيين : "ينبغي أن نخلع جبة الأصول وقلنسوة الوعظ، لنترك للشاعر حرية مساءلة التجربة ونقض الماضي وتجاوزه، ولنترك لأنفسنا فسحة لنصغي لتجربته الجديدة، وما تـقترحه من أسئلة، ليس هذا من حق الشاعر فحسب ولكنه حق حياتـنا المعاصرة علينا".
تحت دعوة إتاحة الحرية يسعى الحداثيون لتدمير حياة الأمة الفكرية وثوابتها العقدية، إذ كل شيء عندهم يجب أن نترك للشاعر الحرية أن ينقضه لا أن ينقده فقط، وأن يتجاوزه لا أن يقف عنده فقط، لأن الماضي عندهم ليس أكثر من تجربة، يجب أن تـزاح ويحل مكانها تجربة جديدة، وعندما نلتـزم بنصيحة الحداثي المبدع ونخلع جبة الأصول ونحطم اللغة ونبتعد عن قلنسوة الوعظ، نصبح أمة لا جذور لها ولا ثابت في فكرها ولا حياتها، بل كل شيء قابل لأن يتغير ويتبدل، العقائد والأخلاق والسلوك، وعند ذلك تكون الحداثة وأهلها قد أدوا دورهم كاملاً، الذي لن يتحقق بإذن الله ما دام في أرض الإسلام من يعي أساليبهم ويرد كيدهم في نحورهـم .
وفي أمسية حداثية أقيمت في الباحة في 16/11/1406هـ وشارك فـيها من أعمدة الحداثة محمد العلي, وعثمان الصيني، وسعيد السريحي، وعلي الدميني، وعبد المحسن يوسف، ونشرت الأمسية في مجلة الشرق العدد 369، تبدي كثيرا مما كان يخفيه الحداثيون ... فمثلاً يقول السريحي في تلك الأمسية : "للحداثة مفهوم شمولي، هو أوسع مما منح لنا ومما ارتضينا لأنفسنا، ذلك أن الحداثة نظرة للعالم أوسع من أن تؤطر بقالب للشعر، وآخر للقصة وثالث للنقد، إنها النظرة التي تمسك الحياة من كتفيها، تـهزها هزاً، وتـمنحها هذا البعد الجديد" .
الله أكبر، لقد استبان الصبح لذي عينين، فلم تعد الحداثة مجرد قوالب أدبية وأشكال تعبيرية للشعر والنثر والنقد كما يصرون ويريدون أن يقنعونا كلما أراد أحد أن يعترض عليهم، بل هي منهج شمولي أتوا به لكي يمنح الحياة بعداً جديداً، وينشيء فيها واقعاً جديداً، وهذه لم تكن فلتة لسان من السريحي، بل هناك من أقواله وكتاباته ما يؤكد ذلك . وهم ـ الله أعلم ـ لا يقولون ذلك إلا ليروا مدى رد فعل الناس، حتى يقرروا خطواتـهم القادمة، أو أنهم اطمأنوا إلى أن الناس معهم، أو أنـهم مغفلون لا يعلمون ما يقولون .
ومثل قول السريحي يقول أحمد عائل فقيه في عكاظ العدد 7371 الصفحة 10 : "إننا في مجمل الأحوال نسير في اتجاه معاكس لما هو سائد ومكرس في بنية المجتمع، وذلك هو المأزق الثقافي الشائك الذي لا تدري كيف يمكن بالكاد تجاوزه وتخطيه، أنت في كل هذا تصطدم مرة أخرى بجملة حقائق ومسلمات اجتماعية ثابتة راسخة رسوخ الجبال الرواسي في أذهان الناس . ألا بديل لما هو سائد ومكرس أيضاً ؟ إذا كيف يمكنك تمرير ما تحلم به، وما نود أن تقوله علناً" .
إنـها حقائق خطيرة تتجلى لنا في كتابة الحداثي أحمد عائل، لا بد أن يعيها كل مسلم غيور على دينه وبلاده رافضاً لما يخطط الأعداء لـها من محاولات إفساد وتدمير، ومن هذه الحقائق :
1- أن الحداثيين يسيرون في خط معاكس ومغاير ومناقض لما في مجتمعنا من مثل إسلاميـة وقيـم إيمانيـة .