بناء على ماسبق،توصل جونثان إلى حقيقة مفادها أن الناس لا يمكن الوثوق بهم أو الاعتماد عليهم،وأن المرء لن يجد الطمأنينة والسلام في حياته إلا إذا نجح في الابتعاد عنهم. ولأنه أصبح مثار سخرية الناس وتفكههم – هذا بحد ذاته لم يزعجه قدر انزعاجه من كونه قد أصبح،وبسبب ما حدث محط اهتمام الرأي العام-فقد أقدم ولأول مرة في حياته على اتخاذ قرار يخصه،فذهب إلى بنك التسليف الزراعي وقام باسترداد كل مدخراته، ثم حزم حقيبته وتوجه إلى باريس.
في باريس صادفه حظ كبير مرتين: المرة الأولى حين عملا بوظيفة حارس،في بنك يقع على شارع(دوسيفر)،والمرة الثانية حين وجد مأوى في إحدى ما يسمّى بغرف الخدم في الطابق السادس من مبنى يقع على شارع (دولابلانش).يمكن الوصول إلى الغرفة عن طريق الفناء الخلفي للمبنى صعوداً على درج الخدمة الضيق،ومروراً بممر ضيق ذي نافذة صغيرة يدخل منها ضوء شحيح من النهار،يوجد فيه دزّينتان من الأبواب المدهونة باللون الرمادي،والمرقمة بالترتيب حتى الرقم 24 ،حيث غرفة جونثان التي تبلغ حوالي ثلاثة أمتار وأربعين سنتيمتراً طولاً ومترين ونصف المتر عرضاً،وتضم من وسائل الراحة سريراً وطاولة وكرسياً ومصباحاً وعلاقة ملابس ولا شيء آخر.فقط في الستينات تم تقوية خطوط الكهرباء بشكل أتاح للمرء أن يقتني سخاناً كهربائياً للطبخ وآخر ذي وشائع للتدفئة،ثم وُصّلت مواسير الماء إلى الغرفة مما مكن من تركيب مغسلة وسخان ماء.حتى ذلك الزمان كان ساكنو هذه الغرف في ملحق العمارة،في حال عدم توافر موقد كحول لديهم-كان يمنع عليهم استعماله رسمياً-ينامون في غرفهم الشديدة البرودة،ويغسلون جواربهم وأوعية أكلهم القليلة،ويستحمون أيضاً بالماء البارد في حوض وحيد في الممر المؤدي إلى الغرف بمحاذاة المرحاض المشترك.كل هذا لم يكن يسبب لجوناثان أي ضيق،فهو لا يبحث عن الرفاهية بل عن مأوى مستقرٍ يكون له،له وحده،يحميه من المفاجآت المزعجة في هذه الحياة،مأوى لا يمكن لأيٍ كان أن يطرده منه.
حين حطت قدمه في الغرفة رقم24 لأول مرة أتاه اليقين على الفور:هذه هي! في الواقع لقد كنتَ دائماً تبحث عنها،وهنا سوف تبقى.تماماً كما يحصل على ما يبدو لبعض الرجال حين يقعون في الحب من أول نظرة،
عندما يقع نظرهم على امرأة لم يسبق لهم رؤيتها في حياتهم من قبل،يبدون كما لو أن مساً أصابهم فتتملكهم القناعة أن هذه هي المرأة الحلم،المرأة التي يريدون ويرغبون البقاء معها حتى نهاية العمر.
استأجر جوناثان الغرفة مقابل أجر شهري مقداره خمسة آلاف فرنك قديم،وكان يذهب من هنا كل صباح إلى مقر عمله في شارع دوسيفر القريب،ثم يعود مساءً ومعه خبز وسجق وتفاح وجبن،يأكل وينام ويشعر بالسعادة والرضى.خلال أيام الآحاد ما كان يغادر الغرفة مطلقاً بل ينظفها ويغير ملاءة سريره.هكذا عاش بهدوء ورضى عام بعد عام وعقداً بعد عقد.خلال هذه الفترة تغيرت بعض الأمور السطحية مثل قيمة الإيجار ونوعية المستأجرين. ففي الخمسينيات كان أكثر قاطني العرف من الخادمات والأزواج الجدد وبعض المتقاعدين،ثم أصبح المرء يرى الإسبانيين والبرتغاليين والأفارقة الشماليين يأتون ويرحلون،وفي أواخر الستينات كانت الأكثرية من الطلبة، ثم أخيراً، بدأت الغرف تخلو من ساكنيها من المستأجرين،وأصبح بعضها يستعمل من قبل مالكيها القاطنين في الطوابق السفلية كمخازنٍ للعفش والأدوات القديمة، أو كغرف لإقامة ضيوفهم من وقت لآخر.أما غرفة جوناثان رقم 24 فقد تحولت إلى واحة راحة، حيث اقتنى سريراً جديداً،وفصّل خزانة ملابس وفَرَشَ أرضها ذات سبع الأمتار والنصف المربعة بالسجاد،ثم كسا ركن الغسيل والطبخ فيها بورق جدران ذي لون أحمر لمّاع،كما أصبح يمتلك مذياعاً وتلفازاً ومكواة ملابس.أما طعامه فلم يعد يعلقه بأكياس خارج النافذة كما كان يفعل حتى وقت قريب، بل أصبح يضعه في البراد الصغير الموجود تحت حوض الغسيل، يحمي فيه الزبدة من الذوبان،والسجق من الجفاف حتى في أشد أيام الصيف قيظا.فوق رأس السرير،قام بتركيب رفٍ صفّ عليه ما لا يقل عن سبعة عشر كتاباً:موسوعة جيب طبية من ثلاثة أجزاء بعض الكتب المصورة الجميلة عن إنسان الكرومانيون،وآخر عن تقنية صب وتشكيل البرونز في العصر البرونزي،وثالث عن مصر القديمة،ورابع عن الأتروسكيين والثورة الفرنسية،وخامس عن السفن الشراعية، وسادس عن أعلام الدول،وسابع عن عالم الحيوانات المدارية.ثم روايتين لألكساندر دوما الأب،ومذكرات القديس سيمون،وكتاب لتعليم الطبخ وقاموس لاروس الصغير،وأخيرا(الكتاب المقدس) الخاص برجال الحراسة والحماية مع التركيز على الحالات التي يُسمح فيها باستعمال السلاح الناري.
تحت السرير كانت ترقد دزّينة من زجاجات النبيذ الأحمر، من بينها زجاجة شاتو شوفال بلان غراند كرو كلاسّ
(Chateau Cheval Blans qrand cru class) كان يحتفظ بها لنفسه ليحتفل بيوم إحالته إلى التقاعد عام 1988 .أما نظام الإضاءة للغرفة فقد تم تصميمه واختراعه بعد جهد مضن بحيث يتمكن جوناثان من التحكم بها من ثلاث نقاط،من جهتي رأس وأسفل السرير،ومن على الطاولة الصغيرة بحيث لا يغشى عينيه من قوته ولا يلقي ظلالاً على الجريدة.