لم يسبق له مطلقاً أن فعل شيئاً كهذا،إنه يتبول في هذا الشيء الجميل الأبيض النظيف الذي عادة ما يستخدم للاغتسال والجلي!إن مجرد التفكير بفعلته هذه يصيبه بالهلع! لم يكن يتصور أبداً أنه في يوم من الأيام سوف ينزل إلى هذا الدرك،أنه سوف يرتكب فعلاً مشيناً كهذا!والآن وهو يتأمل بوله يندفع دونما حياء ولا رادع ،يختلط مع الماء ثم ينزلق مقرقراً في البالوعة،وبعد أن أحس بانحسار الضغط عن أسفل بطنه،بدأت الدموع تنهمر من عينيه.لقد تملكه خزي كبير من نفسه.حين انتهى ترك الماء يجري لبعض الوقت ثم نظف الحوض بسائل مطهر عدة مرات حتى تأكد أن كل آثار هذا الفعل الشائن قد امَّحت.مرة واحدة لا تحسب-قال هذا بصوت خفيض كما لو أنه يريد الاعتذار لغرفته،لنفسه أو لحوض المغسلة-مرة واحدة لا تحسب،لقد حصل هذا تحت ظروف اضطرارية،وهوبكل تأكيد لن يتكرر مرة أخرى...

لقد هدأت روحه الآن.إن فِعْل التنظيف وإعادة قارورة سائل التعقيم إلى مكانها وملمس ممسحة التنظيف-هذه الأفعال التي طالما مارسها في أوقاتِ ضِيقه في الماضي-أعادت إليه روحه العملية.فنظر إلى الساعة التي كانت قد تعدت السابعة والربع،في هذا الوقت يكون عادة قد انتهى من حلاقة ذقنه وبدأ بترتيب سريره،إلا أن تأخره مازال محدوداً،وسوف يتمكن من التغلب عليه فيما لو استغنى عن فطوره اليوم،بهذا فإنه سوف يسبق برنامجه اليومي بسبع دقائق.المهم أن يتمكن من مغادرة الغرفة في الساعة الثامنة وخمس دقائق على أيعد تقدير،لأن عليه أن يكون في البنك في تمام الساعة الثامنة والربع.إنه لايعرف بعد كيف سيتمكن من تحقيق هذا الأمر،إلا أنه مازال يملك فرصة أخيرة تنتهي بعد ثلاثة أرباع الساعة،وهي مدة كافية.
إن ثلاثة أرباع الساعة تشكل فترة طويلة حين يكون المرء قد رأى الموت بعينيه للتو،ونجا من أزمة قلبية في آخر لحظة،بل إن هذه الفترة تبدو أطول بكثير حين يتخلص من الضغط ايضاً،الضغط المستبد للمثانة الممتلئة.لقد قرر أن يتصرف كما لو أن شيئاً لم يكن وأن يستمر بروتينه اليومي،ففتح صنبور الماء وبدأ يحلق ذقنه.
أثناء الحلاقة بدأ يفكر بشكل عنيق:جوناثان نويل،قال لنفسه،لقد خدمت في الهند الصينية مدة سنتين كاملتين وتغلبت أثناء ذلك على أهوال كثيرة!فإذا استجمعت الآن كل شجاعتك وتفاؤلك،حين تتجلد ويواتيك الحظ فربما تنجح في الهروب من غرفتك.ولكن...ماذا لو نَجَحْتَ فعلاً في الهرب؟ماذا لو تمكنت فعلاً أن تتعدى هذا الحيوان الشنيع وبلغت بيت الدرج دونما إصابات ونجحت في الوصول إلى برّ الأمان؟ سوف يكون بوسعك الذهاب إلى العمل وسوف تقضي اليوم سليماً معافى، ولكن ما الذي تفكر بفعله بعد ذلك؟ إلى أين ستذهب اليوم مساءً؟ أين ستقضي ليلتك؟فكونه لايريد رؤية الحمامة مرة أخرى بعد أن ينجو منها هذه المرة،وكونه لن يستطيع التعايش معها تحت سقف واحد لا يوما ولا ليلة ولا حتى ساعة واحدة،كانت بالنسبة له مواقف مبدئية راسخة لا لبس فيها ولا رجعة عنها.لهذا يتوجب عليه أن يهيئ نفسه لقضاء الليلة وربما الليالي التالية،في نزل ما،هذا يعني أن عليه أخد آلة الحلاقة وفرشاة أسنانه وغيارات داخلية وخارجية معه،بالإضافة إلى دفتر شيكاته وربما دفتر التوفير أيضاً.