بعد هذه الإضافات كلها لابد أن تبدو الغرفة أصغر مما كانت عليه.في الواقع لقد كبرت كما تكبر الصَدّفة حين تنمو قشرتها إلى داخلها،فأصبحت تشبه بتجهيزاتها الماهرة كابينة سفينة أو مقصورة نومٍ فاخرة في قطار، ولم تعد غرفة الخدم البسيطة التي كانت عليها.مع كل هذه التغيرات،احتفظت غرفة جوناثان حتى بعد مضي ثلاثين عاماً على إقامته فيها بخصائصها ومميزاتها في نفسه كونها،في الماضي،وبقاؤها في المستقبل،جزيرته الآمنة في هذا العالم المضطرب،حصنه المنيع وملجؤه وعشيقته،نعم عشيقته! فقد كانت تعانقه دائماً بحنان في كل مرة يعود إليها ليلاً، تدفئه وتحميه وتغذي روحه وجسده،كانت دائما هنا حين يحتاجها ولم تهجره أبداً! لقد كانت الشيء الوحيد في حياته الذي أثبت أنه يمكن الوثوق به،لذا فإن جوناثان لم يفكر مطلقاً بهجرها أو الانفصال عنها.حتى الآن، وبالرغم من بلوغه الخمسين من العمر ومعاناته في بعض الأحيان وهو يصعد هذه الأدراج الكثيرة الواقفة،ورغم تحسن أجره الذي أصبح يمكّنه من استئجار شقة حقيقية بمطبخ وحمام ومرحاض مستقلين،مع هذا وذاك فإنه بقى مخلصاً لعشيقته،بل إنه بدأ يعد العدة ليرتبط بها وترتبط به بأواصر أكثر عمقاً،يريد أن يوثق علاقتهما بحيث لا يتمكن أحد من إنهائها،وذلك بأن يدفع ثمنها، يشتريها،وقد وقّع فعلاً عقداً بهذا المضمون مع مالكتها السيدة لاسّال بقيمة خمسة وخمسين ألف فرنك جديد،دفع سبعة وأربعين ألفا منها،أما الاَلاف الثمانية المتبقية فإنها تُستحق آخر العام، بعد تسديدها تصبح الغرفة ملكه المطلق ولن يتمكن أحد أو شيء في العالم أن يفرّق أحدهما عن الآخر حتى يفرّق الموت بينهما...هكذا راحت الأمور كلها تسير على ما يرام حتى يوم جمعة من شهر أغسطس-آب من عام 1984 حين واجهته مشكلة الحمامة.
كان جوناثان قد أستيقظ منذ وقت قصير ،لبس شبشبه وثوب الحمام ليذهب ككل صباح إلى المرحاض المشترك. وكعادته قبل أن يفتح باب غرفته كان يلصق أذنه بالباب ويصيخ السمع ليتحقق من خلو الممر من الناس ،فهو لا يستسيغ مقابلة أحد من الجيران في الممر،وخصوصاً في الصباح وهو يلبس البيجاما وثوب الحمام،وبالتحدي وهو ذاهب إلى المرحاض.كان وجود المرحاض مشغولاً حين ينوي الدخول إليه أمراً في غاية الإحراج بالنسبة له،أما الأمر المرعب فهو توقعه مقابلة أحد الجيران أمام باب المرحاض، لقد حصل له هذا لمرة واحدة في صيف العام 1959 أي قبل خمس وعشرين سنة وحتى اليوم تجري القشعريرة في جسده عندما يتذكر التفاصيل:هذا الهلع المتبادل من نظرة الآخر،هذا الضياع المتبادل للخصوصية قبل الشروع بأمر معين يقتضي بطبيعته تلك الخصوصية،هذا التقدم والتراجع المتبادل:-أرجوك،من بعدك.-أوه،لا من بعدك سيدي،فأنا لست مستعجلاً على الإطلاق.-لا، لا تفضل أنت أولاً،إنني مصر على ذلك...وكل هذا الحديث بالبيجاما!لا،لم يكن يملك الرغبة إطلاقاً بالتعرض لمثل هذه المواقف مرة أخرى،وهو فعلاً لم يتعرض لمثلها منذ ذلك التاريخ بفضل احتياطاته الاستطلاعية .فبوساطته أذنه كان يستطيع أن يرى كل شيء خارج باب الغرفة! كان يميز ويعرف هوية كل ضجيج في الطابق كله، يعرف كل طقطقه وكل قرقعة وكل خرير وكل خشخشة ،بل أصبح يستطيع تأويل الهدوء! ولهذا،فإنه يعلم الآن علم اليقين،بعد هذه الثواني القصيرة من التنصّت خلف الباب،أن الممر خال من أي شخص،وأن المرحاض غير مشغول وأن الجميع مازالوا نياماً،فأزاح بيده اليسرى قفل الباب وأدار المقبض باليمنى،فتراجع المزلاج إلى الخلف وانفتح الباب.
بالكاد كان يهم بوضع قدمه المرفوعة على عتبة الباب الخارجية،وبدا فخده منثنياً متأهباً للخطو حين رأتها عيناه فجأة تجلس أمام بابه، حوالي عشرين سنتيمتراً بعيداً عن العتبة في ضوء الصباح الباهت الداخل عبر نافدة الممر الضيقة.كانت تقب بأرجلها الحمراء ذات المخالب،وريشها الرمادي الأملس على بلاط المدخل ذي اللون الأحمر القاني:حمامة!

كانت تميل برأسها إلى الجانب وتحدق بجوناثان بعينيها اليسرى،هذه العين الصغيرة كقرص مستدير ذي لون بني يتوسطه سواد،ملأته رعباً وهو يتأملها تقبع على جانب الرأس بدون رموش ولا حاجب،عارية تماما، موجهة بلا أي خجل نحوه ومفتوحة على نحو هائل.إلا أنه في الوقت نفسه ظهر في هذه العين شيء من العزلة والانكسار وقد بدت كأنها لا مفتوحة ولا مغلقة،كانت بكل بساطة تبدو خالية من الحياة كعدسة آلة التصوير التي تبتلع الضوء الخارجي كله ولا تدع شيئا ينعكس من داخلها إلى الخارج،لم يكن في هذه العين أي توهج أو شعاع خافت ولا حتى إشارة إلى أي شيء حي،كانت عيناً بدون نظرة وراحت تحدق بجوناثان.




.
.