كان جونثان نويل قد تعدى الخمسين من عمره،عاش منها عشرين عاماً خلت من أية أحداث ، حتى فاجأته مشكلة الحمامة التي ذهبت بين ليلة وضحاها بالأمان الذي كان يحياه . لم يكن يتخيل أن يحدث له في حياته أي شيء ذي أهمية ما عدا موته ، وهذا يناسبه تماماً فهو لا يحب الأحداث ويكره بشكل خاص تلك التي تهز توازنه النفسي وتحُدث فوضى في رتابة حياته اليومية.
إن أكثر هذه الأحداث ، ولله الحمد ، تمكث بعيداً جداً في الفترة الكئيبة الممتدة ما بين طفولته وصباه .تلك الأحداث التي لا يود أبداً استرجاعها بذاكرته ، وإذا فعل فإن ذلك كان يسبب له ضيقاً عظيماً : منها أنه في عصر يوم صيفي من شهر تموز من العام 1942 في شارنتون كان عائداً إلى المنزل من صيد السمك – في ذلك اليوم الذي هبت فيه عاصفة أمطرت بعد طول جفاف ، فخلع حذاءه ومشى بقدمين عاريتين على الإسفلت الدافئ ، حيث كان التوثب في تجمعات الماء الصغيرة التي يشكلها المطر على الإسفلت إحدى أكبر المتع عنده – كان إذن عائداً من الصيد إلى البيت ، مسرعاً إلى المطبخ آملاً أن يجد أمه وقد حضرت الطعام ، إلا أنه لم يجدها ، فقط وجد مريلتها معلقة على مسند الكرسي: أمك ليست هنا ، قال له أبوه ، لقد اضطرت للسفر وسوف تبقى بعيداً لفترة طويلة . أما الجيران فقد قالوا له شيئاً آخر ، قالوا إنه قد تم ترحيلها ! وضعوها أولاً في الصالة الرياضية المغلقة ، ثم نقلوها إلى معسكر (درانسي)ومن هناك باتجاه الشرق حيث لا أحد يعود .يومها لم يفهم جونثان ما حدث لأن ما حدث شوّشه تماماً .بعد أيام قليلة اختفى أبوه أيضاً ، ووجد جونثان نفسه وأخته الصغيرة فجأة في قطار يتجه جنوباً يرافقهم رجال غرباء قادوهم بعد مغادرته عبر مرج أخضر ثم غابة صغيرة ، وركبا بعدها قطاراً آخر متجهاً مرة أخرى إلى الجنوب في رحلة طويلة ، طويلة جداً ، استقبلهما في نهايتها في (كافايون) عمٌ لمهما لم يسبق لهما رؤيته فيما مضى ، اصطحبهما إلى مزرعته قرب (بوجيه) حيث خبأهما حتى نهاية الحرب ، وسمح لهما بعد نهايتها بالعمل في حقول الخُضار.
في أوائل الخمسينات – كان جونثان قد بدأ يستهوي حياة الفلاحة – طلب منه عمّه أن يذهب ويتطوع في الجيش ، فما كان منه إلا أن أطاع وتطوع لمدة ثلاث سنوات ، قضى منها السنة الأولى وهو يجهد نفسه للتكيف مع القسوة الكريهة للحياة مع الجماعة والإقامة في الثكنات ، وفي السنة الثانية تم شحنه بحرا إلى الهند الصينية ، أما السنة الثالثة فقد قضاها في المشافي الميدانية إثر إصابته برصاصة في قدمه ، ثم بأخرى في فخده ، ثم بسبب عدواه ومرضه بالديزنطاريا . وحين عاد إلى بوجيه في أوائل العام 1954 وجد أن أخته هي الأخرى قد اختفت – قيل له إنها ربما هاجرت إلى كندا – فأمره عمه هذه المرة أن يسرع بالزواج وتحديداً من فتاة تدعى ماري بكّوش من بلدة (لوري) المجاورة .جونثان ، الذي لم يسبق له أن رأى هذه الآنسة من قبل ، استجاب لهذا الأمر بطيبة خاطر ، لا بل بكل الترحيب ، فرغم أنه لا يملك تصوراً واضحاً لما يمكن أن تكون عليه الحياة الزوجية بشكل عام ، إلا أنه كان يتمنى أن يجد فيها أخيرا أسمى ما ترنو إليه ذاته : حياة رتيبة هادئة لا يعكر صفوها أي حدث. إلا أنه وقبل مضي أربعة أشهر على زفافه أنجبت ماري ولداً،وفي الخريف من العام نفسه هربت مع بائع خضار تونسي كان يعمل في مرسيليا.