إنه يملك ألفاً ومئتي فرنك في حسابه الجاري،هذا يكفيه لمدة أسبوعين شرط أن يجد نزلاً رخيصاً،وإذا كانت الحمامة ما تزال تفرض حصارها على غرفته فلا بد له حينئذ أن يستعمل المال الموجود في حساب التوفير.في حساب التوفير يوجد ستة آلاف فرنك،إنه مبلغ كبير يمكّنه من الإقامة في الفندق شهوراً طويلة،ثم هناك مرتّبه الشهري من البنك البالغ ثلاثة آلاف وسبعمئة فرنك صافية بعد الضرائب.ولكن يتوجب عليه من طرف آخر دفع مبلغ الثمانية آلاف فرنك إلى السيدة لاسّال في آخر العام كدفعة نهائية لثمن الغرفة،غرفته...هذه الغرفة التي لن يكون بإمكانه بعد الآن السكن فيها!كيف سيستطيع أن يطلب من السيدة لاسّال إمهاله في تسديد الدفعة الأخيرة؟فهو لن يستطيع طبعاً أن يقول لها:سيدتي،إنني لا أستطيع تسديد الدفعة الأخيرة البالغة ثمانية آلاف فرنك،فأنا أقيم منذ شهور في الفندق لأن الغرفة التي اشتريتها منك تحاصرها حمامة!لا، إنه لن يستطيع قول شيء كهذا...وهنا تنبه جوناثان فجأة إلى أنه يمتلك خمس ليرات ذهبية تساوي كل منها مالا يقل عن ستمئة فرنك-كان قد اشتراها عام 1956 خلال الحرب الجزائرية خوفاً من التضخم الاقتصادي-يجب عليه في كل الأحوال ألا ينسى أن يأخذها معه، كما أنه يملك أيضاً سواراً ذهبياً كان يخص أمه،وجهاز راديو وقلماً فضياً ثميناً كان قد تلقاه هدية هو وكل موظفي البنك بمناسبة أعياد الميلاد.فإذا تمكن من بيع كل هذه الكنوز فسوف يكون بإمكانه ،بتقشف شديد،الإقامة في فندق وتسديد دفعة الثمانية آلاف فرنك للسيدة لاسّال،واعتباراً من أول شهر كانون الثاني-يناير سوف يكون الوضع أفضل،ففي ذلك الوقت سوف تصبح الغرفة ملكاً خالصاً له ولن يكون عليه بعد ذلك تسديد إيجارها الشهري،
وربما تموت الحمامة قبل انقضاء فصل الشتاء.كم تستطيع الحمامة أن تعمر؟سنتين،ثلاث سنوات ،عشر سنوات؟وماذا لو كانت هذه الحمامة أصلاً كبيرة في السن؟
ربما تموت خلال أسبوع؟ربما تموت اليوم...
بل ربما ما جاءت هنا إلا لتموت...
انتهى جوناثان من حلاقة ذقنه وفتح البالوعة ثم غسل الحوض ،سدّ البالوعة وملأ الحوض بالماء مرة اخرى وغسل جدعه الأعلى وقدميه‘ ثم نظف أسنانه بالفرشاة،حرر البالوعة من جديد وغسل الحوض وعصر الممسحة،قام بترتيب سريره‘وتناول حقيبة قديمة من الكرتون المقوى من تحت الخزانة كان يستعملها لحفظ الغسيل الوسخ الذي يأخده مرة في الشهر إلى صالون الغسيل بالخدمة الذاتية.أفرغها من محتوياتها ووضعها على السرير،إنها الحقيبة ذاتها التي كان يحملها عام 1942 مسافراً من شارنتون إلى كافايون، والتي حملها عام 1954 عندما أتى إلى باريس.حين رأى جوناثان هذه الحقيبة ترقد على سريره،وهو يملؤها بملابس نظيفة بدل المتسخة،وبعض الأحذية الخفيفة ومواد التنظيف والمكواة ودفتر الشيكات والأشياء الثمينة كما لو أنه يهيئ نفسه للسفر،بدأت الدموع تترقرق في عينيه،ليس من الخزي هذه المرة،بل من القنوط واليأس.لقد تملكه شعور كانما يد أمسكت به وألقته ثلاثين سنة إلى الوراء،كما لة أنه فقد ثلاثين عاماً من عمره.